الرئيسيةبانوراما

البيولوجيا في خدمة العنصرية

د. حميد لشهب- النمسا

 

نُصادف في كتاب «أنماط البشر» لجليدون Gliddon وكلارك نوط Clark Nott (1854) رسما توضيحيا يوحي بأن سود البشرة من الناس يقعون في رتبة بين الإغريق والشامبانزي. وقد حاول البيولوجيون الغربيون بكل ما أوتوا من «جهل» البرهنة على هذا الأمر بأدوات «علمية»، بفرضيات يوحي ظاهرها بأنها علمية ومؤسسة على التجريب والقياس إلخ.. وهذا ما يُصطلح عليه بـ«العنصرية العلمية». والغريب في الأمر أن مثل هذه الادعاءات لاقت رواجا كبيرا بين العلماء، إلى يومنا هذا، على الرغم من تقلص الاعتقاد في مصداقيتها وعلميتها حاليا.

تطورت العنصرية «العلمية» بين 1880 و1914، ويمكن اعتبارها اليد اليمنى لتبرير الاستعمار الأوروبي واضطهاد واسترقاق أجناس بشرية أخرى. وعرفت هذه العنصرية ذروتها بين 1920 و1945. ومن الطرائف التي يمكن إدراجها في الخرافات العلمية الأوروبية أن جورج دي بوفون (1707- 1788) ويوهان بلومنباخ (1752- 1840) كانا يعتقدان بأن آدم وحواء كانا من بلاد القوقاز، أي من جنس أبيض. كما دافعا عن فكرة كون كل الأعراق الأخرى ناتجة عن تدهور عوامل بيئية، كالشمس وسوء التغذية ونمط الحياة.

لم تنته العنصرية «البيولوجية»، بل هناك إلى اليوم، بعض الجهات الداعمة لها، بما في ذلك بعض الجرائد والمجلات: الجريدة البريطانية مانكايند ومجلة «تَفوّق الجنس الأبيض» ومجلة «العنصرية العلمية» وغيرها كثير. ولربما نَعُدُّ جيمس اتسون، عالم الأحياء المشهور، الحائز على جائزة نوبل لاكتشافه التركيب البنيوي للشفرة الوراثية من هذا الاتجاه. ومن الكتب التي لاقت إقبالا كبيرا في أمريكا وبريطانيا هناك كتاب «منحنى الجرس» لتشارلز مواري وريتشارد هيرمستين. ومنحنى الجرس نموذج بياني يعبر عن انقسام المجتمع إلى شكل يشبه «الجرس»، فنخبة المجتمع هي قمة الجرس الضيقة ودهماء الناس يكثر عددهم وتتسع قاعدتهم كلما هبطنا للأسفل. حصر الكاتبان السود والمهاجرين في قاع الجرس ورفعا النخبة المسيحية البيضاء إلى قمته. كما ألقيا باللوم، في ما يتعلق بازدياد قاعدة المهمّشين، على برامج الرعاية الاجتماعية التي تشجع في نظرهما الفقراء والمهاجرين على المزيد من الكسل والتقاعس.

حاول هذا الكتاب إثبات أن تخلف السود أمر فطري وأنه لا فائدة من محاولة تطوير مواهبهم أو زيادة ذكائهم.

يرى بلومين، في كتابه «كيف تجعل منا الجينات ما نحن عليه» (2019)، أن المرء يرث شكله الجسدي وقوته البدنية من والديه، تماما كما يرث طباعه وخصوصياته النفسية والعقلية. بل يؤكد أن الجينات هي التي تحدد كل هذا. والخلاصة التي يصل إليها هي أن الشخص يرث 50 في المائة من قدراته العقلية جينيا و50 في المائة تحددها البيئة والتربية.

ولا يخلو كتاب بلومين هذا من نفحة سياسية عنصرية تخدم الجناح اليميني العنصري، الذي يؤكد على الموروث الجيني كعامل مهم في ذكاء وشخصية الأفراد. ومن نتائج هذا مثلا دفاع اليمين عن سياسة تعليمية تقوم على مبدأ تعليم الأفضل جينيا وإهمال الأقل حظا في وراثة جينات جيدة، أي ما يفوق الميز العنصري وحتى الأبرتهايد، ليعانق الأيديولوجية النازية، وما هذه الأخيرة في التاريخ البشري إلا نتيجة للسياسات اليمينية العنصرية.

الحصيلة هي أن ما يجب فهمه هو أن أصحاب نظريات العلم «العنصري» لم يلتجئوا للعلم للبرهنة على عنصريتهم، بل انطلقوا من عنصريتهم ليبرهنوا على اختلاف الأجناس، وبالتالي دعم أسس التمييز العنصري. وكما كان عليه الحال بالأمس، فإن الأمر يتعلق في عصرنا هذا بالرغبة العميقة في الاستمرار في السيطرة على العالم من طرف البيض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى