
احتل اليوتيوب مساحة مهمة في العالم الافتراضي للإنترنت، وصار تداول الملايين من أفلام الفيديو تحت مسميات عدة داخل الموقع نفسه، أو مواقع أخرى أمرا شائعا ومألوفا. لقد سمح هذا الموقع لأعداد هائلة من البشر عبر العالم في أن يخلقوا لأنفسهم قنوات خاصة يبثون فيها أفلامهم المصورة، من أجل الحصول على نقرات الإعجاب، ومشتركين في القناة طمعا في عائد مادي مرتبط هو الآخر بعدد المشاهدات أو المشتركين أو نقرات الإعجاب. إنه عالم عجيب هذا الذي يحدث أمام أعيننا، فقبل عقدين من الزمن، كان بالإمكان اعتباره ضربا من الخيال العلمي. لكن الحقيقة الماثلة أمامنا اليوم، هي أن شكلا من التواصل الإعلامي قد شق طريقه في أرض الواقع بكل ما يحمل بداخله من سلبيات وإيجابيات. من أهم ما يمكن ملاحظته أنه ذو صبغة فردية في العموم مع بعض الاستثناءات القليلة، إضافة إلى اعتماده على التكنولوجيا الحديثة في التصوير وتسجيل الصوت لإنتاج أفلام فيديو قصيرة يتوخى أصحابها أن تكون مثيرة وجذابة للمشاهد. انطلقت البدايات الأولى لليوتيوب بدائية على مستوى الشكل الفني من حيث الصورة والصوت وبناء المشاهد، ثم سرعان ما أخذت تشهد تطورا متزايدا ووضع قواعد خاصة أصبحت مع قوة المنافسة تتنوع هي الأخرى، لكنها ظلت مع كل ذلك تستهدف غاية وحيدة، هي الزيادة في عدد المشاهدات والمشتركين للرفع من الإيرادات.
اختراع خلقته الصدفة المحضة
إذا ما أردنا أن نعود إلى حكاية اليوتيوب ونشأته الأولى، سنجد أنفسنا أمام مغامرة شبان ثلاثة من أصول مختلفة، الأول هو ستفين تشين من تايوان، هاجر مع عائلته إلى أمريكا، حيث أتم دراسته، الثاني أمريكي هو تشاد ميريديث هيرلي، والأخير جواد كريم من أصول بنغالية، حيث ولد في ألمانيا، وهاجرت أسرته إلى أمريكا، حيث أكمل دراسته. كان هؤلاء الشبان الثلاثة يعملون موظفين في الشركة الأمريكية العملاقة (باي بال)، ما يجمعهم هو تخصصهم في علوم الحاسوب وولعهم الشديد بالابتكار وخلق تطبيقات معلوماتية جديدة. كانت فكرة اليوتيوب قد انطلقت في البداية من موقف بسيط سنة 2004، حيث أراد جواد كريم رفقة أصدقائه في حفلة عشاء أن يسجل شريط فيديو لهذه المناسبة ومشاركته مع الآخرين. كانت الوسيلة الوحيدة حينها هي إرسال شريط الفيديو عن طريق البريد الإلكتروني. المشكلة التي صادفتهم تتحدد في كون البريد الإلكتروني لا يتحمل استقبال الملفات الكبيرة، إضافة إلى ضعف أدائه على العموم. تساءل الأصدقاء: لماذا لا تكون هناك منصة بإمكان مستخدميها تحميل أشرطة الفيديو ومشاركتها مع الآخرين بسهولة وبأداء قوي مهما كان حجمها؟ فكان أن أطلق الأصدقاء الثلاثة ولأول مرة في 23 أبريل 2005 موقعا لمشاهدة أشرطة الفيديو تحت مسمى اليوتيوب، من خلال شريط الفيديو الشهير «أنا في حديقة الحيوان» كانت مدته لا تتجاوز 18 ثانية، قد صور في حديقة سان دييغو للحيوان. نرى فيه كريم جواد يتحدث عن الأفيال في حديقة الحيوان. لا أحد كان يدرك حينها أن هذا الشريط البسيط سيحدث ثورة هائلة في العالم الرقمي.
