شوف تشوف

الرئيسيةشوف تشوف

تجار الإنشاء

أصبحت الاستعانة بمكاتب الدراسات الخاصة عرفا راسخا في وزارة التربية الوطنية منذ سنتين، فثلة “الخبراء” الذين يحيطون بالوزير في ديوانه، وكلهم خريجو مدارس المهندسين، وتحديدا مدرسة القناطر الفرنسية الشهيرة، يعتقدون أن حل إشكالات التعليم يتم عبر تطبيق مناهج الإحصاء والتحليلات الرقمية الدقيقة، والغريب هو أنهم يعتقدون جازمين بأن أزمة التعليم عندنا هي مشكلة “هندسية” فقط، وأن حلها لا يمكن إلا أن يكون هندسيا.

مقالات ذات صلة

ففي مجالات تعليمية لا يفهمها إلا أبناء القطاع، أي الذين جربوا غبار الطباشير ومشقة طرق المدارس الفرعية والاقتطاعات عن التأخرات والإضرابات، ها هم مهندسون تملأ رؤوسهم الأرقام والمعادلات يعتقدون بأن التعيينات في مناصب المسؤولية مجرد مشكلة هندسية وأن تغيبات الأساتذة وتأخراتهم مجرد مشكلة هندسية أيضا. لذلك يحيطون بالوزير منذ سنتين مصممين على احتقار أبناء القطاع الذين يعرفون كل شاردة وواردة فيه، معتقدين بأن منح الملفات لمكاتب دراسات خاصة يملكها زملاء لهم في الدراسة، هو تعزيز لمكانة المهندسين ولتكوين الهندسة، بينما لا يعرفون بأن مشاكل التعليم لا تحتاج لمكاتب دراسات.

فبدءا من الأب الذي اضطر لكراء سقف منزله لتأمين مصاريف دراسة ابنه في مدرسة خاصة، مرورا بمُدرس التعليم العمومي الذي يدرس ابنته في مدرسة خاصة، والمعلم الذي يرابط في فرعية في انتظار “خطاف” ينقله إلى دوار لاقتناء الخبز. وأخيرا وصولا لأكبر مسؤول في التعليم الذي يدرس أبناءه في مدارس البعثات والجامعات الخاصة غالية التكلفة، فالحقيقة الساطعة هي أن مشاكل تعليمنا لا تحتاج لمكاتب دراسات، والأولى أن يتم توجيه الأموال الطائلة التي يتم دفعها لهذه المكاتب “المخملية” لتحسين وجبات المطاعم وتجديد تجهيزات الأقسام وتوفير النقل المدرسي والمراحيض.

وبمناسبة الحديث عن المراحيض، هل يحتاج متخذو القرار التعليمي والمنتخبون، مركزيا وجهويا وإقليميا، لدراسة ينجزها مكتب دراسات، بما يناهز 300 مليون سنتيم، تثبت بأن غياب المراحيض في المدارس يؤدي لتنامي ظاهرة الانقطاع في صفوف التلميذات في العالم القروي؟ هل هم في حاجة فعلا لدراسة بهذه التكلفة ليكتشفوا ذلك؟ هل هم في حاجة لدراسة تكلف مئات الملايين ليعرفوا بأن غياب النقل المدرسي سبب رئيسي للهدر المدرسي؟

إنهم مهندسون استسهلوا قطاع التعليم، وعملوا لسنوات منذ تخرجهم في قطاعات خاصة وشبه عمومية بعيدة عن هذا القطاع، معتقدين بأن الأرقام والنظريات التي تعلموها في مدرسة القناطر يمكنها حل كل المعضلات. ومنها ثقتهم المبالغ فيها في كونهم يفهمون واقع القطاع. لذلك عندما التحقوا بديوان الوزير فتحوا القطاع مُشرعا أمام عشرات مكاتب الدراسات الخاصة التي تكلف ملايير السنتيمات لإجراء دراسات حول ملفات تثير الاستغراب إن لم نقل الضحك.

هكذا تم تفويت عشرات الدراسات حول ملفات لها علاقة بما يعرف في الوزارة اليوم ب”التزامات خارطة الطريق”، وتمت تنحية عشرات الدراسات التي أُنجزت في عهد الوزير السابق، وأضحت مجرد أوراق مصقولة لا قيمة لها، تباع في آخر المطاف ب”الكيلو” لمعامل إعادة تدوير الورق في تمارة والقنيطرة، لتحويلها إلى “كارطون” يصلح لكل شيء..

فإذا عدنا إلى الوثيقة الرسمية لما يعرف ب”خارطة الطريق”، سنجد 12 التزاما، لكن في تفاصيلها نجد عشرات الملفات، والتي تم توزيعها على شكل صفقات لمكاتب الدراسات الخاصة، منها صفقة خاصة بالهيكلة الداخلية للوزارة، تم منحها لمكتب دراسات برقم يصل لنصف مليار سنتيم. مع أن الجميع يتحدث ومنذ سنوات عن أن تنقية الدرج تتم من الأعلى، وأنه في غياب حكامة وشفافية في التعيينات لا يمكن تحقيق أي إصلاح مهما توفرت الإمكانات المادية، ومهما توفرت الإرادة الحسنة.

ولمن لا يعرف طبيعة هذه الدراسات، فهي من نوع الكتابات الإنشائية التي لا تستحق حتى ثمن الحبر الذي كتبت به. لذلك لا شك في كون هذا النوع من الصفقات هو مدخل كبير للفساد، ليس فقط في قطاع التعليم بل في قطاعات أخرى. حيث يمكن لأي آمر بالصرف أن يسند دراسة، تبدو من عنوانها بأنها مهمة وتستجيب لتوجه الحكومة، ولكن في جوهرها مجرد كلام، لكونها مجرد توصيات، يعلم الجميع بأن تنفيذها مستحيل.

وعندما نقول إن مكاتب الدراسات تحولت إلى عنوان بارز للفساد، فلأن أيا كان بإمكانه إنجاز دراسة. فالإحصاءات والأرقام سيحصل عليها من مديرية الإحصاء والاستراتيجية التابعة للوزارة، وما عليه إلا إدخالها في برامج رقمية ذكية لتحولها إلى مبيانات ورسوم وجداول، وما عليه إلا تذييلها بتعليقات إنشائية باللغة الفرنسية، واستعمال أوراق صقيلة وألوان مثيرة، وأن يستهلها بمقاطع من تصريحات الوزير ليتم اعتماد الدراسة فورا، ثم سيُشرع في توزيعها بالبريد المضمون على الوزارات والمديريات والأكاديميات، وقد يبادر بعض “المجتهدين” في المديريات الإقليمية لتنظيم ندوات لتسليط الضوء على “أهمية” هذه الدراسات.

وفي ظل هذا الواقع، لا عجب أن يتبين مؤخرا أنَّ مديرا سابقا لمديرية الإحصاء والاستراتيجية، التابعة لوزارة التعليم، أنشأ قبل استقالته الاضطرارية من منصبه مكتبا للدراسات يقع مقره في حي أكدال بالرباط، وقام بتوزيع عنوانه على كل المسؤولين بالوزارة قبيل مغادرته لمنصبه. ولا عجب أيضا أن نجد اسم مكتبه ضمن لائحة المستفيدين من صفقات دراسات الخبرة أو دراسات “جيب يا فم ولوح”، بتعبير أدق.

هذا النوع من الدراسات ينطبق عليه توصيف “من لحيتو لقم ليه”، لأن أصحاب هذه المكاتب يحصلون على ترخيص موقع من ديوان الوزير يسمح لهم بالولوج إلى قاعدة البيانات الخاصة بالوزارة، ولن يتطلب منهم ذلك جهدا كبيرا لتصنيف تلك البيانات التي يحصلون عليها وقراءتها عبر برامج رقمية معدة سلفا، وإخراجها وطبعها. بمعنى آخر إنها دراسات قد تكلف نصف مليار سنتيم من جيوب دافعي الضرائب، لكنها لن تكلف أصحابها أكثر من شهر من العمل المكتبي الخالص، إن لم نقل العمل المنزلي، لكونهم لن يتجشموا عناء النزول للمدارس التعليمية ليروا بعيونهم الواقع الفعلي لتعليمنا.

فنجد مثلا دراسة كلفت 270 مليون سنتيم، تتناول جودة الوجبات المدرسية، أصحابها يجلسون خلف حواسيبهم الذكية، يقدمون لنا توصيات حول حاجيات الأطفال من البروتينات والفيتامينات وعلاقة التغذية السليمة بنموهم العقلي والجسدي، بينما هؤلاء “الخبراء” لم يتذوقوا قط في حياتهم معنى الإفطار بنصف بيضة مسلوقة وقطعة جبنة باردة، وطعم وجبة الغداء بسردين المعلبات “محشورا” في كسرة خبز، بل ولم يروا في حياتهم قط منظر ثمانية أطفال يجلسون حول صحن وضعت فيه دجاجة “حافية”. دجاجة كان يُفترض وفق دفتر التحملات، أن يكون وزنها كيلوغرامين، ولكن حوَّلها بعض المقتصدين أو بعض المديرين إلى كليوغرام ونصف.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى