
يونس جنوحي
«نصف قرن، يكتمل هذا العام، على تأسيس لجنة القدس التي ترأسها الملك الراحل الحسن الثاني، وجُددت فيه ثقة رئاستها، مرة ثانية وثالثة..
كان المغرب أول مبادر إلى تخصيص مساعدات للفلسطينيين، في وقت كان فيه ياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، يحلق من عاصمة عربية إلى أخرى، على متن طائرة أردنية، ولا يحصل من زعماء عرب قوميين، على رأسهم حافظ الأسد وصدام حسين، إلا على الوعود والوهم..
وحتى عندما تأكد لياسر عرفات، أن داعمه الأول هو الملك الراحل الحسن الثاني الذي فك العزلة حرفيا عن الفلسطينيين سنة 1977 و1979، ثم في 1981، و1984، وغيرها من المحطات الحرجة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لم يحل هذا دون ارتكاب عرفات لعدد من الأخطاء في حق المغرب.. علاقة المغاربة بالمقدسيين تعود إلى قرون خلت، لم تتوقف فيها قوافل الإعانات.. منها ما جمعه المؤرخون، ومنها ما كشفته «تسريبات» مراسلات الخارجية الأمريكية!».
+++++++++++++++++++++++++++++++++
الرباط والقدس.. من زمن «عائدات الأوقاف» إلى تأسيس وكالة بيت مال القدس سنة 1998
ما بين القرنين 13 و15، اللذين امتد فيهما وجود الدولة المرينية في المغرب، كانت توجد فعلا ممتلكات مغربية في قلب مدينة القدس..
اختار بعض المغاربة الاستقرار النهائي في بيت المقدس، وكان جلهم من المشايخ والعلماء وكبار التجار.. وبعد رحيلهم، أوصوا أن تبقى ممتلكاتهم وقفا تُحول عائداته لإعانة الأسر الفلسطينية المعوزة..
بلدية القدس، تمتلك اليوم آلاف الوثائق التي تؤكد امتلاك المغرب لأصول وقفية في الأراضي الفلسطينية.
ومع العلويين، تعززت المساعدات المغربية للفلسطينيين، حيث كانت تخصص مساعدات سنوية لبيت المقدس، تُرسل مع المساعدات التي واظب المغرب على إرسالها إلى موسم الحج كل عام. وشهدت هذه المساعدات انتعاشا كبيرا، خصوصا في عهد السلطان محمد بن عبد الله.
مع وصول السلطان سيدي محمد بن يوسف إلى الحكم سنة 1927، كانت أخبار الاحتلال البريطاني لمنطقة الشرق الأوسط، تصل إلى السلطان الشاب. وفي أربعينيات القرن الماضي، كان يتابع ما تنشره الصحف في الشرق، وما تبثه الإذاعات العربية، من تطورات في القضية الفلسطينية.
وكان موضوع الأوقاف المغربية يحظى باهتمام السلطان، وهو ما يؤكده أرشيف مراسلات الخارجية الفرنسية في سنة 1952. إذ توجد وثائق لدى الخارجية الفرنسية تؤكد متابعة الخارجية في باريس لموضوع ممتلكات المغرب وتونس لأصول عقارية في الأراضي الفلسطينية، استولى عليها الإسرائيليون. وعندما زار الملك الراحل محمد الخامس فلسطين سنة 1960، كان موضوع الوقف المغربي أحد أهم المواضيع التي عرضها عليه الفلسطينيون، خصوصا وأن الإسرائيليين باشروا عمليات هدم واسعة، محت عقارات مغربية يعود تاريخها إلى أكثر من أربعة قرون.. وكانت عائدات كراء هذه العقارات، وقفا من أصحابها المغاربة المتوفين في القدس، إلى المقدسيين.
كان الملك الراحل الحسن الثاني منذ ترأسه للجنة القدس سنة 1975، يتابع موضوع العقارات المغربية، حتى أنه خصص مبالغ مهمة لترميم بعض البنايات، خصوصا في حارة المغاربة.
كانت لجنة القدس كثيرة الاختصاصات، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو مخصص لإرسال المساعدات للفلسطينيين، سيما في فترات الاحتقان والحصار.. لكن وكالة بيت مال القدس، التي تأسست سنة 1998، جاءت لتصبح الإطار الأبرز للدعم المالي الذي خصصه الملك الراحل الحسن الثاني لمساعدة الفلسطينيين، ليس بإعانات مالية وحسب، ولكن أيضا عن طريق دعم وتمويل لمشاريع فلسطينية تتولى لجنة خاصة دراستها وتطويرها لضمان نجاعتها واستفادة الفلسطينيين منها.
حدث كل هذا في وقت رفعت فيه دول كبرى، كانت تعادي المغرب في سياق قضية الصحراء، شعارات جوفاء، لم تفد الفلسطينيين في شيء، حتى أن الرئيس ياسر عرفات كان أكثر من اكتوى بالوهم الذي باعه له رؤساء عرب، حاولوا «تسميم» العلاقة بينه وبين الملك الراحل الحسن الثاني، في أكثر من مناسبة.
8 ملايين فرنك مساعدات محمد الخامس لفلسطين.. وهذه كواليس زيارته للقدس
لم يكن الملك الراحل محمد الخامس يخفي تبنيه للقضية الفلسطينية، فقد حث أفواج الحجاج المغاربة خلال أربعينيات القرن الماضي، على زيارة بيت المقدس خلال رحلات الحج، وعلماء مغاربة نقلوا تحياته إلى علماء مقدسيين، وحدثوا الملك الراحل عن «باب المغاربة»، وحب الفلسطينيين لأهل المغرب. حتى أن بعض المصادر لم تنف صرف السلطان سيدي محمد بن يوسف مساعدات مالية لأهالي فلسطين، حمّلها علماء مغاربة ترأسوا الوفد المغربي إلى الحج، بعد أحداث 1948 الأليمة. وهناك تأكيدات أن تلك الأموال كانت من مال السلطان الخاص.
في سنة 1960، وبالضبط يوم 20 يناير، حل الملك الراحل محمد الخامس في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد أن توجه إليها من الأردن.. وكانت تلك الزيارة الرسمية، حدثا غطته كل الصحف العربية، في لبنان والعراق وسوريا ومصر.. وتحدثت عن مبادرة ملكية لفك العزلة عن أهالي فلسطين وإعانتهم ماديا..
ما زاد من أهمية زيارة الملك الراحل محمد الخامس إلى القدس، أنه التقى عددا من الشخصيات الفلسطينية التي نقلت إليه حقيقة الأوضاع الإنسانية في القدس وبقية مناطق فلسطين، وذكرت أمامه أهمية المساعدات المغربية التي يتلقاها الفلسطينيون من عائدات العقارات التي وقفها أصحابها المغاربة لفائدة الفلسطينيين، خصوصا في حارة المغاربة التاريخية..
كان الملك الراحل محمد الخامس يتوفر على معطيات في هذا الباب، نقلها له بعض العلماء المغاربة، خصوصا شيخ الإسلام العربي العلوي، والعلامة المختار السوسي.. وهذان العالمان قدما للملك الراحل شروحات مفصلة، خلال استقبال الوفد المغربي المتجه إلى الحج بعد 1956، بخصوص تاريخ وجود المغاربة في القدس، وأبرز الشخصيات العلمية المغربية التي اختارت الاستقرار بين المقدسيين، خلال القرنين الماضيين.
الزيارة الملكية إلى القدس، حظيت بثناء كبير في معظم الدول العربية، خصوصا في مصر والعراق، حيث خصص راديو «العرب» تغطية مهمة لزيارة الملك الراحل محمد الخامس إلى القدس.. في ما تحدثت الصحافة المغربية عن الزيارة، في مراسلات مفصلة، ضمت بالتفصيل لائحة بأسماء الشخصيات التي التقاها الملك الراحل، والأنشطة التي حضرها طيلة مدة مقامه في فلسطين.
لكن أكثر ما حظي باهتمام الصحافة الدولية، زيارة الملك الراحل إلى مخيمات الفلسطينيين الذين سُلبت أراضيهم في أريحا، وكان هذا الملف وقتها حارقا. الزيارة اعتبرت رفضا مغربيا للوضع الذي كان يعيشه آلاف الفلسطينيين المهجّرين.
تقول بعض المصادر إن الملك الراحل محمد الخامس التقى خلال هذه الزيارة ببعض أبناء المغاربة الذين استقروا نهائيا في القدس، وجددوا له تمسكهم بالمغرب، واعتبرهم سفراء له بين الفلسطينيين، ومناصرين للقضية الفلسطينية.
قبل الزيارة بسنة واحدة، كان الملك الراحل محمد الخامس قد أمر أن تصرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مبلغ مليون فرنك، مساعدة للفلسطينيين. وخلال زيارته، كان الملك الراحل قد تلقى تأكيدات من الفلسطينيين أنفسهم أن مساعداته قد وصلت، وقدمت عدد من الجهات الفلسطينية شكرها للملك الراحل.
وبحسب أرشيف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، فإن الملك الراحل محمد الخامس أمر أن تصرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية أزيد من ثمانية ملايين فرنك مساعدة للفلسطينيين، ما بين سنتي 1952 و1959. وتولى الأردنيون، بتنسيق مع وزارة الأوقاف المغربية، توزيع المساعدات على الميدان. دون احتساب المبالغ التي وزعت خلال زيارة الملك الراحل سنة 1960، والتي تقول بعض المصادر إنها سُلمت نقدا إلى بعض الشخصيات الفلسطينية التي التقت الملك الراحل محمد الخامس خلال الزيارة، وطلب أن تُوزع على العائلات الفقيرة، وسكان مخيم «أريحا»، الذي سبق أن عاينه الملك الراحل بنفسه، ووقف على حجم معاناة ساكنيه.
+++++++++++++++++++++++++++++++++
تسريبات وثائق «CIA» عن «المد والجزر» بين الحسن الثاني وعرفات
من جملة الوثائق التي تسربت سنة 2012، بين حزمة مراسلات الخارجية الأمريكية التي فجرتها تسريبات «ويكيليكس» الشهيرة، تلك التي تتعلق بمراقبة واشنطن لتحركات ياسر عرفات، عندما تزعم حركة التحرير الفلسطينية.
جاء في إحدى هذه الوثائق، والتي تحمل الترقيم A12064-11، أن عرفات لم يكن راضيا سنة 1978، لأن الملك الراحل الحسن الثاني رفض مرة أن يزوده بمبلغ مالي مهم، كمساعدة للفلسطينيين، ولم يتقبل أن عرفات أن يرد الملك الحسن الثاني في وجهه طلبا.
لكن الحقيقة التي لم يكن يُدركها ياسر عرفات وقتها أن الأمريكيين كانوا يراقبونه، وكانت لدى فرنسا معلومات استخباراتية مفادها أن ياسر عرفات يتلقى أموالا من جهات مشبوهة. وكان الجزائريون متورطون في هذا الاتهام، بسبب علاقة هواري بومدين، منذ بداية السبعينيات، مع أحد المطلوبين من أمريكا اللاتينية للسلطات الفرنسية، بعد ارتكابه أعمال إرهابية فوق التراب الفرنسي، ويتعلق الأمر برجل العصابات «كارلوس» الشهير، الذي تورط في عملية اختطاف طائرة وزراء النفط، وأيضا تصفية رجال شرطة فرنسيين، وكان مرحبا به لدى أفراد منظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن قدم لهم وعودا بتوفير دعم مالي مهم.
ما حدث أن عرفات استقل الطائرة وجاء إلى الملك الراحل ليطلب منه مبلغا ماليا كبيرا كدعم للفلسطينيين، لكن الحسن الثاني اقترح عليه أن يُرسل إعانات مهمة بدل منحه المال، وهو الأمر الذي لم يوافق عليه عرفات.
لم يكن ياسر عرفات يُدرك أن الملك الراحل يُعفيه من مشاكل تتربص به، بخصوص نقل واستعمال المبالغ الضخمة التي كان يتلقاها بسخاء من جهات أخرى مشبوهة..
استغل العقيد القذافي الأمر فور علمه، بطريقة غريبة، أن عرفات غادر المغرب غاضبا، بعد أن رفض الملك الحسن الثاني تزويده بالمال، ليتصل به ويطلب منه زيارة ليبيا لمنحه المال اللازم، لكن الأمر لم يتم في النهاية، لأن عرفات كان يعلم أن الملك الحسن الثاني لن يروقه الأمر. وخضع في النهاية لعرض الملك وقَبِلَ المعونة المغربية للشعب الفلسطيني، والتي كانت عبارة عن إعانات غذائية وأغطية.
وفي مناسبة أخرى، بحسب وثائق «ويكيليكس» دائما، توجه ياسر عرفات إلى ليبيا سنة 1981، للحصول على دعم مالي من القذافي، لكنه فوجئ برفض القذافي مساعدته، ليتأكد لياسر عرفات أن عرض المساعدة المالية الذي «لوّح» به القذافي في وجهه سابقا، لم يكن سوى مزايدة في إطار «حربه» ضد المغرب.
مرت السحابة فوق سماء العلاقة بين عرفات والملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يجعل من قضية الفلسطينيين قضيته الأولى، بترؤسه للجنة القدس.
سُئل الملك الحسن الثاني مرة، بحضور عرفات، من طرف صحافيين فرنسيين، عن سر التقارب بينه وبين عرفات، في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون يتعرضون لضغط أمريكي لإيقاف عمليات المقاومة، ورد بأن علاقتهما تفوق بكثير علاقة ملك بزعيم دولة أخرى تعيش أوضاعا صعبة، وترقى إلى درجة الأخوة.
يصعب حساب عدد المرات التي وصل فيها عرفات إلى المغرب متوترا، وغادره منشرحا. فقد كان يأتي لأخذ النصائح من الملك الحسن الثاني في كل مرة تضيق عليه الكماشة في الشرق الأوسط، ولولا احتماء «أبو عمار» كما يُلقب بمظلة الملك الحسن الثاني، لربما كانت الكماشة لتضيق عليه أكثر، خصوصا وأنه كان يعرف التقدير الذي حظي به الملك على الساحة الدولية، سيما في سنوات الثمانينيات بكل الأحداث المتوترة التي عرفها العالم في ذلك الوقت.
خمسون عاما على ترؤس الحسن الثاني للجنة القدس.. نصف قرن من المعونات
عندما عُقد المؤتمر الإسلامي في مدينة جدة السعودية سنة 1975، حظي قرار تعيين الملك الراحل الحسن الثاني رئيسا للجنة بالإجماع.
كانت اللجنة مكونة من المملكة العربية السعودية وبنغلاديش، غينيا، أندونيسيا، وإيران والنيجر والأردن ولبنان والمغرب وباكستان ومنظمة التحرير الفلسطينية، والسينغال، والعراق وسوريا وموريتانيا.
مرة أخرى سنة 1979، تجدد قرار اعتماد الملك الراحل الحسن الثاني رئيسا للجنة القدس، بالإجماع..
وفي سنة 1980، دعا الملك الراحل الحسن الثاني من مدينة فاس، باعتباره رئيسا للجنة القدس، إلى ضرورة تفعيل هذه اللجنة بما يستجيب لتطورات القضية الفلسطينية في ذلك الوقت.. ومن وقتها، واللجنة ترعى موضوع الإعانات للفلسطينيين، والإطار القانوني لعدد من المبادرات التي دعا إليها المغرب بصفته رئيسا للجنة، وأيضا مسألة الضغط على المجتمع الدولي مثل ما وقع في نيويورك في شتنبر سنة 1983، عندما فاجأ الملك الراحل الحسن الثاني الجميع بدعوته إلى عقد اجتماع للجنة القدس في نيويورك، حيث كان تعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والثلاثين.
كان الملك الراحل الحسن الثاني، عندما يتعلق الأمر بالإعانات المالية للفلسطينيين، باعتباره رئيسا للجنة القدس، دقيقا جدا في مطالعة تحديثات الجرد، وهو ما ترسخ أكثر عندما تأسست وكالة بيت مال القدس الشريف سنة 1998، والتي كان للملك الراحل الحسن الثاني دور أساسي في إطلاقها، لدعم مشاريع في القدس.
كان الملك الراحل الحسن الثاني، بفضل المعطيات التي كان يتوفر عليها من وزارة الأوقاف المغربية، يدرك أن العائدات الوقفية المغربية لفائدة الفلسطينيين تراجعت كثيرا، وأن الوقت قد حان للبحث عن مصدر تمويل قار، لدعم مشاريع فلسطينية تخفف وطأة الحياة والحصار عن الفلسطينيين.
منذ السبعينيات، كان الملك الراحل الحسن الثاني يتوفر على معطيات مهمة، سبق لنشرة «دعوة الحق» التي تصدرها وزارة الأوقاف المغربية، أن تطرقت إليها، خصوصا ما جاء في العدد 215، الصادر في منتصف التسعينيات:
«تتوفر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على إحصاء لممتلكات أوقاف المغرب بالقدس الشريف. وقد أخذ منها ميكرو فيلم للإيداع في الخزانة العامة.
وتوجد أكثر أوقاف المغاربة في القدس الشريف قرب حائط المبكى، وهي بنايات قديمة يرجع البعض منها إلى عهد الدولة المرينية، وتوجد خارج السور قرب مقبرة المسلمين بقعة أخرى مساحتها 400 متر مربع. وقد أقدمت السلطات الصهيونية على هدم 270 ملكا وقفيا حتى نهاية عام 1977، ولم تبق قائمة إلى الآن إلا أربع بنايات.
وكانت السلطات الصهيونية تنوي هدم مسجد المغرب، فاجتمع المغاربة بالقدس الشريف لترميم المسجد وتبييضه والاعتكاف فيه. فتخلت السلطات الإسرائيلية عن قصدها السابق، أما في ما يخص زاوية أبي مدين الغوث، التي بناها السلطان أبو يوسف المريني، فإن السلطات الصهيونية ما زالت تقوم بحفريات تحتها.
ويبلغ عدد المغاربة المقيمين بالقدس 2740 فردا يتوصلون بإعانات سنوية من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية، باسم صاحب الجلالة الحسن الثاني نصره الله».
عندما عُقد المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر وابتلع عرفات طُعم حضور بوليساريو
الخامس والعشرون من أبريل سنة 1987، بادر الرئيس الجزائري وقتها، الشاذلي بن جديد، إلى إعلان استعداد الجزائر استضافة دورة المجلس الوطني الفلسطيني. حضر ياسر عرفات، ووجوه من القيادات الفلسطينية الأخرى، بالإضافة إلى ممثلين عن الدول العربية الداعمة للقضية الفلسطينية.
كان الملك الراحل الحسن الثاني قد أرسل مستشاره أحمد بن سودة ممثلا للمغرب في الاجتماع.. وتفجر خبر إقحام الجزائريين لممثلين عن البوليساريو، لم يتردد الرئيس الفلسطيني في مصافحتهم ومعانقتهم والتقاط الصور التذكارية معهم، وهو ما خلف استياء كبيرا في أوساط الدول الداعمة لمشروعية القضية المغربية وسيادة المغرب على كامل صحرائه.
ينقل الدبلوماسي المغربي محمد التازي، في مذكراته، تفاصيل ما وقع، خصوصا وأنه حظي باستقبال من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، عقب الحدث مباشرة.
يقول: «كان يوم عشرين أبريل يوما حزينا عنده أكرمه الله مثواه، فقد فوجئ بمستشاره السيد أحمد بن سودة، الذي أوفده جلالته على رأس وفد هام إلى الجزائر للمشاركة في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني، فوجئ به يبلغ جلالته أن رئيس جمهورية الأشباح صنيعة الجزائر قد حضر الجلسة بجانب الرئيس عرفات الذي استقبله بالعناق والقبل، وألقى خطابا وصف فيه الوجود المغربي في الصحراء كالوجود الإسرائيلي في فلسطين، وكان الوفد قد تلقى تأكيدات من المنظمة، بأن الدعوة لم توجه إلى المرتزقة.
في اليوم التالي وجه جلالته خطابا إلى الشعب، حلل فيه ما جرى في الجزائر بمرارة وألم وغضب، وإن كان غضبا أضفى عليه، طيب الله ثراه، ترفعا وكبرياء، وتحدث عن علاقة المغرب بالمنظمة، وما قدمه لها من مساعدات مادية وأدبية، مما لم تقدمه لها أية دولة أخرى، مضحيا بالعديد من مصالحه في سبيل التزامه القومي ووفائه لقضية فلسطين ومقدساتها الإسلامية، ثم أعلن عن قراره بمقاطعة كاملة للمنظمة رسميا وشعبيا.
بعد ذلك اهتم بزيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، التي استمرت أربعا وعشرين ساعة، مما أجل توديعي لجلالته للعودة إلى القاهرة، وعند توديع جلالته استبقاني ليوم آخر.
في اليوم التالي، استقبلني رضي الله عنه بحضور الدكتور الفيلالي، وبدأ حديثه كما
يلي:
– ما هي معلوماتك عن الاجتماع الوزاري الإفريقي الذي عقد في أديس أبابا؟
-عندما رجع الدكتور بطرس غالي من اجتماع المجلس، استدعى السفراء الأفارقة إلى لقاء في وزارة الخارجية (..)، في هذا اللقاء أبلغ السفراء نتائج زيارته إلى جيبوتي، قبل الالتحاق بأديس أبابا، وفي زيارته إلى جيبوتي تقررت الزيادة في عدد الأساتذة والمهندسين والطيارين المصريين، من عشرين منتدبا إلى أربعينا، وعلى نفقة الحكومة المصرية، أما أهم ما نوقش في اجتماع أديس أبابا، فهو محاولة الجزائر إدخال البوليساريو في اللجنة الدائمة للتعاون العربي الإفريقي لشغل منصب المغرب، ولكن مصر مع عدد من أعضاء المكتب اعترضوا على الطلب الجزائري، وأن يبقى مقعد المغرب شاغرا كما اتفق على ذلك في الاجتماع السابق، وإذا كان لا بد من تعويض المغرب فإن مصر ترشح نفسها له، وسُئل الدكتور بطرس لماذا لا ترشحون أنفسكم؟ فليس من المتوقع القريب أن تزول الأسباب التي اضطرت المغرب إلى الانسحاب من المنظمة؟ فكان رده، إننا ما نزال نأمل في عودة المغرب… كذلك ناقش المجلس الوزاري موضوع التعاون العربي الإفريقي، مؤكدا أنه يمر من أزمة، وطالب الدكتور بطرس في المؤتمر بأن على الدول الإفريقية أن تواجه هذه الأزمة بشجاعة، إذا أرادت إعطاء مصداقية للتعاون، وذلك بالتغلب على موضوع وجود الصحراويين في الجانب الإفريقي، حيث إن معظم الدول العربية لا تعترف بوجودهم، ومن الواجب البحث عن حل موضوعي، فالتعاون العربي الإفريقي مهم جدا، وخاصة للدول التي تجمع بين الانتماءين العربي والإفريقي.
وأضاف الدكتور بطرس غالي قائلا: لا ننسى أن القمة العربية الإفريقية التي كان من المفروض أن تجتمع كل ثلاث سنوات لم تجتمع منذ أن أصدرت هذا القرار في مارس عام 1977، وأن اللجنة الدائمة كان يجب أن تعقد دورتها العشرين، ولم تجتمع إلا ثمان مرات، والمؤتمر الوزاري الذي كان مفروضا أن يجتمع كل سنة، لم يجتمع منذ سنوات، ثم ختم عرضه بمناشدة الدول الإفريقية إيجاد مخرج من هذا المأزق».
رسالة أمين القدس للحسن الثاني سنة 1977 عن تأثير مصادرة أوقاف المغاربة على الفلسطينيين
هذه الوثيقة التاريخية أسفله، تكشف مدى أهمية المساعدات المغربية لفلسطين، قبل بداية القضية الفلسطينية، أي قبل سنة 1948. وتعود أصول العلاقات المغربية الفلسطينية إلى الفترة التي اقتنى فيها المغاربة عقارات في القدس على وجه الخصوص، نظرا إلى رمزيتها الدينية والتاريخية..
الوثيقة تكشف أهمية المساعدات المتحصلة من عقارات المغاربة، التي أوصى أصحابها بوقفها وتخصيص عائداتها للفلسطينيين.
وهذا نص الرسالة، التي سُجلت في أرشيف وزارة الأوقاف المغربية:
«إلى سعادة سفير المملكة المغربية المحترم
عمان: 29 جمادى الأولى – 18 مارس 1977.
تحية طيبة وبعد:
أنقل إليكم وإلى المغرب الشقيق، أن زاوية المغفور له الشيخ أبو مدين الغوث وجامعها الواقعة في الحي المغربي داخل سور القدس، أصبحا مهددين في أية لحظة بالانهيار وبالهدم، بسبب مواصلة سلطات العدو الإسرائيلي لعمليات هدم العقارات العربية المجاورة والملاصقة التي صادرتها تلك السلطات في الحي المغربي، وفي خمسة أحياء عربية أخرى مجاورة بالقوة.
وتعتبر هذه الزاوية والجامع الملحق بها من أبرز وأقدم المعاهد المغربية الإسلامية بالقدس، فقد بنيت وأوقفت سنة 270 هـ من قبل المغفور له العالم الجزائري الشيخ أبو مدين بن شعيب بن عبد الله الغوث. وبني الجامع الملحق بها من قبل العالم المغربي المجاهد الزاهد الشيخ عمر المجرد سنة 730 هـ.
وقد أوقف المرحومان بالإضافة إلى الزاوية والجامع، عقارات وأراض واسعة، ورصدا ريعها للإنفاق على الخدمات التي من أجلها أنشئتا. ومن جملة ما أوقفه المرحوم الشيخ أبو مدين، أراضي قرية عين كارم بكاملها، وتقع هذه القرية غربي القدس. وكانت إلى ما قبل 1948 تعتبر من أوائل القرى الزراعية التي تمد القدس بإنتاجها من الفواكه والخضار، كما كان أهلها دوما في مقدمة المناضلين للدفاع عن وطنهم ومقدساتهم، وقد استولى العدو الإسرائيلي على هذه القرية. فقد أوقف المرحومان عشرات من العقارات السكنية في حارة المغاربة نفسها وفي أحياء أخرى من القدس، وخصصا قسما منها مع الزاوية معهدا دينيا وملجأ لمسلمي المغرب العربي – المغرب والجزائر وتونس وليبيا- الذين اختاروا القدس بعد الجهاد في سبيلها، أو بعد القيام بواجب الحج المقدس، وخصصا القسم الآخر للإيجار والانتفاع من عوائدها، لتغطية نفقات الزاوية والجامع، ولتنفيذ وقفيهما اللذين شملا ما يلي:
أ- مواصلة حلقات الدروس الدينية وخاصة الصوفية.
ب- استضافة رجال العلم والجهاد وفقراء الحجاج من مسلمي شمالي إفريقيا.
ج- تقديم المساعدات لفقراء العائلات الشمال إفريقية، المسلمة من سلالات من اختاروا جوار المسجد الأقصى مقاما.
(..)
وكان نصيب أوقاف المغاربة من أمر المصادرة وعمليات إجراء السكان والهدم الإسرائيلي المتواصلة إن لم يعد للوقف من أصل (99) عقارا كان يملكها ضمن الأحياء المصادرة سوى زاوية أبو مدين الغوث وجامعها. ولقد كانت مواقف متوليي الوقف الحاليين المختار عيسى هاشم المغربي ومحمد إبراهيم عبد الحق، وكلاهما من القدس وسكانها. كانت مواقف هذين المتوليين وما زالت مواقف مشرفة وتدعو للاعتزاز. فقد عارضا إجراءات المصادرة ورفضا الدخول في أية مناقشة للتعويض عنها حين المصادرة. ورفعا لدولة رئيس العدو مذكرة بتاريخ 26 يونيو 1968، يؤكدان اعتراضهما ويرفضان مشروع التعويض، وتعتبر هذه المذكرة وثيقة رائدة للموقف الذي تبنياه وجميع من شملهم أمر المصادرة.
وقد فهمت أن سلطات العدو عرضت على المتوليين أخيرا، مشروع استبدال للزاوية وللجامع استبدالهما بعقارات إسرائيلية تقع في حي آخر في المدينة اسمه حي الواد. وعلمت أن المتوليين رفضا هذا العرض رفضا قاطعا وأصرا على المحافظة على هذه الزاوية والجامع.
لقد وصلت عمليات الإجلاء والهدم إلى بعد أمتار من الزاوية ومن الجامع. وأصبحت تهددها بالتصدع والانهيار، وتهدد معها بطرد وتشريد من بقي من سدنتها وسكانها، وكلهم في حالة فقر وتوتر وهم ومسلمو القدس قلقون جدا على مصير هذه الزاوية والجامع العزيزين عليهم وعلى التاريخ والحضارة الإسلامية المغربية بالقدس.
وإني باسمكم وباسم القدس أناشدكم والمغرب الشقيق أن تضيفوا قضيتكم على قائمة القضايا المتعلقة بالقدس وبالقضية الفلسطينية، وتحاولوا أن توصوا لحكومتكم الجليلة بما يخفف المصاب ويحافظ على إبقاء هذا الصرح الديني الخيري قائما وفي مكانه، ليؤدي رسالته التي حافظ عليها الخيرون من أبناء المغرب والجزائر وتونس وليبيا، وبالتعاون مع إخوانهم أهل القدس ومع الحكومات المتعاقبة التي حكمت القدس، منذ إنشاء الزاوية والجامع وحتى 5 يونيو1967.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
المخلص
روحي الخطيب
أمين القدس».