من الاختراع إلى الانتشار الواسع
إن الانتشار الواسع لهذا الموقع دفع الشركات الكبرى والرائدة في هذا المجال، مثل شركة «غوغل» أن تدق بابهم سنة 2006، وتشتري منهم هذا الموقع بصفقة فاقت المليار دولار، ليدخل دائرة أوسع في الانتشار على المستوى العالمي. هذا الاستحواذ مكن اليوتيوب من النمو سريعا والاستفادة من التقنيات المتقدمة لـ«غوغل» ومن منصتها الإعلانية، إضافة إلى الدعم المالي والتقني، وتحول مبتكرو اليوتيوب إلى مستشارين مهمتهم الأساسية تطوير أدائه. ذلك أن اليوتيوب يعتمد بالدرجة الأولى على المحتوى الذي ينتجه المستخدمون، ومهمته الأساسية تتلخص في تسويقه على أوسع نطاق.
لقد عرف اليوتيوب بروز ما يسمى بصناع المحتوى والمؤثرين، وهي ظواهر أفرزتها وتطورت مع نشأته، حيث ساهم في تغيير المنظور التقليدي للإعلام بشكل جذري، وتحول المتلقي العادي إلى منتج للمحتوى ومشارك في صناعته. صاحب هذا التطور الكبير في إنتاج المحتوى ظهور نماذج جديدة تتفاوت قيمتها بين الجودة والرداءة، بين الالتزام بالضوابط الإعلامية والتحلل منها بشكل كامل. إذ المحدد الأساسي في عالم اليوتيوب كما هو معلوم، أن نجاح المحتوى مشروط فقط بعدد المشاهدات والمشتركين الذي تعبر عنه حجم الإيرادات المادية وليست قيمة المحتوى نفسه. لقد كان من المفروض، فضلا عن المشاهدة، أن يصبح موقع اليوتيوب منصة للإبداع وفسح المجال للأصوات التي لا تجد المجال للتعبير عن الذات وإبراز المواهب، التي تفتقر إلى وسيلة لإظهار قدراتها من قبل المؤسسات الثقافية والفنية والفكرية الموكول إليها هذا الدور وهذه المهمة. قد نستطيع أن نفهم هذه التحولات التي ميزت المشهد الإعلامي والثقافي عموما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع والمنصات الإعلامية، من قبيل «اليوتيوب» وغيرها… ما أشار إليه الفيلسوف الكندي «ألان دونو» في كتابه الشهير «نظام التفاهة» بأن تطور الليبرالية الجديدة وصل إلى حد إنتاج أفراد «متوسطين» بالمعنى السلبي، أشخاص قادرين على إنجاز مهام محددة دون أن يكون لهم إلمام بالعمل المنوط بهم. يضيف كذلك، أن من خصائصه المميزة فصل العمل عن الفكرة، وبالتالي تنميطه وتعليبه، فتسود فكرة أن كل واحد عليه أن يجيد اللعبة ويمتثل لقواعدها وهذا هو السبيل الأوحد للنجاح، ومع توسيع قاعدة «المتوسطين» لم يعودوا فقط أغلبية، بل بات الأمر يتعلق بسلوك معياري داخل هذا النوع من المجتمعات… هكذا، كان شريط «أنا في حديقة الحيوان» البسيط والخالي من أي دلالة كبيرة، قد فتح الباب لحقبة جديدة وغير مسبوقة في حياتنا المعاصرة.
نافذة:
عرف اليوتيوب بروز ما يسمى بصناع المحتوى والمؤثرين وهي ظواهر أفرزتها وتطورت مع نشأته حيث ساهم في تغيير المنظور التقليدي للإعلام بشكل جذري وتحول المتلقي العادي إلى منتج للمحتوى ومشارك في صناعته





