حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

«الرقّاص».. سُعاة كلفهم نقل الرسائل حياتهم

مهنة توصيل الرسائل والأخبار عبر الجبال انقرضت مع «وزارة البريد والتلغراف»

«الرقاص الأخير.. الباحث المغربي والمقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، عمر بوم، جمع سيرة والده «فاراجي بن لحسن».. الذي اشتغل «رقاصا» ينقل الرسائل عبر الأطلس، وهي المهنة التي بدأها في شبابه، بداية ثلاثينيات القرن الماضي، أعاد سيرة هذه المهنة إلى الحياة، بعد قرن تقريبا على انقراضها، رغم أنها بقيت معمولا بها في بعض مناطق الأطلس المعزولة إلى حدود سبعينيات القرن الماضي. وبرحيل جيل السيد «فاراجي»، لم يتكلف أحد من الجيل اللاحق بحمل راية مهنة «الرقاص»، بعد أن وصلت مكاتب البريد إلى كل أقاليم المغرب.

مقالات ذات صلة

أعادت جامعة كاليفورنيا الأمريكية توثيق العمل الميداني الذي أنجزه الباحث المغربي عمر بوم، العام الماضي، وأصدرته هذا الشهر في دراسة ضمن منشورات الجامعة.

«الرقاص».. حقبة من الأحداث انطفأت تماما.

يونس جنوحي

+++++++++++++++++

 

حامل الرسائل الذي ذكّر رجال السلطة بحدود سلطتهم

 

الرقاص.. المهنة المخزنية المنقرضة. صحيح أن بعض الذين زاولوا هذه المهنة إلى حدود بداية الحماية الفرنسية، لم يكونوا جميعا مخزنيين، وإنما كان بعضهم من الذين اشتغلوا في ظل الباشوات والقواد النافذين.. إلا أن أصل مهنة «الرقاص» كانت دائما حمل الرسائل من السلطة المركزية إلى السلطة المحلية.

في أزمنة التوتر، كانت مهنة الرقاص تعني أن يضع «المرسول» حياته فوق كفه، ويقطع منطقة السيبة لكي يوصل الرسالة إلى حيث يجب أن تصل.

السعاة، الذين امتهنوا إيصال الرسائل، كان مصيرهم أن يلقوا حتفهم، خصوصا في زمن المولى إسماعيل، والسنوات التي تلت وفاته، أي بعد سنة 1727، في ظل صراع أبنائه على الحكم.

فقد كان «الرقاص» الذي أوصل رسالة مولاي إسماعيل إلى ابنه الذي كان خليفة له على منطقة سوس، قد لقي حتفه، لأنه نقل رسالة من مكناس إلى تارودانت. وكذلك كان مصير رقاص آخر حمل رسالة مولاي إسماعيل إلى الصويرة. كان رد المتمردين أنهم يقتلون «الرقاص»، رغم أن دوره لم يكن يتعدى نقل الرسائل.

ولم يكن القتل أسوأ ما يتعرض له «الرقاص» في أزمنة انفلات السلطة أو التمرد، فقد كان بعض الذين زاولوا هذه المهنة خلال القرنين 17 و18، يتم التمثيل بهم، وتعذيبهم، ووشم كتابات على رؤوسهم الحليقة، لاستفزاز السلطة المركزية، أو إعلان التمرد عليها، أو على من يمثلونها من القواد والباشوات المراد الإطاحة بهم.

لكم مثلا أن تتصوروا مصير «الرقاص» الذي سوف يحمل هذه الرسالة التي كتبها السلطان المولى إسماعيل إلى ابنه المأمون:

«إلى الأَبْلَهِ المُغَفَّلِ المَامُون، بعد السلام عليك، اعلَمْ مِنْ براوتكَ هذه التي بلغت عنِّي شَأْنَ أَخْذِ اللَّهِ أولاد ادليم وَمَا فِيهَا إِلاَّ كلمتَانِ وحرفَانِ، لم يبق لنا شكٌّ في كَوْنِكَ أبلَهَ مغفلاً أحمَقَ حمَاراً لاَ تفْقَهُ شيْئاً، ولا تضبطُ مسألةً أصلاً، وأَعْرَبْتَ لنَا عن كيفيَّةِ عقلِكَ وقصُورِ همتِكَ عن عدمِ إدرَاكِ ما أرادَهُ النَّاسُ فيكَ، وأُظْهِرَ للعيَانِ عنْكَ أنَّ هذا الأَمْرَ الذي نُصِبْتَ له بعيدٌ عليْكَ، ليْسَ لكَ فيهِ مَرْسَى ولا سبَاحَةَ ولا معرِفَةَ، إِذِ السابِحُ الذي يعُومُ ويسبَحُ يظْهَرُ من تعَامُلِهِ مع المَاءِ في أوَّلِ مرَّةٍ، فإنَّهُ لا يتردَّدُ للسباحةِ والعوْمِ إلاَّ مَنْ كانَ عارفاً بِهَا،
وكذلك هذا الأمرُ الذي نحنُ فيه فمثْلُكَ الذي يُصَدَّرُ بِهِ ولا تظهَرُ فيهِ نتيجَةٌ ولا مطنَّةٌ ولا رياسةٌ، بعد أَنْ يَبْقَى فيه الأعوامَ والسنينَ، ولا يزدَادُ بهما إلاَّ غفلةً، ولا يعتَمَدُ فيهِ علَيْهِ ولا يعرف، ولا يُرْتَجَى لَهُ علاجٌ ولا صلاحٌ ولا فلاحٌ، فحَيْثُ جِئْتَ الحِمَار تكتُبُ على أوْلاَدِ ادليم بعد أَنْ بَلَغَكَ بشِيرُ العربِ الَّذِينَ غزوهُمْ مِنْ رَقَاقِيصِ وَلد النَّصِيرِي تَكُونُ قد عرفْتَ كيف تتكلَّمُ معهُمْ، وكيف تتلَقَّى خبرَهُمْ، وتبحثهُمْ عن كيفية ظفرِهِمْ بِهِمْ، وعلى الموضع الذي أدركُوهُمْ به».

كانت وظيفة «الرقاص» محاطة بنوع من السرية والثقة، إذ إن مصيره لا بد أن يكون قطع رأسه إن اطلع على هذه الرسالة التي يُقَرِّعُ فيها السلطان ابنه، الأمير الذي كان خليفة له، مبعوثا أساسا للإطاحة بأحد إخوته، بعد أن أعلن تمرده على أبيه.

تداول بعض المؤرخين الجانب الدموي لبعض القواد والباشوات والأعيان الذين تمردوا على السلطة المركزية، سيما أيام المولى إسماعيل والمولى عبد الله من بعده.. ولا بد أن دمويتهم تلك، قد لطخت ثوب «الرقاص» الذي اشتغل إلى جانب كل واحد منهم.

 

من زمن «السُعاة» إلى زمن وزارة البريد

كيف تأسس البريد المغربي؟ صحيح أن وزارة البريد والتلغراف كانت إدارة تسلمتها أول حكومة مغربية في دجنبر 1955 من الإدارة الفرنسية، لكن كيف أسست فرنسا خطوط الهاتف والتلغراف، الذي أنهى عمل ووظيفة «الرقاص» التاريخية؟

يبقى السكرتير العسكري، «غوستاف بابين» الذي اشتغل في أول حملة عسكرية فرنسية إلى جنوب المغرب ما بين 1912 و1914، واحدا من الشهود الفرنسيين المثقفين – كان صحافيا وكاتبا، قبل أن يلتحق بالجيش الفرنسي- الذين عاشوا عن قرب مرحلة إمداد أسلاك الهاتف والتلغراف، التي سلمها الجيش لاحقا إلى إدارة البريد. وهذه الخطوط هي التي أنهت حرفيا وظيفة «الرقاص»، الذي استعان به الفرنسيون قبل أن يضعوا أسس نظام البريد والرسائل الذي جرى تعميمه عبر ربوع المغرب، مع نهاية ثلاثينيات القرن الماضي.

يقول:

«الطريق التي سوف نسلكها كانت مُعدة سلفا لاستقبالنا، ولو أنها لم تكن مكتملة تماما، لكنها كانت سالكة على الأقل.

عند مدخل مخيم عسكري صغير تخترقه هذه الطريق، تنتصب إشارة من تلك التي تتوزع على طول الطرق وتُنبئ باقتراب دخولنا إلى قبيلة معينة، عند كل تقاطع طريق أو أي مسلك، لإرشاد المسافرين. هذه العلامة المنتصبة هنا، كُتب عليها: «واويزرت 35 كيلومتر». إنها المرحلة التي يتوجب علينا الدخول إليها أو «فتحها» على الأصح. لأن الطريق في الواقع تتوقف بعد 7 أو 8 كيلومترات، بعد هذه النقطة العسكرية التي نحن فيها الآن، قرب منزل الشيخ «علي بوعدي».

ابتداء من هذه النقطة، يتوجب علينا التخلي عن العربات، والقفز فوق الأرض. هذه الطريق الممتدة أحدثها السكان الأصليون للمنطقة المجاورة. بفضل «جائزة» حصلوا عليها، مقابل الاشتغال في تلك الطريق لمسافة لا تتعدى 15 مترا، بقيمة أربعة فرنكات للمتر الواحد.

يا له من بلد غارق في السعادة. لو أن «الأشغال العمومية» الفرنسية جاءت إلى هذا المكان، سوف ترى العجب.

يوم 19 شتنبر 1922، بعد الغذاء. بدأنا المسير فوق هذه الطريق التي سوف تقودنا نحو الهدف.

بالموازاة مع تلك الطريق، حيث الغابات والوديان، شرعنا في مد الخط الهاتفي الذي كان مُخططا لربط الاتصال مستقبلا، مع إكمال الاتصال عبر التلغراف أو الطائرات.

يا لها من رعاية. هذا النشاط الذي كنا نقوم به كان مثيرا حقا. ذكرني بما وقع سنة 1911، وكنت وقتها في بداية سفري الأول إلى المغرب. وكانت وقتها أعمدة التلغراف الأولى من نوعها قد بدأت تُزرع في الأفق عند الخروج من منطقة النفوذ الإسباني. كان هناك فراغ قاتل وانعدام للحياة.

كان العمال يشتغلون على بُعد 200 أو 300 متر عن «آيت واكديد»، الذين سوف نُعلن معهم الهدنة».

يقول «بابين» إن تحركهم نحو الهدف كان بطيئا للغاية، بحكم أشغال مد خط الاتصال مع القيادات الأخرى، في حال ما إذا نجحوا في استيطان نقطة «واويزرت». ويضيف أيضا أن العمال الذين كانوا منشغلين بمد الخطوط كانوا في الحقيقة متخوفين من أن تطالهم اعتداءات مباغتة، رغم ضمانات الهدنة داخل نفوذ قبيلة «آيت واكديد».

 

+++++++++++++++

مذكرات أمريكي طُبعت سنة 1897 تكشف تجربة «رقّاص» إسباني بالمغرب

في سنوات الحرب، تظهر أهمية مهمة الرقاص، مخزنيا كان أو ساعيا من السعاة لدى أحد الأعيان، أو الأجانب الذين فطنوا إلى أهمية التعامل مع «رقاص» محترف، لضمان وصول رسائلهم إلى وجهتها عبر المغرب.

هنا، نورد ما كتبه أحد المغامرين الأجانب، واسمه «آرثر كامبيل». إذ إن هذا الأخير ألف كتابا وثق فيه مغامرته شمال المغرب سنة 1897. اسم الكتاب: «A ride in Morocco» ورغم أنه جاء إلى المغرب، قبل اندلاع حرب الريف، إلا أنه وثق لفترة «السيبة» في المنطقة الشمالية التي احتلتها إسبانيا لاحقا.

ننفرد في «الأخبار» بترجمة أقوى مضامين هذه المذكرات التي صدرت باللغة الإنجليزية. ونورد مقطعا مثيرا تحدث فيه الكاتب، المغامر، عن أهمية دور «الرقاص» أو حامل الرسائل كما وصفه في مواضع أخرى من مذكراته.

يقول «آرثر» إن مسألة التواصل في المغرب كانت مقلقة، بمجرد مغادرة طنجة يصبح التواصل مع العالم صعبا جدا، إذ لا وجود للبريد في ذلك الوقت. حسب ما ادعاه. إذ إن مصادر أخرى تحدثت عن وجود مكلفين بنقل الرسائل وتوصيلها على طول الطرق المغربية، إذ كان يكفي الدفع لأحدهم لنقل الرسائل من مخيمات رحلات البعثات الدبلوماسية، وإبقاء أعضائها على اتصال بالعالم أولا بأول خلال توغلهم في المغرب، أيام المولى الحسن الأول، أي قبل مجيء «آرثر» إلى المغرب.

وكان الحل الوحيد بالنسبة إليه، كما يقول، أن ينقل أحد المرافقين رسالة ليعود بها إلى طنجة حتى يتم إرسالها.

يقول «آرثر» وهو يتحدث عن محاولته لإقناع خادمه الإسباني «مورينو» بأن يحكي له عن مغامراته مع السياح الأجانب الذين اشتغل معهم، والمغامرات المرتبطة بتلك الرحلات:

«قال مورينو دون أن ينظر إلي، كما لو أنه في عجلة شديدة من أمره:

– بعد نصف ساعة سوف ننطلق.

احتججت على قصر الوقت الذي كان مخصصا للاستراحة. ومن جديد دخلت في مشادة مع أولئك الأوغاد. قال «مورينو» إن جماعة من الإنجليز، رجالا ونساء، قطعوا الرحلة في ثلاثة أيام، حيث اصطحبوا معهم الخيام والجنود لحمايتهم.

سألتُه:

-هل تأتي النساء الأمريكيات عبر هذه الطريق؟  هل سبق لك أن عملت ساعيا لإحداهن؟

هذا السؤال جعل ملامحه تتغير. اختفت ملامح الفرح من وجهه بشكل مؤلم، وسيطر عليه مزاج حزين، قبل أن يرد:

– مرة واحدة فقط. ولكن لا تطلب مني القيام بهذا من أجلك.

تجاهلتُه وقلت:

– لن يؤذيك في شيء أن تحكي لي ما وقع، لقد انتهى الأمر الآن.

وأجاب:

– كانت سيدتان أمريكيتان، جاءتا إلى المغرب. إلى طنجة. وقالتا إنهما كانتا تريدان من يرافقهما إلى تطوان.

– واصل يا «مورينو»، لا تتظاهر بالمرض.

– كانتا ترتديان لباسا من الحرير للمجيء إلى المغرب.

-هذا أمر غير حكيم. وهل ذهبتا إلى تطوان؟

– نعم لقد كانتا ترتديان الحرير، وركبتا فوق الدواب للوصول إلى تطوان.

– وهل وصلتا هناك؟

– لا. كانتا تُريدان الركوب على الحمير. وأنا كنت أقول لهما: علينا ركوب البغال. وفي الأخير ركبنا فوق الحمير.

يا إلهي. في الجبل هبت علينا عاصفة ورياح قوية جدا، ثم هطلت أمطار قوية. كانت الحمير تسقط أرضا طوال الوقت. وملابسهما الحريرية صارت متسخة».

 

حوادث الشغل.. عندما تصبح مهنة «الرقاص» مقامرة مع الموت

حتى لو كان الشخص الذي يمتهن حرفة توصيل الرسائل، يشتغل لدى شخصية بأهمية الشريف الريسولي ونفوذه، إلا أن الأمر لا يعني دائما أنه بمنأى عن الاعتداء أو الموت في أسوأ الحالات.

الشريف الريسولي، واحد من السياسيين المغاربة الذين تركوا بصمة واضحة على أحداث منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد كان يوظف عددا من السعاة الذين اشتغلوا لصالحه في عز خلافه مع المخزن، وفي عز حرب إسبانيا ضده خلال فترة حرب الريف، خصوصا سنة 1921، عندما كان في حاجة إلى التفاف قبائل جبالة حوله.

يحكي الشريف الريسولي، للمغامرة «رويزتا فوربس» التي تكلفت بتسجيل مذكراته وكتابتها باللغة الإنجليزية، لتصدرها قبل نهاية حرب الريف سنة 1927، بعنوان: «سلطان جبالة»، والتي انفردنا في «الأخبار» بترجمتها كاملة إلى العربية.. عن المخاطر التي تعرض لها «رقاص» كان يشتغل لصالحه، كلفه بتجييش الناس ودعوتهم إلى الالتفاف حول الشريف في «الحرب المقدسة».

يحكي الريسولي في خيمته بقلب «تازروت»، مسترجعا ذكرياته:

«المبعوثون والسعاة الذين حملوا رسائلي كان يسيطر عليهم الخوف. فقد كانت الأوامر التي لديهم أن يقرؤوا تلك الرسائل جهرا على القبائل.

أحد هؤلاء السعاة جاء إليّ وهو في حالة عرج وعليه علامات الضرب، وقال:

(سيدي، لقد أخذت رسالتك إلى سوق الحبيب وعندما ناديت في الناس داخل السوق لكي يتجمعوا، قالوا إن هذه إشارة إلى بداية المسيرة. وكانوا مسرورين وبدأ الفقهاء يدعون لهم، وكان الجميع يصيحون:

-اللهم صل عليك يا رسول الله. حفظ الله الشريف!

وبعدها قرأت عليهم الرسالة، وعم الصمت. بدؤوا ينظرون إلى بعضهم البعض وتساءلوا عن معنى الرسالة. عندها قال أحدهم:

-إن الشريف رجل متعلم، ونحن لسنا إلا مجموعة من الرجال الجهال.

ثم قال آخر:

-إن اللغة التي كُتبت بها الرسالة جميلة، لكن معناها لا يدخل إلى رأسي.

بينما صاح آخر:

-إنها ليست من الشريف. إن المبعوث يكذب. لقد اشتراه الإسبان.

ورموا أنفسهم عليّ وظننت أنني سوف أموت لا محالة. لكن الله، وسلطة سيدي، حفظتني. عندما انتهوا من ضربي، تسللتُ بعيدا، ووضعت الزيت على جروحي، وقلت لواحد أو اثنين من الذين يستطيعون سماعي:

-أقسم برقبتي إن الرسالة من الشريف، وإنه فقط ينتظر الفرصة المناسبة، فكونوا صبورين).

بعد ذلك أراني المبعوث آثار الضربات والجروح على ظهره. كانت جروحا عميقة، لذلك أرسلتُ بعض أقاربي، الذين كانوا معروفين أنهم معي، لكي يذهبوا إلى القبائل، وشرحوا لهم أمور تأخر الغارات والهجمات».

تعددت المواضع الأخرى التي أشار فيها الريسولي في معرض كلامه، إلى دور «الرقاص» في منظومة تحكم الريسولي في أغلب مناطق «جبالة». فقد اعترف بأنه اعتقل مرسولا من المخزن، بسبب تجرؤه على نقل رسائل إلى الريسولي، تتضمن تعليمات لم تعجبه. ولم تكن تلك عادة الريسولي وحده، فقد كان «الرقاص» معرضا للسجن في حالة نقله رسالة من المخزن إلى أحد زعماء القبائل المتمردة. وكثيرا ما كان مصير «الرقاص» يبقى مجهولا، ولا يظهر له أثر مرة أخرى، فقط لأنه أوصل رسالة إلى ما وراء «خط النار».

 

 

الرقاص.. «المخابراتي» الأخير الذي اشتغل لصالح الزعماء والأعيان

لا يوجد دليل أقوى وأوضح مما سجله الصحافي البريطاني والتر هاريس، في مذكراته In The Land of an »

«African Sultan، التي ألفها في بداية القرن التاسع عشر، والتي وثق فيها مجموعة من الأسفار عبر ربوع المغرب خلال عهد المولى الحسن الأول، فترة قصيرة قبل وفاته سنة 1894.

يحكي والتر هاريس عن رحلته إلى وزان، للقاء شريف وزان، الذي كان وقتها في أوج قوته، قبل أن يترك المدينة «المقدسة» وينتقل إلى طنجة الدولية.

تعرض هاريس لحادث، ذكر تفاصيله في هذه المذكرات التي انفردنا بترجمتها حصريا إلى العربية، وأشار إلى دور «الرقاص» الذي يعمل لصالح شريف وزان. لكن هاريس وقتها، الذي كان حديث عهد بالمغرب، قبل أن يصبح مغربيا أكثر من بعض «المغاربة»، لم يكن يعرف مصطلح «الرقاص»، واستبدله بـ«مرسول من عين المكان». والحقيقة أن هذا المرسول كان قد سبق هاريس إلى وزان، ونقل خبر الحادث الذي تعرض له لشريف وزان.. الشريف أخبر هاريس لاحقا أنه يثق كثيرا في مرسوله، الذي لم يكن سوى «رقاص»، ينقل له الأخبار والرسائل، ويقطع منطقة السيبة متخفيا أو عبر طرق ثانوية لم يكن يعرفها غيره، ليوصل الرسائل والأخبار في سرية تامة، وأمان.

يحكي والتر هاريس عن هذه الواقعة قائلا:

«عندما انعطفنا أكثر في اتجاه الشمال، غادرنا حدود قبيلة بني مسرة، وصرنا في منطقة «زوا»، وهي قبيلة صغيرة غير ذات أهمية. وبعد أن مررنا في طريق تدخل في زاوية من أراضيهم، وصلنا إلى قبيلة «گرونة»، وفيها شربنا الشاي فوق واحدة من قمم التلال الغريبة التي تشبه البراكين.

كان شيخ القبيلة وأناسها طيبين جدا، وأخبروني أنني أول أوروبي يزور معقلهم هذا. وهذا ما جعلني أسألهم عن السبب الذي يمنع المسيحيين -أو بالأحرى الأوروبيين- من زيارة بلادهم. فأجابوني أن السبب ليس اختلاف الدين كما قد يعتقد البعض، بل السبب هو خوفهم من أن يعود كل مسيحي يدخل البلاد، ويأتي يوما ما ومعه جيش وراء ظهره لحمايته.

استغرقت رحلتنا حوالي أربع ساعات، حتى بلغنا وزان عند نزول الظلام. وعلى الفور جرى اصطحابي إلى حضرة الشريف، الذي أخبرني أنه قضى صباحا بائسا، إذ سمع عن الحادث الذي تعرضتُ له، بعد أن نقله له أحد المرسولين من عين المكان. إلا أنني طمأنته، وأخبرته أنني لم أصب بأذى على الإطلاق، وأنه حتى لو أصبتُ إصابة خطيرة، أو بقيت عندي آثار للإصابة، فسوف تُشفى وتختفي بفضل بركة وقدسية الأرض التي كنت فيها».

 

 

هل كان الرقاص أيام «الحماية» خائنا؟

يبقى هذا السؤال مشروعا، ما دام الفرنسيون عند وصولهم إلى المغرب عسكريا، وبداية تأسيس الإدارات بعد معاهدة 1912، قد نسخوا نظام «الرقاص» في بعث واستلام الرسائل، في المناطق التي لم يتم إخضاعها عسكريا بعدُ. وذلك تجنبا لتكبد المزيد من الخسائر في الأرواح، في حال توظيفهم سعاة بريد عسكريين من الجيش الفرنسي.

أحد الذين تناولوا دور «الرقاص»، هو النقيب الفرنسي «كورني» في مذكراته التي تناول فيها أحداث الأطلس ما بين سنتي 1912 و1913.

تكلف الباحث المغربي محمد ناجي بن عمر، بنقل هذه المذكرات إلى العربية، في ترجمة حصرية، كان لها دور كبير في تكوين صورة أوضح، عن التاريخ المنسي لقرى الأطلس التي عاشت مرحلة دخول الجيش الفرنسي وتوسعه في الجنوب.

«رائحة البارود»، هو عنوان هذه المذكرات التي خطها النقيب كورني ليصف فيها يوميات تقدم القوات العسكرية في الجنوب. ويذكر فيها دور «الرقاص»، حيث كانت الكتيبة العسكرية تتوفر على رقاصين اثنين وليس رقاصا واحدا فقط.

جاء في مذكرات النقيب كورني:

«22 غشت

كنت مشتاقا كثيرا للذهاب إلى سوق الأربعاء، ثم العودة لتناول وجبة الغداء، وجاءنا رقاصان، على الساعة الثالثة بعد الزوال بخبرين سيئين، أكدهما لنا صديقنا راجع شيخ سوق الأربعاء الذي كان مصدرا موثوقا به. وهما أن خليفة الهيبة موجود غرب مركز بوهام. لا تفصلنا عنه سوى ثلاث محطات. كما أن الهيبة اعتقل الأوروبيين المقيمين بمراكش. لم يبق هناك مجال لإضاعة الوقت. إذ علينا أخذ التدابير اللازمة لمنع الحركة من الهجوم على الطابور الضعيف للمقدم جوزيف، واستغلال فرصة مرور الهيبة بالقرب منا لمهاجمته، ومنعه من مواصلة زحفه نحو الشاوية، وإرغامه على التراجع نحو الجنوب، متناسين تبعات العملية الليلية، فأرسلت برقيات كثيرة من طرق مختلفة إلى المقدم جوزيف، كي يوافينا عند وادي فران.

على الساعة الخامسة مساء، بعد أن تركنا أمتعتنا، تحرسها فرقة عسكرية، وبينما كنا نستعد للانطلاق صوب «وهّام» وقع حدث طريف، ذلك أن الشيخ راجع لما رآنا نرفع المخيم، ظن أننا سنتراجع أمام العدو، فصرخ بأعلى صوته: هل ستتركوني فريسة سهلة للخليفة، يهجم على دواويري ويقطع رأسي، بعد أن كنت مُضيفكم ودليلكم؟

لكننا طمأناه، وهدأنا من روعه، وطلبنا منه أن يتقدم الطابور، ليستمر في دور الدليل، وبحلول الظلام بدأت أولى طلقات الرصاص تتبادل بالمقربة من سوق الأربعاء».

هذه المذكرات تسائل فعلا المسألة الأخلاقية، عندما يتعلق الأمر بوظيفة. فقد كان «الرقاص»، على امتداد التاريخ المغربي، ممثلا لسلطة المخزن، ثم ممثلا لسلطة زعماء القبائل. وحظي الدور الذي يقوم به «الرقاص» بكثير من التبجيل والتقدير في عدد من القبائل. حتى أن بعض الشخصيات المخزنية لم تكن لتستغني عن «الرقاص» الموثوق به أكثر من المستشارين، نظرا إلى حساسية الرسائل التي يتكلف بنقلها.

لكن مع «تحوير» الجيش الفرنسي لوظيفة «الرقاص»، واستعماله درعا بشريا، فإنه لا يُستبعد، وهذا ما دقق فيه عدد من المؤرخين والباحثين المغاربة، أن يكون بعض «الرقاصين»، الذين توارثوا المهنة عن أجدادهم، قد خضعوا لإغراءات فرنسا واشتغلوا إلى جانب الإدارة الفرنسية، تماما كما فعل القواد الذين أصبحوا حلفاء لفرنسا.

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى