
روسيا وأوروبا على شفير مواجهة دبلوماسية معقدة، حيث تتقاطع التهديدات المباشرة مع الحسابات الاستراتيجية والاقتصادية لكل طرف. في قلب هذه الأزمة، تتصدر أوكرانيا جدول الأعمال الدولي، وسط خطة سلام أمريكية طموحة تواجه رفض موسكو وتحفّظ أوروبا، فيما يظل ملف الأصول الروسية المجمدة في الاتحاد الأوروبي أداة ضغط حساسة ومفتاحًا لأية تسوية مستقبلية.
بين الضغوط السياسية، والمخاطر المالية والاستعراضات العسكرية، تتكشف لعبة المصالح المعقدة، حيث يسعى كل طرف لضمان موقعه وتحقيق أهدافه دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة، في اختبار حقيقي لقدرة أوروبا على التوفيق بين مصالحها وأمنها، وسط دينامية التهديدات الروسية المستمرة.
خطة السلام الأمريكية.. طموح يواجه الواقع
دفعت المبادرات الأمريكية السريعة لفرض خطة سلام على أوكرانيا إلى تصاعد المطالب داخل الاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف عاجل بشأن استغلال الأصول الروسية المجمدة لدعم كييف، إلى جانب تأكيد حضور التكتل على طاولة المفاوضات.
ومن شأن الخطة الأمريكية لوقف الحرب، المؤلفة من 28 بندا، أن تلزم كييف بالانسحاب من أراض ما زالت تسيطر عليها في منطقة دونيتسك، شرقي أوكرانيا، وتتضمن اعترافا فعليا من أمريكا بسيادة روسيا على مناطق دونيتسك وشبه جزيرة القرم ولوهانسك. ورفض الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، التعديلات التي اقترحتها كييف وأوروبا على الخطة الأمريكية، وقال إن روسيا لا تعتزم بدء حرب مع أوروبا، لكنه أضاف: «إذا قررت أوروبا فجأة القتال، وبدأت به فنحن جاهزون الآن».
وكان الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، يسعى إلى الحصول على دعم من حلفائه الأوروبيين، الذين يخشون أن تبدو الخطة الأمريكية، التي تتم صياغتها دون إشراك كييف أو أوروبا، كأنها قائمة أمنيات لموسكو. وتأتي هذه التحركات الدبلوماسية بينما لا تظهر الحرب، التي أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين وشرّدت ملايين الأوكرانيين، أي مؤشرات على التهدئة.
وبعد قرابة أربعة أعوام على انطلاق الهجوم الروسي واسع النطاق على أوكرانيا، أظهرت بيانات حللتها وكالة «فرانس برس» (أ ف ب)، من «معهد دراسة الحرب»، الأمريكي، أن الجيش الروسي حقق الشهر الماضي أكبر تقدم ميداني له في أوكرانيا منذ نونبر 2024.
وزاد من تعقيد المشهد بالنسبة لكييف اندلاع فضيحة فساد هزت الدائرة المقربة من زيلينسكي، وأسفرت عن إقالة كبير مفاوضيه أندري يرماك. وفي الوقت نفسه لا يسعى الاتحاد الأوروبي، فحسب، إلى إيجاد مقعد له على طاولة المفاوضات، بل تضغط بعض دوله من أجل أن يستخدم التكتل الأصول الروسية المُجمدة لديه لتقديم «قرض تعويضات» لأوكرانيا.
أوروبا والمفاوضات.. بين الضغط والتمثيل
قالت الممثلة العليا للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، كايا كالاس يوم، إن جهود إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا وتحقيق السلام يمكن أن تدخل مرحلة حاسمة عقب جولة جديدة من المحادثات بين أمريكا وأوكرانيا .
وأضافت كالاس للصحافيين، لدى وصولها لحضور اجتماع وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي في بروكسل: «قد يكون أسبوعا محوريا للدبلوماسية».
والتقى الموفد الأمريكي، ستيف ويتكوف، الرئيس الروسي بوتين في موسكو. ووفق تقارير إعلامية، وصف أحد مساعدي بوتين المحادثات بأنها «بناءة»، دون تحقيق تقدم مهم بشأن السلام.
وهمشت واشنطن أوروبا، إلى حد كبير، في مسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الحرب.
