بانوراما

العصيان المدني السوداني.. احتجاج على غرار السترات الصفراء

مع تزايد الأزمة المالية يشعر المزيد من السودانيين بالاضطراب. هذا الوضع دفع عددا منهم إلى احتجاجات مليئة بالغضب شملت الخرطوم ومدنا أخرى، ردا على تقليص الدعم الحكومي للوقود والأدوية والزيادة المفاجئة في الأسعار. هذه الاحتجاجات التي وصفت بالعصيان المدني كانت مفاجئة للحكومة السودانية، وهناك من يرجح أن حراكا حقيقيا قادما إلى البلد.

سهيلة التاور

على غرار حركة السترات الصفراء، التي خرجت إلى شوارع فرنسا في شكل احتجاجات تعبر عن الغضب بسبب الزيادة في أسعار المحروقات المقررة من قبل الحكومة الفرنسية، قابل قرار رفع الدعم الحكومي للوقود والأدوية من طرف الحكومة السودانية في خطة تقشفية سخط مدني استمر ثلاثة أيام. وخلت الشوارع من المارة، واختفى الازدحام المروري الذي اعتاد عليه المواطنون السودانيون كل صباح حيث يخرج الموظفون والتلاميذ والطلبة لقضاء مصالحهم.. فقد لبى هؤلاء نداء العصيان المدني، الذي دعوا إليه عبر شبكات التواصل الاجتماعي. كما دعت الحركة الشعبية لتحرير السودان فرع الشمال، التي تحارب القوات الحكومية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان أعضاءها إلى دعم التحرك، كما دعم ناشطون وممثلون وصحافيون ومحامون وأساتذة هذا التحرك.
ومع انتهاء الأيام الثلاثة للعصيان، أُعلن عن تجديد هذا العصيان في وقت قريب، وهو ما يشير إلى أن النشطاء والمعارضين السودانيين دخلوا حلقة جديدة من الصراع مع السلطات الحاكمة في السودان، حيث يصرون على منع تطبيق قرارات الحكومة القاضية برفع أسعار سلع أساسية، في وقت يقبع فيه المجتمع السوداني في فقر شديد. وكانت سنة 2013 قد شهدت قرارات مماثلة بخفض الدعم عن المحروقات، مما أدى إلى مظاهرات احتجاج أسفر قمعها عن سقوط نحو مائتي قتيل، بحسب مجموعات للدفاع عن حقوق الإنسان.

أسباب العصيان المدني
شعر المواطنون السودانيون بغضب شديد إثر رفع دعم الدولة عن المحروقات والدواء، كما تمت الزيادة في أسعارها بشكل مفاجئ، مما دفعهم إلى إطلاق حملة تقود إلى العصيان المدني، الذي يتمثل في إضراب عام كامل لمدة ثلاثة أيام. كما انضمت أحزاب سياسية معارضة، وحركات مسلحة إلى هذا العصيان، حيث استجابت شوارع الخرطوم، خلال أيام العصيان الثلاثة، بشكل واضح من قبل قطاعات واسعة لقرارات العصيان، حيث توقفت الحافلات ووسائل النقل العام عن العمل، وفضل العديد من السودانيين عدم إرسال أبنائهم إلى المدارس، إما استجابة للإضراب، أو خوفا من اندلاع اشتباكات مع الشرطة.
أما ردة فعل الحكومة السودانية فكانت هي التصدي للغضب من قبل جهاز الأمن بالاعتقالات للمعارضة السودانية، وتوعد كل من ينوي الاشتراك في أي تحرك احتجاجي، كما تم وقف قناة «أم درمان» التلفزيونية الخاصة عن البث، وصودرت طبعتان من عددين لصحيفتي «الأيام» و«الجريدة» المستقلتين، وبقيت أسعار وقود السيارات على ارتفاعها بنسبة 30 في المائة، جراء تراجع احتياطي العملة الصعبة، ولكن الحكومة السودانية اضطرت على الجانب الآخر إلى التراجع عن قرار أصدرته بزيادة أسعار الأدوية.
فلقد خسرت السودان ثلاثة أرباع احتياطياتها النفطية بعد انفصال جنوب السودان سنة 2011، ومع تدهور الأوضاع رفعت الحكومة السودانية الدعم عن السلع الاستهلاكية الرئيسية، في وقت تعيش فيه غالبية الشعب السوداني تحت خط الفقر، وقد تسبب التضخم الذي تعيش فيه السودان فعليا في تخفيض القوة الشرائية للرواتب بنسبة 40 في المائة في المتوسط، وتعيش السودان تحت نيران الغلاء، حيث بلغ معدل التضخم 18 في المائة في شهر شتنبر 2016، بالمقارنة مع معدل 12.6 في المائة في نهاية دجنبر 2015، وفق الجهاز المركزي للإحصاء.

العصيان الأول من نوعه
في وقت سابق في سنة 2013 اتخذت الحكومة السودانية قرار خفض دعم المحروقات، وزيادة تعريفة حافلات الركاب، وتمثلت ردة الفعل الشعبية حينها بتظاهرات واسعة سقط خلالها نحو 200 قتيل، الشيء الذي منع الحكومة من اتخاذ الإجراءات اللازمة عند الإعلان عن غضب مماثل. إلا أن العصيان المدني والتزام السودانيين به فاجأ السلطات السودانية، كونه وسيلة كانت خارج الصندوق، ولم يستخدم من قبل ضد حكومة البشير التي مضى عليها 27 عاما. فتعجلت الحكومة السودانية بإعلان فشل دعوات العصيان، وعكفت خلال الأيام الماضية على التأكيد عبر بياناتها أن العمل يسير بصورة طبيعية في كافة المنشآت والمرافق والمؤسسات، مصرة على حالة الإنكار، والقول إن العصيان المدني فشل، وإن مؤسسات الدولة والموظفين ذهبوا إلى مكاتبهم ولم يستجيبوا لدعوات العصيان والمعارضة، حتى أن الرئيس السوداني عمر البشير صرح بأنه يؤكد أن العصيان المدني الذي تم الترويج له، أخيرا، كان فاشلا بنسبة مليون في المائة، وجميع الناس كانوا حريصين على الحضور إلى عملهم.

مقتل متظاهرين

طالب حزب المؤتمر الشعب أكبر الأحزاب الإسلامية السودانية والممثل في الحكومة، بإجراء تحقيق في مقتل متظاهرين خلال الاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ 19 دجنبر الماضي، ودعا إلى محاسبة المسؤولين. مطالبا الحكومة في بيان بإجراء تحقيق حول القتل، ووجوب محاسبة من قاموا بذلك.
وأكد الحزب سالف الذكر مقتل 17 شخصا وإصابة 88 آخرين، وفق تحقيقاته الخاصة ومعلوماته. في الوقت الذي يمثله وزيران في مجلس الوزراء، كما أن لديه تمثيلا برلمانيا.
وسبب العصيان يرجع لاقتصاد البلاد، الذي يواجه صعوبات، خصوصا النقص في العملات الأجنبية وارتفاع نسبة التضخم.
وما زالت الأزمة مستمرة رغم أن الولايات المتحدة رفعت في أكتوبر 2017 عقوبات اقتصادية فرضتها على الخرطوم طيلة عقدين. حيث اقترب معدل التضخم من 70 في المائة، وفقدت العملة السودانية الجنيه الكثير من قيمتها، كما عانت الخرطوم ومناطق أخرى من نقص حاد في الخبز.

تدابير حكومية

لتجنب تكرار المظاهرات التي سقط إثرها مائتي قتيل سنة 2013، استدعت السلطات السودانية أثناء الأسابيع الأخيرة أكثر من عشرة من زعماء المعارضة، محذرة إياهم من أي تحركات احتجاجية، كما حوكم عدد من المتظاهرين، عقب اتهامهم بتنظيم تجمعات في العاصمة الخرطوم.
وكان الغضب ردا على إعلان السودان بداية نونبر الماضي زيادة أسعار الوقود بنحو 30 في المائة، بسبب النقص الحاد في المحروقات، نظرا لتراجع احتياطي العملة الصعبة.
وترتب على قرار الحكومة الذي جاء ضمن خطة تقشفية زيادة في أسعار الأدوية بنسبة 100 في المائة إلى 300 في المائة، حسب الأصناف وحجم الدعم الذي كان موفرا لها.
لكن في 25 نونبر الماضي تراجعت الحكومة السودانية عن قرارها بشأن زيادة أسعار الأدوية، وألغت تلك الزيادات بالفعل بعد تصاعد دعوات المعارضة لعصيان مدني.

تدهور اقتصادي

تفاقمت المشاكل الاقتصادية في السودان، منذ انفصال الجنوب في 2011 ليأخذ معه ثلاثة أرباع إنتاج البلاد من النفط، وهو المصدر الرئيسي للنقد الأجنبي ودخل الحكومة.
وأعلن الجهاز المركزي للإحصاء أن معدل التضخم السنوي في السودان قفز نحو عشر نقاط مئوية إلى 29.49 في المائة في نونبر الماضي، من 19.6 في المائة في أكتوبر الماضي، مع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، بعد خفض الدعم، في أوائل نونبر. ومع تضاؤل إيرادات النفط أعلنت الحكومة تخفيضات في دعم الوقود والكهرباء في أوائل نونبر الماضي، وهو ما دفع أسعار البنزين إلى الصعود بنحو 30 في المائة. وقد أثارت الإجراءات التقشفية احتجاجات صغيرة، لكنها نادرة الشهر الماضي، وشنت الحكومة حملة على المعارضين ووسائل الإعلام لقمع الاحتجاج.

اضطراب الأوضاع

مع تزايد الأزمة المالية يشعر المزيد من السودانيين بالاضطراب، مما دفع إلى احتجاجات نادرة شملت الخرطوم ومدن أخرى. ونظم أكثر من 150 محاميا اعتصاما بوسط الخرطوم. وفي أجزاء أخرى من العاصمة استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين، الذين أغلقوا إحدى الطرق. ونتيجة لدعوة النشطاء إلى العصيان المدني، ساد هدوء أكثر من المعتاد شوارع الخرطوم الأسبوع الماضي، بينما لزم بعض المعلمين والصيادلة وغيرهم منازلهم. كما ألقت السلطات القبض على أربعة معارضين، وأغلقت قناة تلفزيونية وصادرت طبعات أربع صحف، في الأسبوع المنصرم.
ولم يتسن الوصول إلى مسؤولين حكوميين للتعقيب، لكن ربيع عبد العاطي، المسؤول الكبير في الحزب الحاكم، الذي يتزعمه البشير قال لرويترز إنه كان لا بد للحكومة أن تخفض الدعم. وأضاف المسؤول ذاته أن سياسات الدعم ستؤدي إلى كارثة وعبء على الاقتصاد، مشيرا إلى أن الدعوة للعصيان المدني فشلت، لأن من أطلقوها محل شك ومن أيدوها ليس لهم ثقل سياسي.
وتزداد الأزمة تفاقما في اقتصاد متعثر، بسبب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عام 1997 على حكومة اتهمتها واشنطن برعاية الإرهاب. وتم تشديد العقوبات عام 2006، لدور البشير في الصراع في دارفور. كما تواجه الشركات صعوبات للحصول على الدولار من البنوك الممنوعة بموجب العقوبات من تلقي تحويلات من الخارج، وهو ما اضطرها للجوء إلى السوق السوداء، حيث الأسعار أعلى. وفي هذا الخصوص، قال مسؤول مالي بشركة تستورد المنتجات الزراعية: «مثلنا مثل كل المستوردين نشتري العملة الأجنبية من السوق السوداء في بعض دول الخليج، وهي تباع هناك بأسعار أعلى من الخرطوم، نتيجة العقوبات الأمريكية التي تحظر التحويلات عن السودان».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى