حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأي

التعريف بجودت سعيد ومدرسة اللاعنف (9- 12)

بقلم: خالص جلبي
إنه يعيش بدراهم معدودة في الشهر ويرقع ثوبه ويخصف نعله وأحيانا يربطه بالأسلاك، ويلبس القليل ويعتمر (القلبغ) الشركسي، الذي يذكرك بأنه من أهل الكهف، ويحلب بقرته ويربي نحله في هضبة الجولان، فيعطي أهله أكثر الدخل ويعيش على الأقل القليل وهو دخل متواضع، قبل أن يغادر نهائيا إلى أرض العثمانيين. وباختصار كان يعيش فقيرا بيده وبإرادته، وكان يمكن أن يأخذ عقدا مرفها من السعوديين الذين ألحوا عليه بالقدوم، ولكنه قال لي: «لو ذهبت إلى هناك لما نموت، ووصلت إلى ما وصلت إليه من تخوم الفكر الحالية»، هكذا يقول وهي حكمة.
جودت سعيد كأنه ليس من أهل الدنيا، وأبرز ما فيه حبه للعلم بدون حدود. يركب دراجة قديمة وبيته غرفتان متواضعتان، إحداهما مليئة بالكتب. وإذا لقي الناس أكرمهم وهش في وجوههم، وإذا تحدثوا عن العقارات والأموال أمسك. وعندما كتب لمجلة «المجلة» وسألوا عن حسابه ولم يكن له حساب، استغنى عن تلقي المكافأة المالية، حتى تدخلت زوجتي على الخط، وقالت: «الرجل يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون، ويحتاج إلى الدواء وتذكرة السفر»، فدفعوا له بعد مرور أكثر من سنة. وكتب لهم بذلك سنة كاملة، بدون مكافآت على مقالاته. وأشار عبد العزيز الخميس، رئيس تحرير مجلة «المجلة»، يومها إلى ذلك.
جودت سعيد إن تحدث الناس بالأفكار اشترك، وإن تحدثوا عن طعام ومتاع، حول الحديث إلى التاريخ والفلسفة، وإلا سكت وامتنع عن الكلام. فدماغه مبرمج على موجة الأفكار فقط، مثل الراديو الذي لا يفتح إلا على موجة محددة. فلا أحب على قلبه من الفكر والعلماء، ولا أبغض إليه من الهذرمة وتضييع الوقت، والحديث في اللباس والعقارات والأموال والتافه من الأمور. ولم أجده إلا قارئا أو متحدثا، وعنده قدرة أن يتحدث عشر ساعات متواصلة بدون شرب قدح ماء. وفي يوم أخذته إلى منطقة الصبورة بدمشق من أجل شراء قطعة أرض وبناء بيت فيها، ثم التفت لأجد الرجل وقد وضع أختيه بجانبه، وهو يشرح لهما كتاب «شروط النهضة». وعرفت يومها أنه يجب أن لا يستشار في أمور الدنيا، لأنه ليس من أهل الدنيا.
وسوف يغادر جودت هذا العالم فيذكره التاريخ، مثل سبينوزا وإيراسموس من الفلاسفة الإنسانيين. وهاجمه الكثير، ولكنه يقابل السيئة بالحسنة. ولربما يكتشف فكره، بعد موته بقرن أو قرنين، لقد كان هنا رجل عظيم يذكرك بعظمة الله والكون، إن اجتمعت به وتحدث إليك.
وأثناء اجتماعي به في مونتريال المدينة الكندية، في خريف عام 2003م، قلت له: «ربما نفيد القارئ، لو شرحت لنا باختصار عن كتبك وفلسفتك ونظرتك لمستقبل العالم الإسلامي». فكتب لي بعض الأوراق، وهو كعادته لا يراسله أحد إلا أجابه، ومن مشى إليه أتاه هرولة، وما نطق أحد إلا أصغى إليه بدقة وباهتمام، وكأنه طفل وهي سمة الفيلسوف الإنسان، عندما يحمل روح الدهشة وحب الاستطلاع ويريد معرفة كل شيء.
لقد بلغ الرجل من العمر الشيخوخة ووهن العظم منه، واشتعل الرأس شيبا، ولكنه ما زال نشيطا، على الرغم من عملية على المعدة أراحته من القرحة بعد اختلاط. وهو يعيش أقرب إلى الطبيعة، قليل الطعام، كثير الوعظ، نشيطا في الحديث. يستيقظ كل يوم قبل الفجر، فيكتب ويقرأ في كراسات كثيرة يحملها، وكان كتاب «العقلية العملية» لبوردو، الفيلسوف الفرنسي، أنيسه في مونتريال. ويقول عنه إنه يحفر في النفسية الاجتماعية ويكشف عن قوانين التحكم.
واليكم ما كتب الشيخ في مونتريال:
بسم الله الرحمن الرحيم
سألني الدكتور خالص جلبي أن أكتب له خلاصة ما كتبت في محاولتي في الحديث عن مشكلة المسلمين.
فأقول ولدت عام 1931 ميلادية، في قرية تبعد عن دمشق نحو 80 كيلومترا جنوب غرب سوريا الحالية. وفي فبراير (شباط) عام 1946 خرجت من سوريا بسيارة للمسافرين من دمشق إلى حيفا، ومنها إلى القاهرة بالقطار، ولم تكن صنعت ما يسمى الآن بإسرائيل من قبل الغرب ومؤسسة الأمم المتحدة. وبقيت في القاهرة عشر سنوات، وشهدت الأحداث من اغتيال النقراشي واغتيال حسن البنا، ومحنة فلسطين عام 1948، ثم ثورة محمد نجيب، ثم عبد الناصر، وشهدت العدوان الثلاثي عام 1956، كما كنت هناك حين أعدم عبد القادر عودة وأصحابه، ثم غادرت القاهرة وأنا أحن إلى ذكريات المدينة والأيام التي قضيتها في دار الكتب المصرية، وأنا أحمل في نفسي هم مشكلة العالم الإسلامي. وفي سوريا كنت في الأحداث التي حدثت عام 1965، وبعدها مباشرة أحسست بدافع لا يمكن مقاومته، بضرورة أن أكتب «مذهب ابن آدم الأول أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي»، وطبع الكتاب لأول مرة في دمشق عام 1966، كتبته بعجل، خشية أن أضيع في الأحداث من غير أن أكون بينت موقفي من أسلوب العمل الإسلامي، خاصة بعد أن شهدت الأحداث التي حدثت في مصر، وتمنيت أن أساهم في تجنيب سوريا من مثل ما حدث في مصر من النزاعات الدموية المؤلمة، وما حدث عندنا بعد ذلك كان أسوأ. وكنت كتبت في ذلك الوقت في كتاب «مذهب ابن آدم الأول أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي» تحت عنوان داخلي.
سبب الإلحاح
«والذي يجعلني شديد الحرص والإلحاح في هذا الموضوع، هو ما أتوقعه في العقود القادمة من إمكان اشتداد الصراع وتضخم النزاع وزيادة عجز المسلمين، وتضاعف عُقدهم وعجزهم عن مواجهتها. فعلى الدعاة إلى الله أن يتبصروا للمسلمين، فإن الأيام القادمة ستكون أعنف عليهم من الأيام الماضية، إلا إذا جددنا الدعوة على أساس سنة الأنبياء في دخولهم حلبة الصراع، وزادهم (ربنا الله)، وما علينا إلا البلاغ المبين». نافذة:
جودت سعيد إن تحدث الناس بالأفكار اشترك وإن تحدثوا عن طعام ومتاع حول الحديث إلى التاريخ والفلسفة وإلا سكت وامتنع عن الكلام

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى