شوف تشوف

الرأي

خلوات الكبار

كان وزير الأنباء محمد العربي الخطابي، قبل تحمله المسؤولية الوزارية التي يعود الأصل في تسميتها إلى عبء وثقل الوزر، يكتب مقالا أسبوعيا في ملحق «النهار» البيروتية ذائعة الصيت. وكلما طلب إليه محاسبها تزويده برقم حسابه المصرفي لتحويل تعويضاته، رد عليه بأنه لا يستعجل الأمر. وعندما سأله رئيس التحرير غسان تويني عن السبب، أجابه بالقول: «لا أريد تعويضا، وإذا كان لا بد، فإني أود أن تشتري به كتبا وتبعث بها إلي».
بحكم معرفته بالطبائع وإجادته قراءة الرسائل، أدرك غسان تويني أنه أمام كاتب من نوع خاص، وفهم لماذا أصر ميشال أبو جودة على تخصيص الصفحة الأخيرة لاسم قادم من المغرب الأقصى، البلد الذي كان رواده في الأدب والنقد والشعر متقدمين في منافسة نظرائهم المشارقة. واختار الخطابي، العائد من منظمة العمل الدولية في جنيف، اعتماد لغة سلسة تجمع بين البساطة والعمق في كتابات سياسية، بعيدة عن التجني والتحامل والاستعلاء.
صار الخطابي منذ ذلك الوقت يتلقى الكتب التي يطلبها بعناية، ولما عين وزيرا للأنباء أبرق إلى غسان تويني يلح عليه أن يوقف إرسال الكتب، لأن وضعه الاعتباري كوزير، لا يسمح له بتقبل أي هدايا، وإن كانت مستحقة عن تعويضات. فقد توقف عن الكتابة، حتى لا يتم تأويل مقالاته التي كان يتناول فيها قضايا وإشكاليات فكرية وسياسية. غير أن سحر وقواعد الكتابة لا تكون على نحو دائم في مثل فجائيات التصريحات التي تتناقلها الوكالات. وعوقب الخطابي جراء فلتة لسان في وقت كانت الكلمات تحسب بدلالاتها وتأويلاتها وانعكاساتها، أكان ذلك على الصعيد الداخلي أو في نطاق العلاقات مع الدول والزعامات والمؤسسات، إلى أن كادت حالات البكم تسيطر على الألسن.
انتهى به المطاف بعد مغادرة الوزارة التي مكث فيها فترة قصيرة، قَيِما على خزانة بنفائس الكتب والمخطوطات، وعاش حياته رفقة الكتاب أكثر من الرجال.
كان يبحث عمن يصدقه القول والمشاعر وحنين الذكريات وعراك الأفكار. وعندما توارت وجوه، أمثال المبدع محمد الصباغ، عبد الكبير الفاسي، عن تقليد الانشراح في فناء «باليما»، صار وحيدا في طقوس يومية جامدة، أشبه بنظرية «بافلوف».
لم يتبدل شيء من حياته في الوزارة وخارجها. وواظب الخطابي على صباحاته التي كان يجلس فيها وحيدا على سطح المقهى في «باليما» و»تيرمونيس» في شارع محمد الخامس في الرباط، يدفن رأسه في كتاب ولا يرفعه إلا من أجل تحية صديق عابر. لكَم تبدو خلوات الكبار أقرب إلى حياة روائية في زخمها وسكونها، وفي معاركها واستراحتها. فالأديب الذي كأنه، يرتوي من عذب العصارات، مشى على منواله في الحلم والحقيقة.
وكنت سألته عن أطيب وأروع الهدايا التي تسلمها أثناء وبعد تحمله مسؤولياته في وزارتي الأنباء والتشغيل ومنظمة العمل الدولية، فكان جوابه بأنها كتب تأمل في سطورها طويلا.
مثل الرواية التي تطمئن ولا تؤرق، توقع العربي الخطابي أن مكانه الطبيعي بين الكتب. وسعد كثيرا بتعيينه على رأس الخزانة الوطنية التي كان يقصدها الباحثون، بشغف الارتواء من معارف رصينة واجتهادات مكينة. كان يعينهم إن طلبوا المشورة، لأنه أصبح جزءا من معالم الخزانة التي تنبض بالحياة.
لا علينا إذن، فمن يشتغل في مضمار إنتاج وتجارة العسل، لا يمكن إلا أن يلحس أصبعه تذوقا أو سهوا، ومن كان تاجرا ذا حس زائد في اللهاث وراء الفلس، لا بد أن يخال القروش والأوراق المالية، عبر كل ما يتحرك في الأرض. أما من كان بلا حرفة، فلا شك أن هجرته ستكون من أجل اكتسابها أو تصريف ما لا يعرف في ما يعتقد أنه يعرفه أكثر، وقديما نبه العقلاء إلى ما يفعله الجاهلون بأنفسهم.
وماذا يفعل من كانت حرفته من غير الكتابة والقراءة؟ فقد عرف عن أحد الوزراء أنه إذا استأجر كتابا لا يرده لصاحبه أبدا. وكان إذا دخل بيتا تزيغ عيناه بحثا عن خزانة الكتب. وقيل، والعهدة على من روى، إن زميلا له اشتكاه إلى الملك الراحل الحسن الثاني في لحظة صفاء، فرد بالدعاء: «اللهم أكثر من سارقي الكتب وقلل من سارقي المال العام». فالسرقة، تحت ضرورة الحاجة إلى طعام أو كساء أو غذاء روحي، ليست مثل تلك الموصوفة بالطمع والجشع والنفاق.
أثناء المحاكمة الشهيرة للوزراء ومديري شركات في القطاع الخاص، تدخل المحامي موسى عبود، وكان أستاذ قانون يعتد باجتهاداته يدافع عن أحد الوزراء المتهمين، وقال ما مفاده إن الأصل في تقبل أو رفض الهدايا هي النية الفارقة، إن كانت سيئة أصبحت رشوة، وإن كانت حسنة تبقى هدية، ثم أفاض في شرح معنى العمولات التي يمكن أن يتقاضاها الوسطاء، ورهن ذلك بحرفية التنصيص عليها في العقود من عدمه. أجابه رئيس المحكمة بما معناه أن الهدايا لا تكون شخصية في حالة المسؤولين الذين يتقبلونها بصفتهم الوظيفية، وقدم مثالا عن قوائم تضم الهدايا التي يتم الاحتفاظ بها في متاحف الدول، خصوصا إذا كانت سومتها مرتفعة وتروم التأثير على سلطة أصحاب التوقيع.
لا أدري إن كانت بعض المؤسسات والوزارات والقطاعات شبه العامة، تضم مثل هذه القوائم وتحتفظ بالهدايا. ولا يعرف، ضمن إجراءات التسلم والتسليم التي تهم التفسيرات الحاصلة في المناصب، إن كانت تشمل إلقاء نظرة على الهدايا.. لكن مسؤولا تنبه يوما إلى أنه يجب أن يرد على التحية بأفضل منها، لدى تسلمه هدية من نظيره في المنصب، فما كان منه إلا أن أدخل يده في جيبه وأخرج درهما رمزيا، بمبرر أنه يحظر عليه في الأعراف المتداولة تقديم الهدايا، كي لا تصنف في خانة الرشاوى التي يعاقب القانون على دافعها ومستقبلها، ثم تطورت الأمور إلى تكييف قانوني أقل تشددا بالنسبة لمن يشي برشوة صغيرة أو كبيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى