شوف تشوف

الرئيسيةبانوراما

البناؤون في المغرب من هم وكيف يعيشون ومن أين يأتون؟

تعد مهنة البناء من المهن الشاقة التي تتطلب الصبر والقوة، إذ يعاني أصحاب هذه المهنة من ساعات العمل الطويلة مقابل أجور بخسة، في غياب تام لأدنى شروط السلامة، وكذا افتقارهم للتأمين. «الأخبار» سلطت الضوء على هذه الفئة، لتنقل لكم قصص «عمال بناء» أفنوا حياتهم وأنهكوا أجسادهم فكان المقابل الفقر والتهميش وإقصاء للحقوق.. المزيد من التفاصيل في هذا التحقيق.
انطلقت «الأخبار» من مدينة فاس.. أغلب أوراش البناء هنا غابت عنها شروط السلامة، عمال معلقون في الهواء على أخشاب متآكلة، وآخرون يحملون أكياسا من الإسمنت أثقلت كاهلهم، كل العمال امتنعوا عن الإدلاء بتصريحات للجريدة خوفا من أرباب العمل.. عامل واحد أبدى عزمه على كشف المستور، لكن طلب منا لقاءه في بيته مساء بعد الانتهاء من عمله، بعيدا عن أعين الجواسيس، حسبه.

فاس أو الرباط.. المعاناة واحدة
داخل منزل متواضع ينطبق عليه البيت الشعري لزكي قنصل القائل «يبني القصور وكوخه خرب ** ساءت حياة كلها تعب» جلس أحمد ذو الخمسين سنة وسط أسرته المكونة من ثمانية أفراد، وبجانبه زوجته فاطمة التي انهمكت في صب الشاي والترحيب بنا، وتوجيه صفعة بين الفنية والأخرى لابنتها الصغرى التي لم تكف عن الشغب.
صرح أحمد لـ «الأخبار» أنه يزاول هذه المهنة منذ ثماني عشرة سنة كمساعد بناء مقابل سبعين درهما لليوم، في ظروف عمل جد صعبة في غياب للتأمين والتعويض عن الساعات الإضافية، إذ يستهل العمل من الساعة السادسة صباحا حتى الرابعة زوالا، وفي كثير من الأحيان يتم تأخير أجرة العمال وأحيانا يتم الاحتفاظ بها من طرف مشغليهم، حسب قوله.
ويضيف أحمد أن أرواحهم مهددة، خصوصا بعد تعرضه رفقة مجموعة من زملائه في العمل إلى حادث سقوط من الطابق الثالث، لحسن حظهم أصيبوا بجروح وخدوش بسيطة. يقول أحمد باسما «وحتى يفلت رب العمل من واجب نقلنا إلى المستشفى اكتفى بشراء دجاج محمر ومشروبات غازية للجميع»، وحسب أحمد، فإن صاحب الورش عبر عن مواساته لهم بقوله «الحمد لله على سلامتكم وبصحتكم العشاء».
فجأة أوقف أحمد حديثه معنا، وشرع في طي سرواله حتى بلغ ركبتيه فكشف لنا عن مشهد مؤلم، دماميل تميل إلى الزرقة ويسيل منها القيح، مما جعلنا نتساءل عن السبب فرد قائلا «قبل اشتغالي بمهنة البناء كنت حارسا ليليا بمجمع مولاي عبد الله بالرباط، وفي أحد الأيام وأنا أهم بقطع الطريق دهستني شاحنة قادمة بأقصى سرعتها، سببت لي كسرا في كلتا قدمي، مما نتج عنه عجز مؤقت. ولازلت لحد الآن أعاني من الألم عند المشي أو عند حمل الأثقال في العمل، لأني لم أقم بعد بإزاله المسامير المعدنية التي ثبتت لي أثناء العملية الجراحية».
وختم حديثه معنا بعبارة حزينة وصارخة قائلا:»قبل تفكير السي بنكيران في الرفع من سن التقاعد هل فكر أن لدينا تقاعدا أصلا؟».

بين البطالة والعمل الموسمي
في اليوم الثاني وأثناء تجولنا بأحد الأوراش المحيطة بفاس، صادفنا عامل بناء كان بصدد البحث عن عمل طلبنا محاورته، فلم يتوان للحظة عن كشف معاناته.
إبراهيم (اسم مستعار)، عامل بناء في الأربعينات من عمره، متزوج وأب لثلاثة أطفال يشتغل في البناء لمدة تزيد عن العشرين سنة كشف خلال حديثه لـ «الأخبار» أنه لا يتوفر على تغطية صحية كما أن أجره كعامل بناء محترف لا يتعدى مئة أو مئة وعشرين درهما في اليوم، ويضيف أنه قضى حياته متجولا في عدة مدن مغربية، أنه باستكمال المشروع ينتهي عمل البنائين ليجدوا أنفسهم أمام البطالة وبدون تعويضات» يقول إبراهيم.
وذكر للجريدة أنه تم تسريحه أخيرا، من العمل الذي كان يشتغل فيه كمشرف على العمال بأحد الأوراش بالبيضاء بدون سبب، مما جعله يفكر في رفع دعوى قضائية ضد مشغله، لكن أحد زملائه نصحه بالتراجع عن قراره بدعوى طول المسطرة القضائية وتكلفة الملف. كما أوضح أن أغلب عمال البناء يعانون من نفس الأوضاع لكنهم يفضلون التزام الصمت والتنازل عن حقوقهم، إذ تخيفهم جملة المشغلين «إلا مبغتيش تخدم سير بحالك».
إلى جانب هذه المعاناة يقول إبراهيم، إنهم معرضون لعدة أمراض في هذه المهنة، نظرا لاستنشاقهم غبار الإسمنت ومواد أخرى لساعات طويلة وبشكل يومي، في غياب لمعدات السلامة من قفازات ونظارات عمل تحمي حواسهم من التلف، أضف إلى ذلك خطر السقوط في أية لحظة.

غموض التعويض عن حوادث الشغل والمرض
قادتنا أزقة الحي الحسني بالبيضاء إلى بيت عبد الرحيم عامل بناء سابق بأحد الأوراش الكبرى بالبيضاء، تعرض لحادث شغل سنة 2014 ليجد نفسه على كرسي متحرك بدون عمل.
عبد الرحيم أب لطفلين بدأ مهنة البناء سنة 1994، اشتغل في عدة أوراش آخرها مع شركة مختصة في بناء السكن الاقتصادي بالدار البيضاء.
يحكي لـ «الأخبار» أنه وقع عقد عمل مدته ستة أشهر مع شركة مختصة في بناء السكن الاقتصادي، وخلال فترة اشتغاله تعرض لحادث سقوط من الطابق الثاني في علو يصل إلى عشرة أمتار بعدما فقد توازنه، مما سبب له ثلاثة كسور بالعمود الفقري.
يضيف عبد الرحيم أن الشركة تكلفت بمصاريف علاجه طيلة رقوده بالمستشفى بالبيضاء. لكن أثناء فترة خضوعه للترويض واجهته عدة مشاكل، إذ رفضت المصحات استقباله وإخضاعه للترويض الذي يمنحه له التأمين، بدعوى عدم تعاملهم مع شركة التأمين التي يخضع لها.
كما كشف لـ «الأخبار» أن شركات البناء تسجل فقط فئة محدودة من العمال في لائحة التأمين وبأسماء مجهولة وعندما يتعرض أحد العمال لحادث شغل حينها يتم إدراج هويته في اللائحة. أما في ما يخص الضمان الاجتماعي فيقول إن أغلب أوراش البناء لا تخضع عمالها لأي ضمان، وحتى إن وجد فهو يكون من حق المشرف على العمال وأربعة من معارفه، حسب قوله.
وفي سؤالنا له عن حالته المادية، يقول إن شركة التأمين تخصص له مبلغا شهريا لا يكفي لتلبية حاجيات أسرته الصغيرة، وكذا مصاريف الترويض، كما ذكر أنه لا يعلم إن كان المبلغ المخصص له دائما أو سينقطع في يوم ما، موجها رسالة عبر «الأخبار» يناشد فيها المسؤولين، تطبيق القانون ووقف التلاعبات التي يعرفها القطاع.

الحبيب حاجي: «القانون يعجز عن إنهاء فوضى العمل بقطاع البناء»
صرح الحبيب حاجي لـ»الأخبار» أن فئة عمال البناء تعيش فعلا أوضاعا مزرية لا يحترم فيها القانون، والسلطات المحلية لا تقوم بواجبها ودورها القانوني كما السلطات القضائية (وكلاء الملك) ومفتشو الشغل، إذ يتركون العمال في مصير مجهول. ومن أهم المشاكل التي تصادف هؤلاء هي مشكلتي انعدام التأمين في حوادث الشغل، وعدم تسجيلهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
وبصفته محامي وممارس للقانون يقول حاجي، إنه اطلع على كم هائل من ملفات حوادث الشغل ذات الصلة بهذه الفئة من العمال المشتغلين في البناء بجميع أصنافه، فتبين له أن أكثر من خمسين في المئة بدون تأمين، مما يعرض العامل لضياع حقه في التعويض عن الحادث الذي يتعرض له.
بالإضافة إلى أن أغلب المقاولات سواء الصغرى أو المتوسطة، تتهرب من التأمين على جميع العمال الذين يشتغلون لديهم، بل لا يؤمنون على أي أحد. كما أن المقاولات تكون بدون مقر معروف حتى لا يتجه العامل للحجز على الأصل التجاري والآليات لبيعها في المزاد العلني لاستيفاء التعويض، ويضيف أن هذه المقاولات لايكون ممثلها القانوني معروفا باسمه الكامل نفس الشيء بالنسبة للمالك، إذ غالبا ما يكون رئيس الورش هو من يحتك بالعمال، وبالتالي تكون كل منافذ الوصول إلى الحق موصده.
لم يقف الحبيب عند هذا الحد بل كشف لنا أن هناك حالات أخرى عندما تكون بعد المقاولات المتوسطة والكبرى هي صاحبة الورش، فإنها تتعاقد مع مقاول لتنفيذ الأشغال ويشار في العقد أن هؤلاء العمال تابعون لفلان وتنجز معهم عقود على الأساس، لجهلهم بالقراءة أو لجهلهم بالواقع أو نصبا عليهم بإيهامهم أن هذه المقاولة تابعة للأم.
أما فيما يخص موضوع التسجيل في صندوق الضمان الاجتماعي، يرى حاجي أن هذا الاشكال يتقاسم تبعاته كل من الباطرونا والعمال والنقابات، إذ هناك مئات الآلاف من العمال بدون ضمان اجتماعي نتيجة امتناع المشغل عن التصريح بعماله لدى الصندوق، وعدم متابعته من طرف النيابة العامة وأدائه للغرامات التي تعرف ضعفا، إذ تتراوح بين خمسين درهما وخمس مئة درهم، وهو ما يشجع التملص يقول.
كما أوضح لنا أن صندوق الضمان الاجتماعي يركز كثيرا على المشغل، والأمر غير المعروف لدى العمال هو أنه يحق للعامل التصريح بنفسة وتسجيل مشغله في حالة امتناعه، وهذا ما يشير إليه الفصل 15 من قانون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، لذا فإن العامل يتحمل المسؤولية في عدم التصريح بنفسه وبمشغله، والعمل القضائي المغربي دائما ما يرفض التعويض لوجود إمكانية لدى العامل لممارسة هذا الحق.
وفي الأخير قال ان هناك تقصيرا لعمل النقابات في مساعدة العمال على ممارسة حقهم، سواء بداخل المناطق الصناعية أو في أوراش العمل والبناء. وطالب من خلال «الأخبار» بسن سياسة تحسيسية في هذا الاتجاه، وإعطاء معلومات تخص الإجراءات، وخلق خلايا خاصة بهذا الحق بالتنسيق مع السلطات المحلية. بالإضافة إلى النقابات التي يمكنها النجاح في هذا المسعى بخلق شراكات وتنسيقات مع نقابة المشغلين والباطرونا، دون إغفال للسلطات المحلية، التي يسهل عليها معرفة إن كان العمال منخرطين في الضمان الاجتماعي أو مؤمن عليهم، وفي حالة الخرق يجب إبلاغ سلطات العمالة ومفتشية الشغل والنيابة العامة، لا تخاذ إجراءاتها الحمائية.
ويضيف قائلا «خلاصة القول هناك فوضى عميقة، يعجز القانون عن ترتيبها لأنها تمس الهياكل الاجتماعية وتركيبة السلطة وعلاقات الفساد، وعدم صرامة القوانين».

أخصائي طب الشغل: «أغلب العمال يجهلون طبيعة الأمراض المهنية»
صرح طارق السعيد، أخصائي في طب الشغل وخبير في الصحة والسلامة لـ «الأخبار»، أن عمال البناء معرضون للإصابة بعدة أمراض نتيجة استعمالهم لمواد بناء تحمل مواد سامة لها خطورة على صحتهم ومن بين هذه الأمراض مرض إكزيما الجلد والربو ومشاكل أخرى في الجهاز التنفسي.
وأشار إلى أن العمال الذين يشتغلون في أوراش بناء خارج مقر إقامتهم تزيد فرص الإصابة لديهم بأمراض المعدة والأمعاء، تنتج عن سوء التغذية واستهلاك وجبات سريعة وعدم انتظام ساعات الأكل.
ويعتبر طارق السعيد أن هذه الأمراض تدخل ضمن خانة الأمراض المهنية التي تتحمل فيها الشركة المشغلة المسؤولية، لكن أغلب العمال يجهلون ذلك مما يجعل حقوقهم مهدورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى