حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

تاريخ خلافات تعيين زعماء الزوايا

 أشهر التعيينات في الطرق الصوفية وقصص صعود الزعماء ونزولهم

«ليست البودشيشية وحدها أول زاوية تعيش أزمة خلافة.. تاريخ المغرب حافل بفترات صعود وهبوط كلما تعلق الأمر بتحديد وريث سر الشيخ طيلة قرون خلت..

المرينيون عززوا دور الزوايا في الحياة الروحية والسياسية وقربوا منهم المشايخ.. وعندما سقطت دولتهم وجاء السعديون، قبل قرابة خمس قرون، لجأوا إلى شيوخ الزوايا ليعززوا حكمهم، ثم انقلبوا ضدهم وأضعفوا سلطتهم..

لكن مع الدولة العلوية، صار الوضع مختلفا، وصارت الزوايا، باختلاف مشايخها وطرقها، مدينة للدولة لأنها أنقذتها من الانحراف، والتحريف، في كثير من المحطات»..

 

يونس جنوحي

 

++++++++++++++++++++++++++++++++++

 

الأمريكيون اهتموا بالزوايا قبل قرن ونصف

 

منذ مجيء الأمريكيين إلى المغرب، في عهد المولى عبد الرحمن، لتعزيز وجودهم في المنطقة، وفتح أول تمثيلية دبلوماسية لأمريكا في العالم، سنة 1822، ليرفرف العلم الأمريكي فوق بناية «المفوضية الأمريكية»، وواشنطن تحاول جمع أكبر قدر من المعلومات عن الحياة السياسية في المغرب.

لكن لم يتأت للأمريكيين أن يعرفوا المغاربة جيدا، وبالشكل الكافي، إلا بعد سنة 1900، بعد وفاة المولى الحسن الأول بست سنوات..

أول ما حاول الأمريكيون فهمه في حياة المغاربة، الجانب الروحي.. وهو ما اشتغل عليه القنصل الأمريكي في طنجة، الذي كان أول قنصل أمريكي يؤلف كتابا عن الفترة التي قضاها في المغرب. يتعلق الأمر بسيرة الدبلوماسي والصحافي الأمريكي «إدموند هولت».

هذا الأخير انتبه إلى الدور الذي تلعبه الزوايا في حياة المغاربة، بل واعتبر أنها المصدر الذي يتحكم في قرار إعلان الحرب ضد أوروبا وأمريكا ومحاربة المد الاستعماري الغربي، ليس فقط داخل المغرب وإنما في بقية الدول الإسلامية.

قال القنصل الأمريكي إن المغرب يتميز عن الدول الإسلامية الأخرى بحكم أنه لا يتبع نهائيا للدولة العثمانية، واعتبر أن الزوايا وحدها لديها السلطة في تجييش الناس ضد الوجود الأجنبي في المغرب.

أطال السيد «هولت» كثيرا في الحديث عن أصول الزوايا الكبرى في المغرب، وعرض تاريخ «حمادشة» و«عيساوة»، باعتبارهما التيارين الرئيسيين اللذين يقتسمان «الحقل الديني» في المغرب.

وبحكم العلاقات المتشعبة التي ربطها السيد «هولت» ببعض الشرفاء المغاربة، حيث سبق له أن زارهم وتعرف على حياتهم عن قرب، أكد على المكانة الروحية التي يشغلونها في حياة المغاربة اليومية، ولم يفته أيضا أن يشير إلى دور الخلافات بين أقطاب الزوايا، حول من يخلف الشيوخ، في إضعاف البلاد سياسيا.

تجلى دور الزوايا في المغرب، الذي عاش فيه إدموند هولت، في واقعة وصول المولى عبد الحفيظ إلى السلطة خلفا لأخيه المولى عبد العزيز سنة 1908.. فقد التقى القنصل بالسلطان المعزول، ورأى كيف أن الناس لا يزالون يقدّرونه في طنجة، حتى بعد أن ثارت ضده القبائل وطالبت بعزله وبايعت أخاه. والأمر راجع أساسا إلى عطف هذا السلطان عندما كان في السلطة ما بين سنوات 1894 و1908، على بعض الزوايا، التي بقي زعماؤها أوفياء للمولى عبد العزيز، حتى بعد أن غادر صوب طنجة الدولية.

لاحقا، لعب المولى عبد الحفيظ نفسه، وهو الذي لقي المصير ذاته عندما وقع معاهدة الحماية سنة 1912، دورا كبيرا في الحفاظ على الأمن الروحي لعدد من الزوايا، وراسل من منفاه عددا من المشايخ.. وهناك دراسات تاريخية تؤكد أن المولى عبد الحفيظ حارب بعض مظاهر الانحراف التي بالغت في تقديس بعض زعماء الزوايا، ولم يتردد في مراسلة المعنيين بها لوعظهم، وتجديد ثقته في عدد من الشرفاء الذين صنعوا تاريخ الزوايا في مختلف جهات المغرب.

 

أشهر التعيينات التي أنقذت «زوايا» المغرب من الانحراف

 

على امتداد التاريخ، وإلى حدود السنوات الأخيرة، كان القصر يفصل في عدد من النزاعات التي من شأنها إخراج عدد من الزوايا عن مسارها، أو تسجيل انحراف في تاريخها..

لم تكن الزاوية البودشيشية أول زاوية تعرف أزمة خلافة بعد رحيل وريث سر المؤسس. فما يقع اليوم من كواليس خلافة الشيخ جمال الدين البودشيشي، والحيرة بين احترام وصية الشيخ أو اختيار من «يُناسب» المرحلة.. ليس جديدا على تاريخ التحولات التي عرفتها الزوايا في المغرب.

الشيخ جمال الدين ورث الزاوية عن والده حمزة.. وهذا الأخير احتفظ بمشروعية ضاربة في القدم، تتقاطع مع أسماء وشخصيات أخرى من زمن الزوايا في فترة الحماية.

ورغم أن الفرنسيين كانوا يراقبون الشأن الديني في المغرب، إلا أن مسألة تدبير الزوايا ظلت بعيدة عن صلاحيات المقيم العام، حتى أن وزارة الأوقاف كانت تلقب بالوزارة الحصينة التي لم يراقبها لا المراقب المدني ولا العسكري..

لكن هذا لا يمنع من الإقرار بتدخل فرنسا، من وراء الستار، في عدد من الزوايا المؤثرة في المغرب، في الجنوب والشمال، لاستعمالها في آلة الدعاية للإدارة الفرنسية بين المغاربة. في حين أن الشأن التنظيمي ظل بعيدا عن أي سلطة فرنسية.

السلطان سيدي محمد بن يوسف، منذ وصوله إلى الحكم سنة 1927، ورث عن والده المولى يوسف عددا من العلاقات الوطيدة بين مريدي الزوايا في كل من مكناس وفاس، واحتكموا إليه في عدد من المرات، خصوصا في أربعينيات القرن الماضي، لتجديد نخب قيادة عدد من الزوايا.

وبعد الاستقلال، خصوصا مع اقتراب نهاية الستينيات، كان موضوع الزوايا يحظى باهتمام الملك الراحل محمد الخامس، إذ كان زعماء الزوايا يحفظون للسلطان اهتمامه بشأنهم الداخلي ومتابعته الأزمات المالية التي مرت بها بعض الزوايا..

ورغم أن هذه الزوايا لم تسجل موقفا مؤثرا خلال فترة منفى السلطان سيدي محمد بن يوسف، إلا أن مكانتها في المشهد، وحظوة بعض المشايخ لدى السلطان، استمرت بعد استقلال المغرب.

الملك الراحل الحسن الثاني كان يتابع شؤون الزوايا، عبر نافذة وزارة الداخلية. وحدث في أيام الوزير والعالم محمد المكي الناصري، الذي كان دبلوماسيا

ووزيرا للأوقاف، أن دخلت الوزارة في معركة حامية ضد الزوايا والطرق الصوفية، عندما كان الوزير متأثرا بالفكر السلفي.

وكانت قصة صراع الناصري مع الزوايا شهيرة في مغرب السبعينيات والثمانينيات، قبل أن تنقلب أفكار الرجل في نهاية حياته ويختار التصوف البعيد عن الخرافات.

بالعودة إلى تجربة الناصري في وزارة الأوقاف، فقد احتج ضده مشايخ عدد من الزوايا، واتخذت المعركة طابعا رسميا عندما باشر الوزير طرقا إدارية لإغلاق بعض الزوايا التي كانت غارقة في الممارسات البعيدة عن التصوف.

تدخل الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا لوضع حد للتوتر والمواجهة بين الناصري والزوايا، وانتهت المعركة دون إعلان انتصار أيّ من الطرفين.

وكان الملك الراحل الحسن الثاني بهذا القرار قد أنقذ عددا من الزوايا من قرارات الإغلاق، مطلقا في الوقت نفسه جملة من الإصلاحات على مستوى قيادات تلك الزوايا.. خصوصا وأن القصر توصل بشكايات كثيرة من ورثة بعض المشايخ، يشتكون فيها استحواذ بعض الأقرباء على رمزية الشيخ ورصيده الروحي، وإقصاء بقية الإخوة والأقرباء.. ودائما ما كانت تلك الشكايات تلقى تجاوبا من طرف الملك، وهو ما استمر مع الملك محمد السادس، لحماية رمزية عدة زوايا من الاندثار والتحريف..

 

 

+++++++++++++++++

 

السعديون.. أوصلتهم الزوايا إلى الحكم و«أنعشوا» صراع الزعامة قبل 500 سنة

لا اختلاف في التاريخ المغربي على أهمية الزوايا في دعم السعديين ليصلوا إلى الحكم، لكن بمجرد أن وصل هؤلاء إلى الحكم، أغلقوا الطريق على الزوايا وزعمائها لينافسوهم في التأثير على العامة. وبإجماع المؤرخين، مغاربة ومشارقة، فإن فترة حكم السعديين ما بين 1510 و1659 عرفت صراعا بين أجنحة عدد من الزوايا، بسبب التضييق الذي مارسه السعديون لإضعافها سياسيا وروحيا أيضا.

قرن ونصف، مدة حكم السعديين، كان كافيا لتغيير خريطة انتشار الزوايا في المغرب. فقد ظهرت عدد من الحركات الانقلابية داخل الزوايا، للإطاحة بالسعديين، مثل حركة العياشي، سنة 1614، بعد أن كان واليا على منطقة أزمور.. قرر أن يقود واحدة من أكبر المعارك لبسط نفوذه، واستعان بالزاوية المحلية في المنطقة.

الخطوة التي أقدم عليها العياشي تسببت في مقتله سنة 1641، بعد سنوات قضاها في التنقل لاستقطاب المريدين والأتباع واستمالة الزوايا للانضمام إليه. حتى أن نفوذه، بفضل الزوايا، وصل إلى سلا وتامسنا، وامتد حتى حدود تازة. لكن سكان سلا كانوا وراء الإطاحة به، بعد أن اصطف مع الجانب الأضعف لفض النزاع في الزاوية. إلا أن أكبر معركة بين الزوايا والسعديين جرت وقائعها بعد سنة 1636، واستمرت حتى سنة 1668، أي بعد نهاية السعديين أنفسهم، وبدا واضحا أنها نار أوقدت وصارت السيطرة عليها مستحيلة.

يتعلق الأمر بالزاوية الدلائية. فقد كانت هذه الزاوية الأكثر نفوذا في المغرب خلال فترة القرن 17. كانت فاس ومكناس عاصمة لهذه الزواية ومركز ثقلها، وامتد نفوذها في مختلف المناطق شمالا وشرقا، وجنوبا.

عندما انتهت الدولة السعدية بشكل رسمي، دخل مشايخ الزاوية الدلائية في مواجهة مع أبناء مولاي علي الشريف، وكان المولى الرشيد، بن الشريف، حسم النزاع بشكل نهائي، بعد أن حسم مسألة مشيخة الزاوية وحدود نفوذها، ولم يعد أتباعها خارجين عن سلطة الدولة العلوية في السنوات الأولى لتأسيسها.. وهكذا، كان الإرث الذي تركه السعديون وراءهم في ما يتعلق بـ«فوضى الزعامة»، شهد نهايته في بداية عهد الدولة العلوية، قبل أن يدخل المغرب مراحل تاريخية أخرى من «السيبة»، التي عاد خلالها الصراع على زعامة الزوايا، إلى الواجهة، خصوصا بعد وفاة السلطان المولى إسماعيل سنة 1727، وبداية الصراع بين أبنائه على الحكم.

 

سلطة زعيم الزاوية العيساوية سنة 1873 بعيون كاتبة إيرلندية

قبل وفاتها سنة 1875، أصدرت الكاتبة والمغامرة الإيرلندية، الشابة «آميليا بريير» كتابها عن رحلتها إلى المغرب. ورغم أن هذه الأوروبية عاشت حياة قصيرة (توفيت في سن الرابعة والثلاثين)، إلا أنها عاشت مغامرات كثيرة واهتمت بها الصحافة الإيرلندية بعد صدور كتابها «A winter in Morocco» -شتاء في المغرب- سنة 1873. وفيه، تعرف القراء الإيرلنديون، والأوروبيون عموما، على طقوس الزوايا والطرق، ومكانة الشيوخ في نفوس المغاربة الذين تعرفت عليهم «آميليا» عن قُرب، خصوصا أتباع محمد بن عيسى، مؤسس الزاوية العيساوية.

وننقل هنا ترجمة حصرية للمقطع الذي وصفت فيه وصولها إلى المغرب، قبل أن تُصدم بمدى اتساع سلطة الزوايا وتنقل طقوس الاحتفالات كما عاشتها:

«.. رأيت أضواء طنجة تلوح أمامنا. ثم أشعل الكابتن سيجارة جديدة. لقد استغرقت الرحلة سبع ساعات وكانت الأسوأ. هكذا قال الكابتن.. أصبح البحر هادئا. وهكذا بدأ الجميع في جمع أغراضهم، ويستعدون بفرح كبير للنزول عبر المعبر الخشبي. لكن كان علينا أن نصبر بعض الوقت قبل أن يصبح هذا الأمر ممكنا.

أبواب طنجة كانت تُغلق مع الغروب. وكان ضروريا أن تُفتح لنا البوابة البحرية، التي أغلقت قبل وصولنا بساعات طويلة، لنعبر من خلالها. لكننا وصلنا متأخرين بساعة عن الموعد. وهكذا بدا من الصعب أن يسمح لنا عمال المعبر بالعبور، خصوصا منا الذين كانوا يعرفون لباس وطباع ومزاج المسؤولين المغاربة الذي كان متقلبا تماما كالطقس. لم نكن متأكدين ما إن كانوا سيسمحون لنا بالعبور أم لا».

أما بخصوص أتباع محمد بن عيسى، رمز الزاوية العيساوية، التي تأسست في القرن 16، حوالي 1524 ميلادية، فوصفتهم «آميليا» في عدد من الفقرات، وقالت إن مسألة «الطاعة» وخضوع الأتباع لشيخ الطريقة الذي توفي قبل قرون، شغلتها كثيرا. فقد رأت كيف جاء 36 رجلا، كان كل واحد منهم يتحكم في فريق من المتجمهرين وقام بذبح خروف على باب الضريح مقلدين محمد بن عيسى. لكن الطريف أن آميليا أضافت في وصف تلك الطقوس: «لقد بدا الأمر مع هؤلاء الناس الذين اتبعوا محمد بن عيسى، أنه أسس دينا جديدا يخصّه».

كان أتباع محمد بن عيسى يتبعونه في كل شيء. يجمعون معه حبات الزيتون من الأشجار ويطبقون أوامره حرفيا. حتى أنهم كانوا يتحلقون ويفترشون الأرض في انتظار الطعام الذي يوفره لهم من خلال التجوال طيلة اليوم بين القرى والحقول. ويقول أحدهم إن لديهم ثقة كبيرة في كلامه ويضيف أنهم يأكلون الثعابين وحتى العقارب لإسكات جوعهم، ويفضلون ذلك على مخالفة أوامره. لقد كان محمد بن عيسى أكبر من مجرد رجل «زاوية» نافذ.

يقول محمد بن عيسى كما نقلت عنه آميليا في مذكراتها ما يلي: «عليك ألا تشك في قدراتي. وأن تؤمن بقوتي، أنت وأبناؤك، وأي أحد يدخل معك الأرض التي فتحتها لك، وألا تخاف من أي سم أبدا».

ما يميز «الحلقة» التي كان يتزعمها محمد بن عيسى، حسب آميليا دائما، أنه كان يجمع فيها جميع أنواع المغاربة، الفقراء والمحتاجين والمشردين، وحتى الأغنياء والتجار وعلية القوم. كان يجمع المتسخين والأنيقين. كلهم كانوا يتجمهرون في نصف حلقة دائرية، كقوس، وينصتون لكلامه بكثير من الاهتمام. والطريف أنه كان يستعمل طبلا في الحلقة، كفاصل بين فقرات كلامه الذي يبث الحماس في نفوس الفقراء، ويجعل الأغنياء يعتقدون أن محمد بن عيسى أقوى منهم، أو لديه سلطة عليهم. كان «الطبل»، الذي يضربه محمد بن عيسى بعنف، بمثابة فاصل بين محاور خطابه المطول أمام الناس.

تقول آميليا مجددا: «كان يُنصت لقرع الطبل بكثير من الهدوء وكان صوته يكسر الصمت المطبق والتركيز الكامل للمتجمهرين. لكن حكاياته لم يكن لها أي وقع عاطفي على الناس ولا تأثير لها في صدورهم».

 

عن «صراع الزعامة» في قلب زاوية الريسولي.. معقل الحرب ضد الإسبان

يبقى الثائر الريسولي، الذي كان طرفا مهما في حرب الريف بين إسبانيا وقبائل الشمال ما بين 1920 و1925، واحدا من أهم الأسماء التي سيطرت على الزعامة عندما يتعلق الأمر بزاوية الشرفاء في منطقة «جبالة». حتى أن المقاوم الشهير محمد بن عبد الكريم الخطابي، بصيتة الذائع وعملياته المسلحة ضد الجيش الإسباني، وجد في الريسولي منافسا شرسا له على الزعامة والنفوذ في منطقة الشمال.

ولولا وفاة الريسولي سنة 1925 بسبب المرض، لربما كانت له بصمة على نهاية حرب الريف التي توقفت سنة 1927 وانتهت باستسلام الخطابي ونفيه إلى خارج المغرب.

الشريف الريسولي كان خبيرا بأمور الزعامة، وهو ما تؤكده مراجع تاريخية كثيرة اهتمت بسيرته. ولعل أقواها مذكراته الشخصية التي عهد إلى المغامرة الإنجليزية «روزيتا فوربس» بتسجيلها قبل وفاته بثلاث سنوات تقريبا.

هذه المغامرة، التي جابت أغلب دول المشرق وكل شمال إفريقيا، كُتب لها أن تجالس الشريف الريسولي في سنواته الأخيرة، وحكى لها كيف أصبح زعيم الزاوية، ونقلت في الكتاب الذي اختارت له عنوان «Raisuli the Sultan of the Mountains»، والذي صدر سنة 1924، كيف أصبح الشريف زعيما للزاوية الريسولية، بعد أن حثه والده على طلب العلم، وكيف تحول من مشروع عالِم واعد إلى محارب كتبت عنه كل صحف فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة وبريطانيا، ووصفته بـ«قاطع طريق»..

في هذه المذكرات، التي سبق لـ«الأخبار» الانفراد بنشر أول ترجمة حصرية لها إلى العربية، ظهر جليا مشروع صراع بين أبناء الريسولي على الزعامة، وهو الموضوع الذي حظي باهتمام الإسبان وحاولوا استغلاله لإضعاف الزاوية بعد وفاة الريسولي.

تقول متحدثة عن ابني الشريف الريسولي: «كان وجها مولاي الصدّيق وبدر الدين، يبدوان في الظلام مثل الأشباح، غارقين في ثوبيهما الواسعين مثل ملابس الرهبان.

كان يصلنا من بعيد صوت «إنشاد».

قال القايد:

-إن الصوت قادم من المسجد. سيدي محمد بن علي مدفون هناك. هو الذي ربح حرب «جبل علان» في سنة 1542، عندما قُتل الملوك الثلاثة. قوة الشرفاء الريسوليين بدأت منذ ذلك اليوم. وصل سيدي محمد ومعه قبائل جبالة، عندما كان المسلمون تحت ضغط كبير وعلى وشك الهزيمة. وصاح فيهم: تسلحوا وتشجعوا باسم الله. دعيني أقول لك إن رأس النصراني يومها لم يكن يساوي أكثر من خمسة عشرة أوقية.

الملوك الثلاثة الذين قصدهم، هم الدون سيباستيان ملك البرتغال، وسلطان المغرب، ثم زعيم المحاربين من قبائل مغربية.

عندما انتهت الصلوات في المسجد، تحرر سيدي محمد الخالد من ملابسه المكوية التي يؤدي بها العبادات، وجاء لكي يرانا.

استقبلنا بخجل كبير. كان بأنف غائر، نحيفا ورقيقا مثل فتاة.. كان شعره المصبوغ بالحناء، لكي يزداد طوله، متخلفا عن جبهته البارزة ببوصتين.

كانت طباعه تجعله يبدو أحمق بالنسبة لعربي ينحدر من نسب عريق. وبدل أن يتحدث جهرا، كان يهمس فقط. عندما وبخه الشريف بدر الدين، أجابه قائلا:

-نحن المُسلمون كلنا قادرون على القتال ومتوحشون. وأنا أسوؤهم. والدي يريد أن يصنع مني عالِما، لأن علماء بني عروس مشهورون عبر تاريخ الإسلام. لكنني لا أحب الكتب.

-وماذا تُحب؟

-أحب شيئا واحدا فقط: الحرب. إنه من المؤسف أننا لم نعد نحارب».

ابنا الريسولي كانا موضوع اهتمام الصحافة الإسبانية بعد وفاة والدهما. كان الإسبان يتخوفون من انبعاث حركة من داخل الزاوية لتوحيد صفوف قبائل جْبالة لكي تحارب من جديد بعد استسلام الخطابي ونفيه.. كان سيناريو تغذية أي صراع بين ورثة الريسولي على الزعامة واردا بقوة، لإضعاف الزاوية، ومحو إرث الشريف الذي كان رجال القبائل التي تحارب إسبانيا يعددون كراماته وقدراته الخارقة وصلابته في القتال، ولم تفلح الآلة الدعائية الإسبانية في إضعافه.

 

قصة مولاي عبد السلام.. أعنف انقلاب داخل زاوية وزان

في سنة 1892، توفي شريف مدينة وزان، الحاج عبد السلام الوزاني، متأثرا ببُعده عن الزاوية التي استمد منها قوة كبيرة صنفته كواحد من أقوى زعماء الزوايا في تاريخ المغرب. لكن قبل وفاة شريف وزان، سبق للرجل أن مات رمزيا عندما أعلن زواجه من البريطانية إيميلي كين، مغامرا بمكانته الروحية في المغرب وليس في زاوية وزان فقط.

كانت لهذا الزواج -يُرجح أن يكون أول زيجة رسمية بين مغربي مسلم وأجنبية في المغرب- تبعات على مكانة شريف وزان.. بعث السلطان محمد الرابع (حكم المغرب ما بين سنوات 1859 و1873) إلى شريف وزان رسالة يوبخه فيها على زواجه من سيدة بريطانية، لكن الأخير لم يتراجع عن قراره الزواج، وتنازل عن سلطاته على رأس الزواية، وهو ما أشعل فتنة كبيرة بين إخوته. طلق زوجاته الأربع، وتنازل عن ممتلكات مهمة في وزان، كانت كلها تحت تصرفه، وأطلق سراح الحريم، وغادر إلى طنجة لكي يبدأ حياة جديدة مع «إيميلي كين»، التي حملت لقب شريفة وزان بعد زواجها منه، واعتناقها الإسلام، وعاشت بعده إلى أن توفيت سنة 1944 ودُفنت في طنجة.

قضى شريف وزان ما تبقى من حياته في طنجة، منفتحا على حياة عصرية متخذا صداقات جديدة مع الأوروبيين في المدينة الدولية. بينما كانت أخبار الزاوية في وزان، تصل إليه في طنجة، لتفك عنه عزلته الاختيارية.

وقع صراع كبير، بين إخوة الشريف وورثة الزاوية. في حين أن أبناءه من إيميلي كين، تربوا بمعزل عن الزاوية الأم في وزان، وأسسوا زاوية جديدة للشريف في طنجة، لا تزال موجودة إلى اليوم، وكان يقصدها الراغبون في التبرك من الشريف والفوز ببركته.

ورغم اعتزاله منصبه في وزان، إلا أن هذا لم يمنع من استمرار إيمان «جبالة» بكرامات الشريف وقدراته على شفاء الأمراض..

حدث كل هذا في عز الصراع على من يخلف الشريف عبد السلام في العاصمة الروحية للزاوية، وتدخل المخزن في عهد المولى محمد الرابع، لكي يضع حدا لحالة التسيب التي دخلت فيها وزان بسبب مغادرة الشريف لها.

تضاربت الروايات حول أهلية من خلفوا الشريف في الزاوية، خصوصا وأن المنطقة دخلت فترة عدم استقرار سياسي في عهد المولى الحسن الأول، الذي حكم المغرب ما بين سنوات 1873 و1894، وفرضت قوات السلطان هيبة المخزن في المنطقة وأخضعت القبائل المتمردة، دون اللجوء إلى خدمات الزاوية في وزان.. وكان ذلك أحد المؤشرات القوية على بداية نهاية تأثير بعض الزوايا وتراجع دورها التأطيري لصالح قوات السلطان وبعض المخزنيين الأقوياء القادرين على فرض النظام وإنهاء «السيبة»..

ولعل المصدر الوحيد الذي وثق لما وقع في زاوية شرفاء وزان بعد مغادرة الشريف مولاي عبد السلام لها، هو الصحافي البريطاني والتر هاريس، الذي سجل في كتابه The Land of an African Sultan، ووثق فيه لأحداث في الفترة ما بين 1887 و1889، أي بعد رحيل شريف وزان إلى طنجة..

زار هاريس الزاوية في قلب وزان، وربط علاقة مع ورثة الشريف، ونقل أجواء الزاوية، في عز فترة الترقب عمن يخلف الشريف المريض:

«كان مولاي العربي، وهو شقيق الشريف مولاي محمد، في وضع صحي خطير للغاية، ويرقد في منزله بوزان. فاجتمع الناس معا، حوالي الساعة العاشرة ليلا، حاملين معهم اللمبات، وتجمعوا في موكب في أعلى المدينة، وأصوات الموسيقى تتعالى بينهم، وتوجهوا إلى منزله.

كانوا يتوقفون لدقائق على طول الطريق، ويشكلون دوائر، ويصيحون جميعا: «الله، الله، الله». ثم يفضون الدائرة مرة أخرى، ويتحركون في اتجاه المنزل. وعند وصولهم إلى الحديقة، وقفوا هناك، وبقوا طوال الليل يصيحون بتلك الطريقة متضرعين إلى الله أن يحفظ شريفهم العظيم. وكان صوتهم وموسيقاهم مزعجين جدا.

(..) وبما أن اليوم يصادف الجمعة، كان هناك تجمع كبير داخل القصر، وكان جميع الموظفين والعاملين حاضرين. وصلتُ مبكرا، وطُلب مني الجلوس بجانب الشريف على الأرائك التي يمتزج فيها الأزرق بالأبيض، في قلب المجلس.

بدأ الاستقبال مع تمام الساعة العاشرة. بدأ يتوافد عليه أفراد أسرته بمختلف قراباتهم معه. وعند دخولهم، ينحنون أولا أمام معاليه، ثم يقتربون منه ورؤوسهم مطأطأة، ثم يجثون على رُكبهم، ويقبلون طرف ثوبه.

لم يحفل الشريف بوجه أيّ من الذين سلّموا عليه أبدا، واستمر في حديثه معي، أو مع أحد آخر، كما أنه لم يكن هناك أي وافد جديد يقدم له آيات التوقير والاحترام.

بعد أن صار عدد الحاضرين حوالي عشرين رجلا من المغاربة، جلسوا جميعا على الأرائك المختلفة، وأصبح الحديث عامّا».

 

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى