حكايات قضاة الملاعب: الحكم الدولي سعيد بلقولة
أراد إشهار بطاقة صفراء فاكتشف أنه نسيها بغرفة الملابس وقاد نهائي المونديال رغم «فيتو» البرازيل

حسن البصري
ظل الفتى سعيد بلقولة يبحث عن موطئ قدم في ملاعب الكرة، كان حارسا للمرمى تارة ومدافعا أو مهاجما تارة أخرى، وحين لا يجد لنفسه مكانة في التشكيلة الأساسية يصر أن يكون حاضرا في الميدان ولو كحكم. في المقابل كان حريصا على التألق في المشوار الدراسي وتمكن من التفوق في مساره التعليمي خاصة في شعبة الاقتصاد التي كانت تستهويه، إلى أن حصل على الشهادة الجامعية من جامعة ابن طفيل، وهو حينها طالب في مدرسة التحكيم بفاس التي كان يشرف عليها الحكم الدولي السابق امحمد السطالي والتي يرجع تأسيسها إلى سنة 1972، بل إن السطالي يعد المعلم الأول لبلقولة وراعيه الرسمي في مجال التحكيم.
من طور التأهيل إلى الشارة الدولية
دخل عالم التحكيم سنة 1983 بصفته حكما في طور التأهيل، تمرس الفتى وفتح له باب التألق في مجال التحكيم، وكان أول اختبار حقيقي لهذا الحكم الواعد، في مباراة السد للبطولة الشرفية بالعصبة الجهوية جمعت وفاء فاس بفريق فندق فاس، حيث تألق بلقولة بشكل لافت.
استمر في تألقه حتى حصل على فرصة ولوج التحكيم الجامعي في الدوري المغربي، وكان ذلك سنة 1990 يوم أن قاد الراحل سعيد بلقولة أول مباراة له في الدرجة الأولى، وفي بداية عام 1993 حصل بلقولة على الشارة الدولية، وكانت أول مباراة يقودها على المستوى القاري، في نطاق بطولة إفريقيا للأندية أبطال الكؤوس، جمعت بين فوردان من غانا وغورية من السنغال.
شق سعيد طريقه في الحياة الرياضية دون أن يخلف الوعد مع الدراسة، إلى أن حصل على الشهادة الجامعية، بعد ذلك اجتاز مباراة توظيف مكنته من الالتحاق بسلك الجمارك وعين في مدينة مكناس بوظيفة مفتش جمركي، ومن المفارقات العجيبة أن يوظف في مصلحة المنازعات، وهو الذي يقضي وقته في فض المنازعات بين اللاعبين في ملاعب الكرة.
أول موقف طريف تعرض له الحكم سعيد بلقولة، في مباراة جمعت برسم الدوري المغربي بين النهضة السطاتية والوداد البيضاوي، يروي حكمنا هذه الواقعة في أحد البرامج الإذاعية فيقول: «عندما أردت إشهار البطاقة الصفراء في وجه لاعب ارتكب مخالفة تستحق إنذارا، لم أنتبه إلى أن البطاقة لا توجد في جيبي، فعالجت الموقف بتوجيه إنذار شفوي للاعب، الذي عاد إلى مكانه فرحا بعد أن نجا من الإنذار، انتابني خوف طيلة الشوط الأول من المباراة وودت لو أن اللعب النظيف قد ساد، ولم أتنفس الصعداء إلا بعد نهاية الجولة الأولى».
عاد بلقولة مسرعا إلى مستودع الملابس، حيث اكتشف بأنه نسي البطاقتين الحمراء والصفراء في سترته، بعد أن اضطر ثلاثي التحكيم إلى تغيير ملابسهم الحمراء في آخر لحظة لأن أحد الفريقين يرتدي اللون الأحمر، فبقيت البطاقتان في جيب القميص الأول.
تألق إفريقي قبل مونديال فرنسا
قبل المونديال الفرنسي ببضعة أشهر كان بلقولة قد أدار المباراة النهائية لكأس إفريقيا للأمم ببوركينافاسو، والتي جمعت بين المنتخبين المصري والجنوب إفريقي. من هناك بدأت أولى بوادر التألق القادم من المغرب.
كتب الحكم المغربي سعيد بلقولة سطور المجد للأفارقة والعرب بإدارته بهدوء واقتدار، وتألق بشكل لافت في المباراة النهائية لكأس العالم، يوم 12 يوليوز 1998 بملعب سان دوني بباريس بين المنتخبين الفرنسي والبرازيلي، وانتهت بثلاثية للفرنسيين.
مثل الحكم المغربي العرب والأفارقة في هذا المحفل الكروي، بعدما حظي بثقة الاتحاد الدولي لكرة القدم، رغم وجود قضاة ملاعب عالميين أكفاء، وفي مقدمتهم الحكم الإيطالي الشهير بييرلويجي كولينا، وضعت فيه الثقة رغم أنه كان منتوج بطولة هاوية، إلا أن أداءه في التصفيات وفي النهائيات كان يشفع له، خاصة وأنه تلقى تنقيطا عاليا في مباراتين في دور المجموعات، الأولى جمعت بباريس ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، والثانية ببوردو بين الأرجنتين وكرواتيا قبل أن يتم اختياره لإدارة النهائي.
وحسب الصحافة الفرنسية، فإن تعيين بلقولة نال اعتراضا من طرف البرازيليين، «خوفا من انتقامه من البرازيل التي تواطأت لإخراج المنتخب المغربي من الدور الأول». خاف البرازيليون من تحيز بلقولة للمنتخب الفرنسي لكن الوقائع على أرضية الميدان أظهرت عكس ذلك.
ومن طرائف النهائي التي رواها بلقولة، كونه فقد التركيز في الدقائق الأولى من النهائي: «مع إطلاق صافرة البداية اعتقدت أن عدد اللاعبين البرازيليين يتجاوز 11 لاعبا فوق أرضية الملعب، كانت قامتهم طويلة واستغرق مني الأمر دقائق معدودة للتأكد من أنهم فعلا 11 لاعبا فقط».
في ذات السنة نال بلقولة مجموعة من الجوائز الفردية، إذ منحه الاتحاد الدولي لكرة القدم الميدالية الذهبية كأفضل حكم في المونديال وجائزة «الصافرة الذهبية» كأفضل حكم عربي وأحسن حكم إفريقي، فضلا عن توشيحه من قبل الملك الحسن الثاني بوسام ملكي.
رغم ما يملكه الفقيد سعيد بلقولة من رصيد تحكيمي، إلا أنه لم يتردد في التأكيد على قوة الديربي حين صرح بأن قيادته بين الوداد والرجاء أصعب من قيادة نهائي كأس العالم، كان حلم سعيد أن يقف يوما في مركب محمد الخامس للفصل بين الرجاء والوداد، كان يصر على قيادة القمم الكروية الكلاسيكية، ديربي الدار البيضاء لأنه أكبر امتحان. بهذا الرصيد نال الرجل ثقة اللجنة المركزية للتحكيم مرارا وأسندت له مهمة تدبير الديربي ست مرات وهي أصعب مباريات البطولة الوطنية سنوات 1998 ذهابا وإيابا 1999 و2000 ذهابا و2001 ذهابا وإيابا، كما قاد ثلاثة نهائيات لكأس العرش.
السفر إلى طوكيو
خرج بلقولة يوما تحت عاصفة من الاحتجاج الرجاوي، إثر اصطدامه باللاعب رضا الرياحي، حينها آمن بأن الدوري المغربي حارق، فحزم حقائه ولبى دعوة تلقاها من الجامعة اليابانية، هناك قاد ديربي في مدينة طوكيو دون مواجع، بل حظي باستقبال من طرف أمير اليابان نظرا للاهتمام الذي ناله الحكم بلقولة في الديار اليابانية.
وقع سعيد عقدا مع الاتحاد الياباني لكرة القدم لقيادة أبرز القمم الكروية، كما أسندت له مهمة تأطير الحكام الواعدين، وكانت اليابان تستعد لاحتضان مونديال 2002 مناصفة مع كوريا الجنوبية، كانت مدة العقد ثلاث سنوات إلا أن بلقولة طالب بتقليص المدة لعدم قدرته على فراق أسرته.
ومن الطرائف التي تروى عن هذه الفترة، إصرار سعيد على التحدث باللغة العربية مع أمير ياباني حين زاره هذا الأخير أملا في ثنيه عن قرار المغادرة الطوعية، بل إن الصحف اليابانية تناقلت خبر تمسك سعيد بلغته في موقف أثار جدلا واسعا في اليابان.
لم يكن أحد يعتقد أن حالة المرض التي عانى منها الحكم الدولي سعيد بلقولة إثر عودته من نيجيريا، ستكون لها انعكاسات خطيرة على حياته. مباشرة بعد انتهاء المباراة التي جمعت المنتخبين النيجيري والزامبي التي قام بقيادتها، شعر الرجل بزكام حاد وحمى حتمت عليه زيارة طبيب عام اعتقادا منه أن الأمر غير مقلق، خاصة بعد أن سقط مغشيا عليه في بيته.
تقول الروايات إن الحكم المغربي بلقولة اشتكى من وجود مكيف هواء في مستودع ملابس الملعب الذي احتضن مباراة نيجيريا وزامبيا، ففي فترة ما بين الشوطين نبه سعيد مساعديه ومندوب المباراة إلى مضاعفات هذا المكيف الهوائي، وشعوره بألم على مستوى القفص الصدري، لكن تطمينات زملائه ظلت تبعد عنه، على امتداد رحلة الإياب من لاغوس إلى الدار البيضاء، هواجس القلق.
تحولت حالة الزكام من مرض عرضي إلى ألم مزمن شغل بال سعيد وزوجته، مما دفعه إلى زيارة طبيب في مدينة تيفلت، هذا الأخير بدد مخاوف سعيد وأكد له من خلال فحص عابر أن الحالة لا تستدعي القلق، لكن بلقولة كان يشعر أكثر من غيره بحجم الألم، وتبين له أن وصفة الدواء لا يمكنها أن تنهي مخاوفه.
كانت وصايا الحكم الدولي تتعلق أولا بمستقبله الصحي ومستقبل أفراد أسرته، فقد التمس من رفاقه في الجامعة إحالته على المستشفى العسكري، والتدخل لدى الجنرال دو كور دارمي حسني بنسليمان، الرئيس السابق للجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، هذا الأخير استجاب للمطلب وأحال الحكم على المستشفى العسكري بالرباط لإنجاز تشخيص دقيق حول المرض الصامت، وتبين من خلال الكشف الأولي أن الأمر يتعلق بسرطان في الرئة، نقل على إثره إلى مصحة متخصصة في فرنسا، بأوامر من الملك محمد السادس وعلى نفقة القصر. ومن المفارقات الغريبة أن المصحة التي كان يقيم فيها لم تكن تبعد إلا بأمتار قليلة عن الملعب الذي قاد فيه سعيد نهائي كأس العالم سنة 1998.
حين عاد إلى مسقط رأسه بتيفلت ازدادت حدة الألم فنقل مجددا إلى المستشفى العسكري، حيث لفظ سعيد أنفاسه وهو مطمئن البال قرير العين لأنه قدم إلى بلده أكبر قلادة حين نال شرف قيادة نهائي كأس العالم.
قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى، كرمته إدارة الجمارك، التي كان يشغل بها منصب مفتش، وهو على قيد الحياة، بمقترح من اللاعب الدولي السابق نور الدين البويحياوي زميله في الكرة والمهنة، غاب بلقولة لأنه كان موجودا حينها في غرفة العناية المركزة بباريس، وهو اللقاء الذي اعتبر تأبينا استباقيا.
قبل رحيله أوصى سعيد زوجته بأبنائه وأصر على أن يدفن جثمانه في مسقط رأسه تيفلت، وحين توفي، وبأمر من الملك محمد السادس تمت ترقية الراحل بشكل استثنائي من السلم العاشر إلى خارج السلم الإداري، وتم إطلاق اسمه على ملعب سوسيو رياضي بتيفلت، اعترافا بالخدمات التي أسداها الفقيد إلى هذا الوطن.
الحكم الدولي بلقولة في سطور
ولد في مدينة تيفلت في 30 غشت 1956
تابع دراسته بالشعبة الاقتصادية جامعة ابن طفيل
عشق كرة القدم منذ طفولته وكان حارسا للمرمى
أول فريق لعب له يسمى الأشبال
لاعب سابق لوداد تيفلت
التحق بالجمارك
أول تعيين في ميناء الدار البيضاء
أول مهمة كمفتش في مكناس
أول مباراة رسمية في عصبة الوسط الشمالي
حصل على الشارة الدولية سنة 1993
قاد نهائي كأس العالم 1998
حصل على وسام ملكي
توفي في 15 يونيو 2002 في الرباط.





