الرأي

التيه الدبلوماسي في تونس

سمير حمدي
ما زال أمام تونس، في انتقالها الديمقراطي، شوط طويل لتقطعه، حتى تتمكن من تحقيق توازنها الذاتي، وإرساء نموذجها السياسي بشكل راسخ وثابت، بما يكفل الاستمرارية ضمن مؤسسات الدولة، بعيدا عن منطق التجربة والخطأ والوقوع تحت طائلة الممارسة السياسية، بمنطقها الأكثر هواية وسذاجة.
ربما كان هذا هو المبرر الأكثر ورودا على الأذهان، عند متابعة السياسة الخارجية التونسية، منذ وصول الرئيس الحالي، قيس سعيد، إلى قصر قرطاج. وبما أن الرئاسة في تونس هي الطرف الذي يخوله الدستور ليحدد مسار الدبلوماسية التونسية والسياسة الخارجية، فإن مواقف الرئيس تظل هي المحدد لفهم التوجهات السياسية للبلاد، ومواقفها من القضايا الكبرى والمهمة، خصوصا ذات العلاقة المباشرة بالأمن الوطني التونسي.
كان واضحا منذ مجيء قيس سعيد إلى موقعه الحالي سوء تمثله المشهد السياسي الإقليمي والدولي، سيما في تقدير العلاقة مع الجوار الجغرافي لتونس، وهي تتحدد أساسا بالعلاقة مع ليبيا والجزائر. ولا تظهر مهارة الدبلوماسية التونسية إلا من خلال قدرتها على التعاطي مع الملفات العالقة مع دول الجوار الإقليمي، بالإضافة إلى دول غرب المتوسط التي تتمتع بتأثير واضح بحكم الجغرافيا السياسية.
عانت الدبلوماسية التونسية مع مجيء قيس سعيد إلى السلطة من حالة من الارتباك، بداية من المواقف المضطربة التي ترتبت عن زيارة الرئيس التركي، أردوغان، إلى تونس في دجنبر الماضي، وما خلفته من أزمة تصريحات متضاربة صادرة عن الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس، وصولا إلى سوء التعاطي مع الأزمة الليبية، ففي ظل تنافس دولي محموم وصراع إقليمي على اتخاذ مواقف واضحة من الأزمة الليبية، والدفع نحو حلها بما يخدم مصالحها، كانت الدبلوماسية التونسية خارج السياق تماما، فقد كان الرئيس مشغولا باستقبال وفود من القبائل الليبية، لاعتقاده أن الحل يمر عبر مثل هذه الحوارات. ولمن يتابع المشهد الليبي يدرك أن القبائل في ليبيا موزعة الولاءات والحسابات، وهي ليست صاحبة القرار النهائي، ففي ليبيا تتقاطع الحسابات الدولية والصراعات الجهوية والتوجهات السياسية لنخب حزبية ومدنية. وتعمل القوى المختلفة على إعادة تشكيل المشهد، من خلال صنع تحالفات وعلاقات بما يخدم مصالحها، وهو ما نراه في المواقف التركية والفرنسية والإيطالية والأمريكية والروسية، بالإضافة إلى المتدخلين من الدول العربية الذين يدعمون أطرافا معينة وبشكل معلن.
كان يمكن اعتبار التوجهات الدبلوماسية للرئيس التونسي، في بداية توليه الحكم، مجرد سوء تقدير، ولكن تصريحاته، في أثناء زيارته باريس، الأسبوع الماضي، كشفت عن قصور واضح في الدراية السياسية، فقد أصر، في حديثه عن الأزمة الليبية، على تأكيده التواصل مع القبائل الليبية، واعتقاده أن الحل ينبغي أن يكون على الطريقة الأفغانية، عندما تم تجميع القبائل في إطار «اللويا جيركا» لإيجاد حل سياسي، متجاهلا حقيقة أن ما تم حينها كانت تنفيذا لخيار أمريكي نفذه المبعوث زلماي خليل زاد، مستفيدا من الاحتلال العسكري الأمريكي لأفغانستان، لتزكية رئيس اختارته الولايات المتحدة، هو حامد كرزاي. وهذه عوامل لا تشبه الحالة الليبية قطعا التي تعاني من ترد سياسي، وتدخل دولي هو نتيجة محاولة انقلابية قام بها الضابط المتقاعد، خليفة حفتر، بدعم إقليمي.
الأسوأ من الحل الوهمي الذي افترض الرئيس التونسي أنه يمكن استخدامه وصفة سحرية لحل الأزمة الليبية إصراره على نعت حكومة الوفاق بالفاقدة للشرعية، في ما بدا تساوقا مع الموقف الفرنسي، من دون مراعاة للمصالح التونسية التي تتركز أساسا في الغرب الليبي، حيث تسيطر حكومة الوفاق. وزاد الطين بلة إصرار الرئيس على تقديم درس في القانون الدستوري عن التمييز بين الشرعية والمشروعية، بما يعني أن الرجل ما زال يرتدي جبة الأستاذ، ولم يتلاءم بعد مع منصبه الجديد، فليس من الدبلوماسية في شيء تقديم دروس للحكومات الأخرى التي لديها حساباتها الخاصة.
مشكلة الدبلوماسية التونسية حاليا أنها في حالة تيه ومن دون بوصلة، وبلا توجهات واضحة، وأن التصريحات المتضاربة لن تؤدي إلا إلى حالة من التشنج مع دول الجوار، أو على الأقل البقاء خارج إطار التأثير في المحيط الجغرافي. وكما لا يوجد في قاموس الدبلوماسية والسياسة أمر اسمه إرضاء الجميع، وإنما هناك حسابات وتحالفات ومصالح، ومن يحاول إرضاء الجميع يخسر الجميع، فالسياسة الدولية لا تشبه في شيء محاولتك فض النزاع بين أبنائك وتطييب خواطرهم بكلمات، الأمر يتعلق بمصالح وحدود وحروب ومواقف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى