
حسن البصري
قضى الحكم الدولي امحمد لاراش أسبوعين في غرفة العناية المركزة دون أن يسأل أحد عن سر غيابه.
دخل حكمنا الدولي المصحة منتصب القامة يمشي، وغادرها ملفوفا في كفن أبيض، ولأن الموت في غرف المصحات الخاصة كالضريبة “خلص ومن بعد اشكي”، فقد اشتكى أفراد عائلته للواحد الأحد.
في جنازته غابت وجوه لطالما كان الراحل معلمها وملهمها، فحين يموت الحكم لا يشيعه رؤساء الفرق ولا المدربون ولا اللاعبون، إلا ما تبقى من حكام سابقين ومؤرخين وصحافيين لم يجايلوا الرجل أغلبهم يبحثون عن الإثارة بين القبور.
في ليلة التأبين تخلف كثير من قضاة الملاعب، وبدا وكأن الرجل يشهر في وجوههم بطاقة حمراء، ويعلن عن مأثم بحضور أشبه إلى “وي كلو”.
تلقت عائلة الفقيد التعازي من سوريا ولبنان والجزائر ومصر والسودان وتونس وليبيا والسعودية والإمارات، بينما سجل غياب غير مبرر لحكام تقاسموا مع الفقيد شغف الصفارة وركبوا معه صهوة الأهوال، رغم أن ما يفصلهم عن المقبرة أو عن بيت الراحل سوى دقائق معدودات.
حضر ممثلو مؤسسة محمد السادس للأبطال الرياضيين، وحضر أفراد من جمعية رياضة وصداقة، ونفر من قدماء الحكام وأفراد عائلة المرحوم، وغاب الآخرون حتى تلاميذه أصروا على الغياب.
في لائحة المتغيبين لاعبون سابقون كان الراحل وراء توظيفهم في وكالة النقل الحضري، وحكام كانوا يتمسكون بتلابيب بذلته ويمنون النفس بمسار يشبه مساره.
امحمد لاراش القادم من عمق قبيلة أولاد اسعيد، لم يكن حكما عاديا، بل كان بقامته الفارهة يبسط سيطرته على الملعب، يحكم رقابته على الفضاء الكروي كجهاز “درون” يسبر أغوار الميدان.
طريقة تحكيمه و”كاريزماه” العالية والروح القيادية التي تسكنه، تستحق أن تدرس في مدارس التحكيم الجهوية وفي تجمعات قضاة الملاعب.
استقبله الرئيس المصري حسني مبارك والزعيم الليبي معمر القذافي والرئيس الغيني أحمد سيكو توري، ورؤساء “الفيفا” و”الكاف”، وكان وزير الخارجية السابق امحمد بوستة يلتقيه في موائد الرؤساء الأجانب حتى ظن أنه دبلوماسي.
حين اعتزل الصفير مكرها قاطع مباريات البطولة وبلاطوهات التحليل التحكيمي واعتكف في مسجد بجوار بيته في حي “لبلاطو”.
كان لاراش يتمرن في ملعب الوداد الرياضي بشكل يومي، دون أن يشكك أحد في حياده. اسألوا مدرب الوداد مصطفى البطاش عن سر غيابه عن كرسي بدلاء الوداد كلما قاد لاراش إحدى مباريات فريقه. حتى حين غاب لاعبو المغرب الفاسي عن مواجهة الوداد، في المباراة التي انتصب حولها سؤال: علاش الكار مجاش من فاس؟ كان لاراش جاهزا لقيادة المعركة قبل أن يكتشف غياب الزوار، ويعلن تسريح الجمهور وإخلاء الملعب من اللاعبين وإجلاء المشجعين.
لاراش أول وآخر حكم مغربي يسند إليه الاتحاد الدولي لكرة القدم مأمورية قيادة مباراة بأوروبا بين منتخبي مالطا وتركيا، في إطار إقصائيات كأس العالم نسخة الأرجنتين 1978، بل إن هذا التعيين يعد سابقة في التحكيم الإفريقي.
كل إنجازاته لم تشفع له، كل صولاته وجولاته لم تكن كافية لاستقطاب رفاق دربه، كل إعلانات الدفن والتأبين في وسائط التواصل الاجتماعي لم تنجح في جلب المشيعين والمعزين.
حين يموت حكم تونسي يحمل باقي الحكام شارات سوداء ويقف الجمهور واللاعبون والمسيرون لقراءة الفاتحة ترحما على الفقيد، ويحمل أول فوج من الحكام الشباب اسم الراحل، ويقيم له رفاق الدرب تأبينا تلقى فيه شهادة ذوي القربى.
لكن الحكام في بلادي يموتون مرتين: حين يعتزلون الصفارة ويحاصرهم الجفاء، وحين يحملهم نعش إلى دار البقاء، حيث لا صفير ولا طرد ولا تحذير.





