حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الخبز البايت

 

مقالات ذات صلة

 

يبدو أن السياسي تحول فجأة إلى شاعر بلا ديوان، يجلس على كرسي المسؤولية كما يجلس الشاعر على منصة المهرجان، لا يحمل في جيبه سوى قاموس من العبارات الطنانة والمجازات المنمقة التي تصلح لكل زمان ومكان، لكنها لا تصلح أبدا للإقناع. السياسي اليوم لا يحتاج إلى برنامج، بل إلى موهبة في الإلقاء وجرعة من الثقة بالنفس تكفي لبيع الوهم.

فكلما ضاق به الواقع، استنجد بالاستعارة، وكلما طالب المواطن برقم واضح أو إنجاز ملموس، أجابه السياسي بجملة شاعرية من نوع «نحن نعمل على بلورة النماذج الانتقائية». جملة لا يعرف معناها هو نفسه، لكنها تثير التصفيق وتمنح وهما بالفهم. إنهم يتحدثون لغة لا تحتاج إلى قاموس بقدر ما تحتاج إلى مترجم نزيه يجرؤ على القول إن لا شيء قيل فعلا.

السياسي المحترف في هذا الزمن يعرف جيدا أن الكلمات سلاح أكثر فتكا من السيوف. فبدل أن يواجه خصمه بالحجة، يزرع حوله الشبهات. شائعة صغيرة، تلميح غامض، تساؤل بريء يوحي بالكثير ولا يقول شيئا. وحين تُكشف اللعبة، يبتسم بكل براءة ويقول: «فهمتوني غلط.. والصحافيين الله ياخد فيهم الحق كيأولو هضرتي بحثا عن البوز». هكذا تتحول الشائعة إلى سلاح انتخابي، والمعلومة إلى أداة اغتيال رمزي والضمير إلى تفصيل اختياري يمكن تركه في الدرج عند أول اجتماع للحملة.

وحتى حين يُجبر على التوضيح، يخرج السياسي بعبارات من نوع  «كلماتي اقتُطعت من سياقها»، أو «كنت أتكلم مجازا». وكأن المجاز هو الستار السحري الذي يحميه من كل مساءلة. فطالما أن كل شيء «رمزي» و«تعبيري»، فكيف نحاسب شاعرا على استعارة؟ كيف نطالب من يتقن فن التورية بأن يقدم لنا أرقاما؟

المفارقة أن المواطن لا يطلب الكثير. لا يريد بيتا من الشعر بل بيتا يؤويه، لا ينتظر خطابا ملتهبا بل مستشفى يتوفر على «سكانير»، لا يبحث عن مجاز حول رمزية قطعة الخبز الممزوجة بـ«كواغط» شعر محمود درويش، بقدر ما يطلب خبزا خاليا من «التخلويض». ومع ذلك يصر السياسي على تحويل المنبر إلى مسرح، والخطاب إلى عرض بلاغي يتنافس فيه السياسيون على من يطرب الجمهور أكثر لا من يخدمه أفضل.

هكذا تتحول السياسة من فضاء للتسيير وتدبير الخلاف إلى مسابقة في فنون اللغة، حيث يفوز أمهر من يجيد «ليّ عنق الكلمات» حتى تجعل الكذب يبدو كالحقيقة، والعجز يبدو كحكمة والفشل يبدو كمؤامرة كونية. فالمسؤول الذي فشل في بناء طريق يجد دائما طريقة لبناء جملة تبرر الفشل. وحين يسأله الصحافي عن وعوده السابقة، يجيبه بابتسامة وعبارة من نوع «السياسة هي فن الممكن». عبارة تبدو عميقة لكنها في الحقيقة مجرد مفتاح للهروب من أي التزام.

تأمل، مثلا، كيف يتحدث بعض السياسيين عن «التوازن بين الحرية والمسؤولية»، وهي جملة لا تعني سوى تبرير القمع باسم النظام، أو حين يقول آخر «نحن في مرحلة انتقالية»، وهي عبارة يمكن أن تعيش بها أمة كاملة قرنا من الزمن دون أن تصل إلى أي مكان. إنهم يبرعون في صناعة الوقت بدل استثماره، وفي خلق الضباب بدل تبديده.

والسؤال الجوهري هنا: هل السياسة في جوهرها مسؤولية ولغة أرقام مضبوطة وقرارات دقيقة؟ أم أنها مجرد مباراة شعرية يفوز فيها من يحفظ أكثر عدد من العبارات التي لا تعني شيئا؟ إن الإجابة تبدو محسومة في الواقع، لأن من يتحدث كثيرا لا يفعل شيئا، ومن يفعل شيئا لا يجد الوقت للكلام. لكن في زمننا هذا، يبدو أن الصمت أصبح جريمة، وأن الضجيج هو الدليل الوحيد على «العمل».

السياسيون لا يكذبون بالضرورة، إنهم فقط يتحدثون بلغة تجعل الكذب مستحيلا على الإثبات. فهم يقولون «نطمح»، «نخطط»، «نسعى»، وكلها أفعال مضارعة معلقة في الهواء لا تنزل أبدا على أرض الواقع. إنهم يعيشون في زمن المستقبل المستمر، حيث لا شيء يبدأ ولا شيء ينتهي. والمواطن المسكين يقف بين الماضي المنسي والمستقبل الموعود، يبحث عن الحاضر فلا يجده إلا في نشرات الأخبار.

الطريف أن السياسي حين يريد أن يبدو صادقا، يلبس قناع البساطة ويتحدث بـ«لغة الشعب».. لكنه سرعان ما يعود إلى البلاغة حين يضيق صدره بالسؤال. يتقن لغة العاطفة حين يحتاج أصواتنا، ويتقن لغة الأرقام حين يريد إقناع المانحين. يعرف متى يبكي ومتى يضحك ومتى يصمت ليبدو عميقا. إنه ممثل بارع في مسرح اسمه الوطن، والجمهور هو من يدفع ثمن التذاكر ويصفق في النهاية رغم أن العرض لم يتغير منذ عقود.

قد تكون السياسة فن إدارة الكلمات أكثر مما هي فن إدارة الدول، لكننا كمواطنين نملك حقا بسيطا: أن نطالب بأن تعود اللغة إلى معناها، وأن يصبح الوعد وعدا لا استعارة، والرقم رقما لا مجازا. نريد من السياسي أن يكون مسؤولا لا شاعرا، وأن يتحدث حين يفعل لا حين يعجز. وأن يدرك أن البرلمان مؤسسة تمارس دورها التشريعي والرقابي وليست ساحة لـ»الكوغطة» الشعرية.

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى