شوف تشوف

الرأي

راشدية أم هرقلية؟

كان (أبو ذر) واعيا حينما قال للنظام الأموي: (أتريدونها هرقلية؟). وهو الذي دفع عمر بن عبد العزيز إلى وقف موجة الفتوحات العسكرية حتى مات مسموما بعد سنتين من حكمه.
إن هذا التحول في الحياة الإسلامية لم يدخل وعينا، كما أن إمكانية نفض تاريخنا لمعرفة ما حدث لم يبدأ العمل به بعد، وما زال تاريخنا مقدساً مصاناً، بعيداً عن عين النقد وأدوات السبر والمراجعة، وما زالت روح الفتوحات والسيف تظلل الحياة السياسية حتى اليوم (تأملوا المسلسلات الرمضانية؟)
والشيء المرعب الذي حدث ـ ولعله تأسس منذ مصالحة الفقيه (أبو يوسف) مع النظام العباسي ـ بكتابه عن (الخراج) إلى هارون الرشيد، بحيث إن ما سيطر على العقل الإسلامي ـ وما زال ـ أن الذي يتمكن بالسيف من قهر العباد و(يمكن له) تسك النقود باسمه، ويدعا له على المنابر يوم الجمع، ولو كان من عتاة المجرمين، وبذلك ودع المسلمون (الرشد) في إجازة مفتوحة إلى إشعار آخر.
وهذا التأسيس لفكرة (الإكراه) وعبادة القوة، أخرجت نموذج الإنسان الخائف المنسحب (بتعبير مالك بن نبي إنسان ما بعد الموحدين)، الذي يردد (اللي أخد أمنا بنسميه عمنا) ويصفق لكل انقلابي ناجح، وأدخلت المرض إلى مفاصل الثقافة الإسلامية بأشد من الروماتيزم الخبيث.
ولم يخرج (الحداثيون) من قمقم الفكر التراثي ففكروا بنفس طريقة السفاح وأبو مسلم الخراساني؛ فاعتلوا ظهر الحصان العسكري لتحقيق طموحاتهم فأوردهم المهالك.
وعندما اعتمد (صلاح البيطار) البعثي في سوريا أسلوب الانقلاب، دفع ثمن ذلك أن وقع صريع رصاصهم في باريس. إن في ذلك لآيات للمتوسمين.
إن المثقفين البعثيين من مؤسسي حزب البعث مثل عفلق والبيطار الذين استولى عليهم شعور إنقاذ الأمة من التخلف كانت (نواياهم) طيبة، ولكن لم يفهموا أن إدخال القوة والعنف لتغيير الأمة إفساد له، ولا يمكن أن يكون إصلاحاً بحال؛ فهنا جمعوا بين (نية الصلاح) و(طريق الفساد) من غير أن يشعروا.
وهذا ينطبق على الإسلاميين كما ينطبق على القوميين. وعندما تكون (النية) جيدة وأن تغيير الأمة يجب أن يتم (بالإكراه) والأفكار بالقوة؛ فإن النية لا تشفع، ويدخل المرء عمق الفساد. ويدرك المرء بمرارة أن الاعتماد على العسكر خطير، وأن كل حصان قابل للترويض إلا الحصان العسكري، وأن العسكر سيلتهمون أصحاب النية السليمة، وأن الجناح العسكري هو الذي سيحكم المثقفين، وأن السيف سيكون فوق القانون، وأن كرسي السلطة ألذ من كل لذائذ الدنيا، وأن المرجعية الأساسية في المجتمع هي القوة.
من قتل البيطار وحسن البنا وأنطوان سعادة؟ (ونظيرها في المغرب ضباط الانقلاب في الصخيرات) إنها الأفكار التي رعوها.
وطالما تغذى الجميع من فكر القوة، وأن القوة فوق الجميع؛ فإن تصفية الرفاق والإخوان لبعضهم البعض هي تحصيل حاصل (مثلها في المغرب كيف قتل اعبابو الجنرال المذبوح فذبحه ولم يبالي؟).
إن فكرة تغيير الأمة بالجيش، والأفكار بالقوة فاسدة من أقطارها الأربعة: من (الدين) و(علم الاجتماع) و(البيولوجيا) و(السياسة):
ـ فهي أولا الشرك في (الدين)، وكما كانت شهادة أن (لا إله إلا الله) الأعظم كذلك بنيت الحياة السياسية على مبدأ (لا إكراه في الدين). وحرف (لا) للنفي يدخل على كل صور الإكراه وكل دين وفي أي اتجاه. فلا يقتل الإنسان من أجل آرائه أياً كان اعتناقاً وتركاً دخولاً وخروجاً وإلا كانت إكراها وحبساً (ما يشبه السيارات التي تمشي للأمام فقط وطرقات سريعة باتجاه واحد).
وهذا يعني أنه بمجرد دخول الإكراه في الدين؛ فقد دخل الشرك ومزج التوحيد بالوثنية، واختلط الحق بالباطل. والذي يعلق أي أمل بالقوة؛ فقد أشرك في لغة الدين، وأدخل مع الله آلهة أخرى وأبطل عمله (في القرآن حبط عمله)؛ فمع الشرك يحبط كل عمل (لئن أشركت ليحبطن عملك).
