
بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، تحضر مناسبة ملكية ذات دلالات رمزية عميقة، تشكل فرصة للتأمل في المسار التنموي الذي قطعه المغرب تحت قيادة الملك محمد السادس، وخاصة على مستوى الاقتصاد الوطني الذي شهد تحولات جوهرية، منذ اعتلائه العرش سنة 1999. فمنذ بداية حكمه، جعل الملك محمد السادس من الإصلاح الاقتصادي خيارا استراتيجيا لبناء مغرب جديد، أكثر انفتاحا وقدرة على التنافس، وأشد عدلا في توزيع الفرص والموارد.
لقد تميزت مرحلة حكم الملك محمد السادس بتبني رؤية اقتصادية طموحة تستند إلى تعزيز البنيات التحتية الكبرى، وتنويع الشراكات الدولية، وتوسيع قاعدة الاستثمارات، مع إيلاء اهتمام خاص للرأسمال البشري والعدالة المجالية. وقد كانت الانطلاقة من مشاريع مهيكلة ضخمة، مثل ميناء طنجة المتوسط، الذي يعتبر أحد أكبر الموانئ في البحر الأبيض المتوسط، وقد ساهم في إدماج المغرب في سلاسل التجارة الدولية وربطه بمنظومة لوجيستيكية عالمية. كما تم إطلاق مشاريع سككية وطُرقية هامة، من أبرزها القطار فائق السرعة «البراق»، الذي اختصر المسافات الزمنية بين مدن الشمال، وشكل قفزة نوعية في النقل العمومي والبنيات التحتية.
وتزامن هذا التطور في البنيات التحتية مع سياسة طموحة لجذب الاستثمارات الأجنبية، حيث سعت المملكة إلى خلق مناخ أعمال جذاب، من خلال تحسين المنظومة القانونية، وتبسيط المساطر الإدارية، وتحفيز المستثمرين عبر مناطق صناعية متخصصة، مثل المنظومات الصناعية في قطاع السيارات والطيران بطنجة والدار البيضاء. وأتاح هذا التوجه خلق الآلاف من مناصب الشغل، ورفع نسبة الصادرات المغربية في قطاعات ذات قيمة مضافة عالية.
في سياق مواز، عملت الدولة، بتوجيهات ملكية، على تعزيز التوازنات الماكرو-اقتصادية، من خلال الإصلاح الجبائي، ومراقبة العجز في الميزانية، وتحسين تصنيف المغرب الائتماني لدى المؤسسات الدولية. كما استطاعت المملكة أن تحافظ على استقرارها الاقتصادي، رغم الأزمات الخارجية، وعلى رأسها الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، وأزمة جائحة «كوفيد-19»، حيث أبانت الدولة المغربية عن جاهزية لوجيستيكية واجتماعية، تجسدت في إحداث صندوق خاص لتدبير الجائحة بأمر ملكي، وتوفير مساعدات مباشرة للفئات المتضررة، ودعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة للحفاظ على مناصب الشغل.
ولم يكن الورش الاقتصادي في عهد محمد السادس مقتصرا على البنية التحتية والاستثمار فقط، بل امتد إلى إصلاحات اجتماعية عميقة ذات أثر اقتصادي مباشر، من أبرزها ورش الحماية الاجتماعية، الذي أُعطي انطلاقته في خطاب العرش لسنة 2020، ويهدف إلى تعميم التغطية الصحية والتقاعد والتعويضات العائلية لجميع المواطنين، بمن في ذلك العمال غير المهيكلين والفلاحين والحرفيين. هذا المشروع، الذي يُعد من أضخم المشاريع الاجتماعية في تاريخ المغرب، من شأنه أن يشكل ثورة في علاقة الدولة بمواطنيها، عبر تقليص الهشاشة، وتحفيز الطلب الداخلي، ودعم الاستهلاك الوطني كرافعة للنمو.
وعلى مستوى الاقتصاد الأخضر، لم يتأخر المغرب في استشراف المستقبل، إذ أصبح في طليعة الدول الرائدة في الطاقات المتجددة. فمنذ تدشين محطة «نور» بورزازات، الأكبر من نوعها في العالم، إلى الاستثمارات الضخمة في طاقة الرياح والطاقة الشمسية، تبنى المغرب خيارا استراتيجيا يقوم على تقليص التبعية الطاقية، وتثمين الموارد الطبيعية، وتحقيق الاستدامة. وهو التوجه الذي جعل البلاد محط اهتمام شركاء دوليين كبار في مجالات الانتقال الطاقي، خاصة من أوروبا، في وقت أصبحت فيه قضية المناخ والطاقات النظيفة تحتل موقعا مركزيا في النقاشات الاقتصادية العالمية.
وقد واكب هذا التحول الاقتصادي انفتاح دبلوماسي واسع، من خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية جنوب-جنوب، سيما مع الدول الإفريقية، وهو ما ترجمته الزيارات الملكية المتعددة إلى عواصم القارة، وتوقيع اتفاقيات شراكة استراتيجية في مجالات البنيات التحتية والفلاحة والماء والطاقة. كما تعزز موقع المغرب على الخريطة الاستثمارية العالمية، بانضمامه إلى تجمعات اقتصادية مهمة، وسعيه إلى تنويع الأسواق، والانفتاح على آسيا وأمريكا اللاتينية، وعدم الاقتصار على أوروبا كشريك تقليدي.
وفي ميدان الفلاحة، تم إطلاق مخططات وطنية طموحة، مثل «مخطط المغرب الأخضر» و«الجيل الأخضر»، والتي هدفت إلى تحديث القطاع الفلاحي، وتثمين الإنتاج، وتحسين دخل الفلاحين، وتسهيل ولوجهم إلى التمويل والتأمين الفلاحي. وهو ما ساهم في جعل الفلاحة المغربية أكثر مقاومة للتقلبات المناخية، وأكثر اندماجا في سلاسل التصدير الدولية.
أما قطاع السياحة، فقد شهد، بفضل الاستقرار السياسي والبنيات التحتية المتطورة، انتعاشا ملحوظا، حيث أصبح المغرب وجهة مفضلة لملايين السياح سنويا، خاصة من أوروبا، وهو ما ساهم في خلق مناصب شغل جديدة، وتنشيط الدورة الاقتصادية المحلية في مختلف المدن، من مراكش وفاس إلى الداخلة وأكادير.
ورغم التحديات المتعددة، خاصة تلك المرتبطة بارتفاع نسب البطالة وسط الشباب، وعدم التوازن بين الجهات، فإن السنوات الأخيرة عرفت تركيزا واضحا على العدالة المجالية، من خلال «الجهوية المتقدمة»، والمشاريع الملكية التي تهم العالم القروي والمناطق النائية. وبرزت مبادرات نوعية، مثل البرنامج الوطني لتقليص الفوارق المجالية، ومبادرة مليون محفظة، ومشاريع فك العزلة عن القرى، التي تهدف إلى تقليص الفجوة الاقتصادية بين المركز والهامش.
في المحصلة، فإن الاقتصاد المغربي في عهد الملك محمد السادس حقق تقدما ملموسا، رغم التحديات العالمية والداخلية، واستطاع أن ينتقل من اقتصاد يعتمد بالأساس على الفلاحة والأنشطة التقليدية إلى اقتصاد أكثر تنوعا، وأكثر قدرة على الاندماج في السوق العالمية. وما زالت الآفاق المستقبلية واعدة، خاصة في ظل مشاريع استراتيجية كبرى، مثل مشروع أنبوب الغاز المغربي- النيجيري، وتطوير صناعة الهيدروجين الأخضر، ومخططات تسريع التصنيع، التي تعِد بجعل المغرب فاعلا اقتصاديا وازنا في محيطه الإقليمي والدولي، تحت قيادة ملك آمن دائما بأن التنمية الاقتصادية هي أساس العزة والكرامة والسيادة.