وقال وزير الدفاع الدنماركي ترولس لوند بولسن، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للتكتل حاليا: «رغم أن مفاوضات السلام الجارية، لا أرى مؤشرات على استعداد روسيا لوقف القتال في أوكرانيا. يجب وضع ذلك في الاعتبار حتى لا تصبح أوروبا على الهامش بشكل ساذج». وقال زيلينسكي، الاثنين، إنه «ليس من العدل» استبعاد الحلفاء الأوروبيين من محادثات إعادة إعمار أوكرانيا فيما تتكثف الجهود للتوصل إلى تسوية للحرب مع روسيا. وتتصدر دولتا فرنسا وألمانيا، أكبر اقتصادين في الاتحاد، الضغوط التي تهدف لإشراك أوروبا في العملية.
وأشار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى أن أية خطة لإنهاء القتال بين روسيا وأوكرانيا لا يمكن إنجازها إلا بمشاركة كييف والقوى الأوروبية. وأكد المستشار الألماني، فريدريش ميرتس، أنه «لا ينبغي فرض السلام» على أوكرانيا، وأن كييف وحلفاءها الأوروبيين يجب أن يكونوا جزءا من أي اتفاق لإنهاء الحرب.
وأكد رئيس وزراء بولندا، دونالد توسك، مجددا التزام قادة أوروبا بتحقيق سلام عادل ودائم لأوكرانيا، وقال: «هذا أمر جلي. سنواصل دعم أوكرانيا. سوف يمثل انهيار أوكرانيا تهديدا مباشرا لبولندا. كلي أمل أن يستوعب الجميع ذلك، وخاصة في بولندا».
وظهرت دعوات داخل الاتحاد الأوروبي لتعيين رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أو مسؤولة السياسة الخارجية كايا كالاس، أو الاثنتين، من أجل التفاوض باسم التكتل- لكن لا يرى الجميع الوقت مناسبا لانخراط الاتحاد في العملية.
ويرى رئيس سلوفاكيا، بيتر بليجريني، أنه يتعين على القوى العالمية الأخرى أن تتفق أولا قبل دخول الاتحاد الأوروبي مسار التفاوض. وقال إن التكتل لا يُنظر إليه حاليا كقوة كبرى قوية ومؤثرة في ظل أوضاعه وقيادته السياسية.
وقال وزير الخارجية الهولندي، ديفيد فان فيل، إنه لا يرى ضرورة في أن يتحدث شخص أو اثنان باسم الاتحاد الأوروبي حول السلام في أوكرانيا. وصرح، في وقت سابق، بأن «الأهم بالنسبة لنا أن تكون أوكرانيا داعمة لأي خطة سلام مطروحة».
تجميد الأصول.. أداة مالية أم فخ سياسي؟
تشمل الخطة الأمريكية مقترحا لرفع التجميد عن نحو 200 مليار يورو من أصول البنك المركزي الروسي المحتجزة لدى الاتحاد الأوروبي، وتسليم جزء منها لأمريكا وروسيا.
ويرى العديد من قادة الاتحاد الأوروبي أن ذلك يتجاوز كل الحدود – وسارعوا إلى الضغط على ترامب لسحب طلبه.
وقال الرئيس الفرنسي ماكرون: «الأوروبيون فقط هم من يقررون ما سنفعله بالأصول الروسية المجمدة الموجودة في أوروبا».
وجاء الاقتراح الأمريكي بينما كان التكتل يناقش خطة لاستخدام الأصول المجمدة في بلجيكا لتمويل قرض بقيمة 140 مليار يورو لأوكرانيا، ما زاد الأمر حساسية.
وأكدت كالاس مجددا موقف بروكسل: ضرورة تعزيز الضغوط على روسيا عبر العقوبات والموافقة على إتاحة الأصول الروسية المجمدة لتقديم قرض لأوكرانيا.
وبحسب بيانات الاتحاد الأوروبي، قام التكتل بتجميد نحو 210 مليارات يورو من الأصول السيادية الروسية – معظمها محتجز لدى شركة «يوروكلير» في بلجيكا، التي ذكرت، في تقرير نتائجها لعام 2024، أنها تحتفظ بـ183 مليار يورو من هذه الأصول.
ويقضي مقترح «قرض التعويضات» بأن تسدد أوكرانيا الأموال فقط عندما تدفع روسيا تكاليف الأضرار الناجمة عن غزوها الشامل.
وأعلن البنك المركزي الأوروبي أنه لا يمكنه دعم خطة الاتحاد، ما ألقى بظلال شك على إمكانية التوصل لاتفاق هذا الشهر.
وبحسب صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، كانت المفوضية استفسرت من البنك عما إذا كان يمكنه العمل كملاذ أخير لـ «يوروكلير» لتجنب حدوث أزمة سيولة، لكن البنك رفض بدعوى أن ذلك قد ينتهك معاهدات منع التمويل النقدي. ولطالما أعلنت بلجيكا مخاوفها بشأن المخاطر المالية والقانونية لاستخدام هذه الأصول.
وأكد رئيس الوزراء البلجيكي، بارت دي ويفر، هواجسه في رسالة لرئيسة المفوضية الأوروبية، وصف فيها الخطة بأنها «خاطئة من الأساس»، وقال إن استخدامها سينتهك «مبدأ أساسيا في القانون الدولي»، ويُقوض استقرار الأسواق المالية العالمية. وأشار دي ويفر إلى أن دولا تحتفظ باحتياطيات كبيرة في أوروبا تختار أن تسحبها، حتى لو أكد الاتحاد الأوروبي أن الخطة لا تعتبر مصادرة غير قانونية. وحذر دي ويفر من أن الاتحاد الأوروبي قد يضطر في النهاية إلى سداد القرض، وهو ما يستدعي تقديم ضمانات من الدول الأعضاء، وأضاف أنه ينبغي على الدول التي لديها الأصول المجمدة أن تساهم كلها في الخطة، وليس بلجيكا وحدها. أما رئيس وزراء بلغاريا، روزين جليازكوف، فقال إن الأصول الروسية المجمدة في بلاده ليست جزءا من ضمانات القرض لأوكرانيا.
وأضاف: «الأصول الروسية المعنية عبارة عن أموال مودعة لدى البنك المركزي الأوروبي ومجمدة من قبل يوروكلير. إذا كانت هناك أصول لأشخاص أو شركات خاضعة للعقوبات في بلغاريا، فهي ليست جزءا من هذه المجموعة المالية، بل مجمدة، ولا يمكن إجراء معاملات عليها». وحذر رئيس الوزراء البلجيكي، دي ويفر، من احتمال انتقام روسيا، خاصة ضد يوروكلير وبلجيكا، لافتا إلى أن هذه الأصول قد تلعب دورا في مفاوضات السلام المستقبلية، وأن استخدامها الآن قد يُعقد العملية. وقال رئيس وزراء سلوفينيا، روبرت جولوب، إن بلاده تتفهم موقف بلجيكا وطلبها الحصول على ضمانات إذا ما جرى استخدام هذه الأموال. وأضاف: «لكن يبقى من قبيل الصواب أن الأصول المجمدة أقوى أداة تملكها أوروبا، ويجب استخدامها بهدف واحد: تحقيق السلام في أوكرانيا». وأكدت بولندا دعمها للخطة، بحسب ماذكره نائب وزير الدفاع، باويل زاليفسكي، عقب اجتماع وزراء دفاع الاتحاد في بروكسل.
لافروف ورسائل القوة
لم تخلُ تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الأخيرة من التحذيرات، التي أكدت عدم نية موسكو لشن حرب على القارة الأوروبية، حول أية محاولة لمصادرة الأصول الروسية المجمدة أو نشر قوات أجنبية على الأراضي الأوكرانية، ما يضع أوروبا أمام اختبار دبلوماسي وأمني شديد التعقيد.
وأكد الباحث في العلاقات الدولية، طارق وهبي، أن تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، التي تنص على عدم وجود نية حالية لشن الحرب، تشكل رسائل دبلوماسية تطمينية أكثر منها قرارات استراتيجية فعلية. ورأى الباحث أن هذه التصريحات لا تعكس موقف بوتين المباشر، بل هي رسائل موجهة لمن يريد سماعها، على غرار ما يفعله الدبلوماسيون في الأمم المتحدة.
وأشار المتحدث إلى أن روسيا سبق وأن شنت حربين خلال عهدين مختلفين للرئيسين الفرنسيين ساركوزي وماكرون، ما يعكس نهج موسكو في رفع سقف التهديدات، وجعل الأوروبيين يذهبون بعيداً في برامج العسكرة، التي تتطلب سنوات من التنفيذ لتصبح فعالة، لافتا إلى أن روسيا نجحت في استعادة جزء من قوتها العسكرية واحتلال أراضٍ في أوكرانيا، ما يعكس استمرار موسكو في استراتيجيتها القائمة على القوة كأداة أساسية في تحقيق مصالحها.
تحالف استراتيجي بين أوكرانيا وأوروبا
تطرق الباحث إلى أن دفاع أوروبا عن أوكرانيا لا يقتصر على حماية سيادة الدولة، بل يرتبط بمصالح استراتيجية، خصوصًا في مجالات الطاقة والتجارة، وأوضح أن دول أوروبا الشرقية، من بولندا ودول البلطيق إلى بلغاريا ورومانيا، تضغط على الاتحاد الأوروبي لضمان دعمها الأمني والعسكري، نظرًا لما تعتبره تهديداً مستمراً من موسكو.
وأوضح وهبي أن روسيا تسعى، عبر تهديداتها المستمرة، إلى إعادة تشكيل نفوذها الإقليمي، مستوحاة من تصورها الخاص لما كان يُعرف بـ«الاتحاد السوفياتي»، مع التأكيد على أن مفهوم القوة هو الأداة الوحيدة التي يفهمها الرئيس بوتين في إدارة الملفات الدولية.
الأصول الروسية.. تحديات اقتصادية وسياسية
تناول الباحث ملف الأصول الروسية المجمدة في أوروبا، مشيرًا إلى أن فرنسا وبريطانيا وبلجيكا سيطرت على ممتلكات الأوليغارش المقربين من بوتين، واستخدمت جزءاً من هذه الأموال لدعم أوكرانيا عسكرياً. وأوضح وهبي أن هناك جدلاً داخل الاتحاد الأوروبي حول الأولوية القانونية لاستعمال هذه الأموال، وما إذا كان يجب استخدام الأصول نفسها أو فوائدها لدفع تكاليف الحرب، وهو ما يشكل تهديداً مباشراً إذا لم يتم الاتفاق على آلية واضحة، بحسب تهديدات بوتين ولافروف وميدفيديف.
وأشار وهبي إلى أن التعامل القانوني مع هذه الأموال يمكن أن يمنع نشوب حرب مباشرة، مع إمكانية مطالبة روسيا لاحقًا بحقوقها القانونية إذا تم التوصل إلى اتفاق سلام، مؤكدًا أن هذا الملف سيظل نقطة حساسة في أي مفاوضات مستقبلية.
الناتو والضمانات الأمنية المتشابكة
سلط وهبي الضوء على تصريحات ترامب التي تقلل من أهمية أوروبا في حلف الناتو، مشيرًا إلى أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في عهده ركزت على تحميل الدول الأوروبية مسؤولية دفاعها الذاتي، مقابل تهديد بسحب الدعم العسكري.
وأشار الباحث إلى أن هذا النهج يفرض على أوروبا خيارين رئيسيين: إما تعزيز قدراتها العسكرية والاكتفاء بأمن ذاتي بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، أو إعادة النظر في شراكاتها التقليدية مع الولايات المتحدة، وهو ما يثير تساؤلات حول استقرار الحلف مستقبلاً.
وأكد وهبي أن تصريحات ترامب حول الانتخابات الأوكرانية تعكس ما وصفه بـ«مهزلة طبيعية»، مشيرًا إلى أن خلفية بوتين العسكرية تجاه أوروبا تتقاطع مع هذا النهج الأمريكي، ما يزيد من تعقيد الحسابات الاستراتيجية الأوروبية.
وتابع الباحث بالإشارة إلى الاجتماعات المرتقبة بين الشركاء الأوروبيين الرئيسيين وأوكرانيا، والتي تهدف إلى وضع خطة لضمان الأمن الأوروبي والأوكراني، مع محاولة التوفيق بين التهديدات الروسية والمصالح الأوروبية، وسط مراقبة دقيقة لأهداف بوتين في إعادة تشكيل النفوذ الروسي على الساحة الدولية.
وأكد وهبي أن الأزمة الأوكرانية لن تنتهي بمجرد التهديدات أو العقوبات، بل تتطلب موازنة دقيقة بين القوة العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، مع ضرورة تحقيق توازن بين الأمن الأوروبي ومصالح أوكرانيا، في ظل متغيرات سريعة في السياسة الدولية.