ـ وهي ثانياً في لغة (علم الاجتماع) الدخول إلى (شريعة الغاب) والذي يملك القوة هو الله لا إله غيره، وهو ما قاله فرعون لموسى (لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين). أو للسحرة (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى)، وهكذا فإن (عبادة القوة) هي عبادة الطاغوت والسجود للصنم.
ـ وهي ثالثاً في (اللغة البيولوجية) طلاق العقل واعتماد العضلات، وهو الفساد الأكبر للإنسان عندما تنقلب الأدوار؛ فيمشي الإنسان على رأسه منكساً، ولكن من يمشي على رأسه يخسر رأسه ورجليه معاً.
أتذكر من مقابلتين منفصلتين مع قناة «الجزيرة» حين سئل قيادي إسلامي وآخر شيوعي السؤال نفسه: هل مارستم العنف؟ وكان جواب الاثنين واحداً: (نعم دفاعاً عن النفس).
إن استخدام العنف لتحويل المجتمع هو الذي يجعل القاتل والمقتول في النار، لأنه (ليس كل دفاع عن النفس حقاً)، وهذا الشيء لا يستطيع فهمه لا الشيوعي ولا الإسلامي ولا الليبرالي ولا القومي، كما أن العالم جميعاً ليس له قدرة على فهم هذا الشيء الذي جاء به الأنبياء؛ لأن الكل يجيز (الدفاع عن النفس)، ولكن الدفاع عن النفس هو في الحقيقة في وجهه الثاني الخفي الاستعداد للهجوم على الآخرين، أي برمجة العدوان والقوة في المجتمع، وعندما يلتقي الطرفان بالسيف يتحول المجتمع إلى جهنم، يلتهم كل الناس وما حديث أفغانستان ببعيد والعراق والحشد الشعبي والاقتتال بين فصائل لا نهاية لها في الشرق الأوسط.
ما معنى أن يكون الإنسان في مجتمع؟ إن وعياً مقدساً من هذا النوع يخلق (المواطن المنتمي)، لأن المجتمع يحمي من العدوان، والمجتمع الذي لا يستطيع حماية أفراده ويلجأ فيه كل فرد إلى الأخذ بحقه بذراعه يتحول إلى (مجتمع غابة)، وهي نكسة نوعية للخلف عشرة آلاف سنة.
ومجتمعات (الغابة الجديدة) لا ينفع فيها التغيير بالقوة، لأنه تغيير أشخاص بأشخاص، دون المساس بنظام الفكر الذي يهيمن عليه، ولهذا فإن الفرقاء كلهم من (ملة واحدة) هي ملة (الشرك) و(العضلات) و(الغابة) و(الديكتاتورية).
ـ وأخيراً في (علم السياسة) تعني الديمقراطية أن يقر الجميع أن لا يلجأ طرف إلى العنف وأن تطلق الحريات في (التفكير) و(التعبير) والتجمع والتحزب، ويحرم شيء واحد فقط هو استخدام القوة والسلاح والإكراه لفرض الأفكار.
إن منهج الأنبياء يقوم على (تراض منهم وتشاور) و(لا إكراه في الدين) وهو يستخدم اللاعنف من طرف واحد، حتى لو اعتمد الآخر على العنف؛ لأن التورط في العنف معناه الدخول في مذهب الآخر، والأنبياء دعوا إلى شق طريق جديد في تحرير الإنسان من علاقات القوة، ووثنية الإكراه، بأن لا تكون المرجعية الأساسية في المجتمع السلاح والعضلات والإكراه، فهذا هو لب التوحيد؛ أن لا إله إلا الله، وليست القوة هي الله، وليس الحاكم هو الله، رب الناس ملك الناس إله الناس.
من أجل تحقيق هذا دعا الأنبياء الناس إلى أن لا يقتلوا أحداً أو حاكماً لتغيير الأوضاع، لأنه استبدال طاغوت بطاغوت، ولكن أن يغيروا رصيد ما بنفوسهم بالتخلص من القابلية لعبادة القوة، فلا يمكن لديكتاتور أن يعتلي ظهر شعب واع، والديمقراطية هي ليست صناديق الانتخابات، بل وعي الجماهير، كما أن أي حاكم لا يمكن أن يحكم جماعة من الناس بدون رصيد قبولهم له ولحكمه وإرادته. في القرآن إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين.
وهكذا فقول الحق وعدم الدفاع عن النفس، والموت من أجل هذا، هو الذي يكرر عمل ابن آدم وموقف سيد الشهداء حمزة.
إن الذين لا يفهمون هذه القواعد ويدخلون حوارا، فهم ومن يقابلهم أقرب إلى حوار الطرشان، وهو ما يجري في المحطات الفضائية، اليوم، بسبب شدة استحكام أفكار القوة، في مفاصل الفكر العربي وقناعتهم باستبدال طاغية بطاغية واستبدال قوة بقوة، وهذا لا يصنع ديمقراطية ولا دنيا ولا دينا ولا مجتمعا إنسانيا، بل تبادل مستمر للقتل، والاستمرار في القتل والقتل المضاد، والذي لا يفهم هذا لا يمكن أن يكشف ما جاء به الأنبياء، ولا ما جاءت به الديمقراطية، ولا ما أوحى به رب العباد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى