الرأي

ذاكرة قلب مفتوح

جهاد بريكي

في كل يوم يكون قد قرر فيه إنجاز عملية قلب مفتوح لأحد المرضى أمُر صباحا لأتفحص حالة المريض، استعداده، همته، وأحاول بكل ما وسعني من جسم منهك وعقل متعب أن أحفزه بجمل مرحة، أن أخفف من هلعه الذي يكاد أن يصيب بعضهم بالإغماء. أراقب الأهالي الذين يودعون قريبهم ليتركوه بين يدي أطباء وجراحين غرباء لم يلتقوا بهم إلا أياما قليلة قبل قرار الجراحة، يفتحون صدره وعروقه وقلبه ويضعونه على طاولة كمشروع يجب إنجاحه.
منظر قلب إنسان من الداخل يدق كمضخة لا تهدأ، بينما صاحبه حي يرزق، يغط في نوم عميق هو أعظم معجزة حقيقية علمية أشاهدها كل يوم، ولا أمل منها أبدا. ملمسه وهو يدفع الدماء داخل جسد إنسان يحمل تاريخه معه، قصصه وهمومه وآماله يصيبني بالنشوة نفسها كل مرة. قلوب الناس متشابهة، تختلف أحجامها بحسب الأمراض التي يعانون منها ومراحل تقدمها، إلا أنها نفسها في كل مرة يفتح القفص الصدري بمنشار. تختلف الوجوه تحت الغطاء المعقم الذي يفصل المريض عن ساحة الحرب الدائرة داخل صدره، لكن القلب واحد. جراحون بأياد كثيرة ترتدي قفازات بيضاء وخضراء، يتحولون ليد واحدة مهمتها منح هذا القلب المتعب فرصة جديدة لمواصلة حياة عادية، أو شبه عادية.
يستفيق المريض بعد أن وضعنا داخله صماما ميكانيكيا اخترعته يد بشرية عبقرية، وبعد أن خطنا ما تمزق وقطع من أوردته بخيوط متشابكة، وبعد أن ربطنا عظام صدره بأسلاك حديدية. ليطلب أول ما يطلبه، شربة ماء. يراقبك بعينين منزعجتين وساخطتين لأنك ترفض ذلك حتى يمر بعض الوقت لتتأكد بأنه قادر على ابتلاع وهضم ما يدخل فمه. هناك من يتحول انزعاجه لغضب، فيرفس ويسب ويصرخ، وهناك من يبقى هادئا يسلم بقرارك حتى يتجاوز مرحلة الحرج.
كل مريض يمر من بين يديك يترك معك شيئا مختلفا، حتى فورات غضبهم بسبب قرارك بإطالة مدة إقامتهم في المصلحة، تتذكرها وتضحك. الحياة داخل المشفى تشبه القفز نحو كوكب آخر صباح كل يوم، والعودة منه مساء تشبه سقطة من مروحية يصم صداعها آذان قبيلة من البشر إلى مخدعك محاولا نسيان المرضى والمرض والأطباء والدواء والموت والألم. تنسى إذا حالفك الحظ. وغالبا لا يفعل.
خلال نهاية الأسبوع المنصرم دخلت على مريضة أجريت لها عملية قسطرة لعروق القلب المختنقة. أغير ضمادها وأشتكي الإنهاك الذي أصابني هذا الصيف للممرضة التي تساعدني، بسبب ظروف العمل الصعبة وسط وباء لا نعرف أينا سيكون ضحيته القادمة، وحراسات ليلية لا تعد ولا تحصى أفسدت نومنا فما عدنا نعرف الليل من واضحة النهار. نضحك على شبابنا الذي يذبل داخل هذه الجدران المتآكلة والنظام الصحي المنهك. لم أنتبه للمريضة التي كانت تصغي إلي بإمعان وتأثر، حتى أمسكت يدي ونظرت صوب عيني لتخبرني بأنها تحبني، هي وبناتها جدا، وتقدر العمل الذي أقوم به وتتمنى لي كل الخير، وبأني سأكون جراحة جيدة لأن عينيّ تبوحان بكثير من الطيبة. أسمعها تتكلم فأشعر وكأنها بصدد الحديث عن شخص آخر. أبتسم بسخرية لا أتحكم بها. فتشعر هي بحس الأم المتضخم بداخلها بسخريتي، وعدم تصديقي لكل تلك المواساة القادمة من فم مريضة أشفقت على طبيبتها. أحكمت حينها قبضتها علي، وعدلت من جلستها ودققت صوتها وحروفها قائلة «أنت رائعة تذكري دائما ذلك». شعرت برغبة الطفلة الضجرة، التي تزدحم بداخلها أسئلة لا تعرف مصدرها، باحثة عن حضن أمها في سوق غاص بالناس والأصوات حتى ترتمي بداخله وتلتزم الصمت.
قبل العملية يجتمع الأهل حول قريبهم لا يدرون بماذا يبوحون، العمليات صعبة وطويلة ومرهقة. وبعضها تكون خطيرة تستوجب من المريض وأهله قوة وطاقة مرعبة للموافقة على إجرائها. يدخل بعض المرضى المركب ولا يخرجون منه أبدا. فيكون ذلك الصباح الذي تقاسموا فيه نظرات مرتبكة مع ذويهم هو آخر عهدهم بالحياة. ويخرج الآخرون بعد أن توقفت قلوبهم خلال العمليات لدقائق وأحيانا لساعات عن العمل وضخ الدم. ثم يودعوننا بعد أيام من التعافي. لنلتقيهم صدفة في متجر ما، مقهى ما. يرتدون نظارات شمس ويحتسون القهوة. يعرفوننا ونتذكر وجوههم بصعوبة. وجوه تبدو أكثر صحة من وجوهنا، فنبتسم لمن رأينا قلوبهم ورأوا ضعفنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى