رسالة أعادت اسم مولاي إسماعيل إلى الواجهة
وضعتها شركة تحف أوروبية في مزاد بقيمة تقارب 30 مليونا

يونس جنوحي
«وإني عبد الله لا أستطيع الحديث معك لا بالبريد ولا بالرسائل التي تذهب وتجيء. وإذا ما رغبت في إرسال شخص إلى قصري للحديث والتفاوض معي، كعادة الملوك، فسوف يتم تلبية مطالب الجانبين بإذن الله، وعليكم السلام، ولكم موفور الصحة».
الكلام هنا مقتطف من رسالة تعود إلى السلطان مولاي إسماعيل، ونصها الأصلي موجود في المتحف البريطاني الرسمي، كما أن رسائل مشابهة توجد في أرشيف الخزانة الملكية.
كيف وصلت رسالة المولى إسماعيل التي يعود تاريخها لشهر دجنبر 1720، إلى شركة متخصصة في بيع وشراء التحف والوثائق التاريخية؟ سؤال تحيط به الكثير من «المتاهات» التي تجمع التشويق مع الإثارة.
++++++++++++++++++++++++++++
خاتم المولى إسماعيل.. التوقيع الذي يساوي الملايين
الشهر الماضي تصدر اسم السلطان المولى إسماعيل عناوين الأخبار «الغرائبية». فبعد أن أسالت سيرته الكثير من المداد في أوروبا، في سياق إعلان مؤرخ أوروبي أن السلطان مولاي إسماعيل المغربي أنجب ألف ولد! ها هو اسم المولى إسماعيل يعود هذه المرة إلى الصدارة، بعد أن عرضت شركة نمساوية، مقرها في فيينا، رسالة بخط يد السلطان مولاي إسماعيل، بمبلغ 28 ألف أورو (ما يقارب 30 مليون سنتيم).
سألنا بعض خبراء التحف ما إن كانت رسالة للمولى إسماعيل قد مرت من أمام أعينهم، وما إن كانت قيمتها تصل إلى هذا المبلغ أو تتجاوزه، بحكم أن السلطان توفي سنة 1727 م، ومقتنياته صارت من التحف النادرة فعلا.
هؤلاء أجابوا قائلين إن الرسالة عُرضت بثمن معقول، والسبب غياب سماسرة التحف. فلو أن الرسالة سقطت بين يدي جامعي التحف، لتجاوزت قيمتها مئات ملايين السنتيمات. لماذا؟ لأن بعض أسطرها مكتوبة بماء الذهب. وهي عادة دأب عليها المولى إسماعيل في الرسائل المهمة التي يكلف كُتابه بتحريرها، ثم يمهرها بتوقيعه ويكتب اسمه، ويبدأها بعبارة البسملة بخط يده، وغالبا ما كان يستعمل ماء الذهب لهذا الغرض.
ليس غريبا إذن أن تعرض رسالة للمولى إسماعيل مع التحف التاريخية النادرة، ويتسابق جامعو التحف على اقتنائها. لكن كيف تسربت هذه الرسالة من مكانها الطبيعي لتصل إلى ملكية الشركة النمساوية المتخصصة في جمع التحف وعرضها، الموجود مقرها في فيينا؟
«Antiquariat Inlibris» عرضت أكثر من مرة مقتنيات مغربية للبيع. باعت خناجر مغربية مرصعة، تحمل توقيع شخصيات أجنبية عاشت في المغرب ما بين القرنين 18 و19. وبلغ سعر بيع بعض تلك التحف ملايين الأورو. لكن الأمر الآن يتعلق برسالة للسلطان مولاي إسماعيل، تحقق منها خبراء الشركة وتأكدوا فعلا أنها صحيحة وغير مزورة، وتحمل خاتم السلطان وتوقيعه.
بعد انتشار الخبر، وحسب ما يمكن معاينته في مواقع بيع التحف النادرة عبر العالم، صار اسم المولى إسماعيل المغربي مطلوبا لدى صائدي التحف. سُجل ارتفاع في أسعار المقتنيات المغربية، من بينها ألبومات صور تعود إلى فترة 1906، لبعض المدن الساحلية المغربية. فبعد أن كان سعرها لا يتجاوز 400 أورو فقط، صار سعرها فجأة يتجاوز 2000 أورو، رغم أن عدد صور الألبوم لا يتجاوز خمس صور فقط. والأمر نفسه ينطبق على بطائق المعايدة والبطائق البريدية التذكارية المتعلقة بالمغرب، وبعضها يعود فقط إلى فترة ما بعد 1912 بقليل.
أما عندما يتعلق الأمر برسالة تحمل توقيع السلطان مولاي إسماعيل، فلا بد أن سعرها سيعرف إضافة صفر أو صفرين للسعر السابق. وهذا ما يؤكده المهتمون بجمع التحف التاريخية، خصوصا الوثائق.
ما مضمون الرسالة التي أعادت اسم «مولاي إسماعيل» إلى الحياة؟
الرسالة التي أثارت ضجة هذه الأيام، وقيل إن من اشتراها سيدة أعمال مغربية ثرية كانت في جولة سياحية، ولم تتمالك نفسها واشترت الرسالة التي تحمل توقيع السلطان مولاي إسماعيل.. تعود إلى شهر دجنبر سنة 1720.
وموضوع الرسالة، اقتراح من المولى إسماعيل لطي صفحة الخلاف بين المغرب وبريطانيا، بسبب مشكل الأسرى الإنجليز في مدينة مكناس على وجه الخصوص، والذين استعملهم السلطان في بناء ملحقات القصر وبعض البنايات الأخرى في مكناس في ذلك الوقت.
الرسالة وجهها السلطان مولاي إسماعيل إلى السفير البريطاني «شارلز ستيوارت»، مبعوث الملك جورج الأول إلى المغرب.
كان الهدف من زيارة هذا الأخير، عرض هُدنة على المغرب والتمهيد لتوقيع معاهدة سلام، على أن يشارك المولى إسماعيل بنفسه في وضع بنودها ونصوصها.
وبموجب هذه الرسالة، التي يؤكد الخبراء أن قيمتها التاريخية تتجاوز السعر الذي عُرضت به بكثير، فتح المغرب وبريطانيا صفحة جديدة.
أهمية الرسالة تكمن في أنها كانت الشرارة التي ساعدت على تقليص الهوة بين المغرب وبريطانيا، ومكنت من الوصول إلى حل دبلوماسي تمثل في استقبال الوفد البريطاني الرسمي في القصر الملكي بمكناس، لبحث موضوع الأسرى الإنجليز، ومستقبل العلاقات بين المغرب وبريطانيا.
بفضل هذه الرسالة وقع المغرب وبريطانيا، لاحقا، اتفاق سلام في مدينة سبتة، في يناير 1721. وأبان السلطان المولى إسماعيل عن حسن نية عندما أطلق سراح 296 عبدا بريطانيا، شاركوا في بناء قصر مكناس والمباني الملحقة به.
كما أن الاتفاق وضع حدا لحالة انعدام الأمن للسفن العابرة للمياه المغربية، وتعهد المولى إسماعيل بحماية الأساطيل الأجنبية، البريطانية منها على وجه الخصوص، أثناء عبورها بمحاذاة المغرب، في وقت كان فيه قراصنة «سلا» لا يعترفون بمعظم الاتفاقيات.
ما المثير في هذه الرسالة تحديدا؟ لا بد أن «انفلاتها» من حزمة الرسائل الرسمية، ووصولها إلى شركة المقتنيات والوثائق النادرة، هو ما جعل قيمتها المادية مرتفعة لدى جامعي التحف. مصادر «الأخبار» تقول إن خبر اقتناء سيدة مغربية لهذه الوثيقة ليس موثوقا، وبعضهم رجح أن تكون الوثيقة ما زالت معروضة للبيع، فيما قال آخرون تحدثنا إليهم، إن الوثيقة يمكن أن تساوي أكثر، لو جُمعت معها رسائل أخرى من الفترة نفسها. إذ إن بعض «صائدي» الوثائق الأصلية التاريخية، لا يدفعون بسخاء، إلا عندما يتعلق الأمر بمجموعة كاملة من الوثائق، وليس «رسالة» واحدة فقط.
إلا أن هذا كله لا ينقص من أهمية الرسالة التي وقعها السلطان مولاي إسماعيل، علما أن متاحف باريس وهولندا وحتى إيطاليا والنمسا تتوفر على نصوص رسائل تحمل توقيع وخاتم سلاطين الدولة العلوية في مختلف الفترات، وهي كلها رسائل رسمية.
حكاية معاهدة مغربية بريطانية أحياها مزاد «فيينا» بعد 304 سنوات
المؤرخ البريطاني، السيد «ب. ج. روجرز»، صاحب المُؤَلَّف الشهير «تاريخ العلاقات الإنجليزية المغربية حتى العام 1900»، أول وأبرز من وثق لكرونولوجيا الاتفاقيات المبرمة بين البلدين وسياقها.
وقد ذكر في هذا المرجع العام، سياق معاهدة 1721 الذي سجلته الوثيقة التي وصلت إلى الشركة النمساوية في فيينا. يقول:
«.. أخيرا قرر الأميرال كورنوول إرسال أحد قواد أسطوله إلى مكناس، ووقع اختياره على الكابتن نوربري والذي اصطحب القنصل هاتفيلد للقيام بواجب الترجمة. وعندما اكتشف السلطان أن نوربري لم يكن مخولا بكل الصلاحيات وأنه ليس بدرجة السفير، رفض أن يبحث معه مسألة إطلاق سراح الأسرى. الأدهى من ذلك أن نوربري سلك سلوكا متعجرفا تنقصه أسباب اللياقة، مما زاد من سخط المولى إسماعيل عليه، فاضطر للعودة إلى سفينته دون إنجاز أي شيء.
وجاءت المحاولة الثانية للتفاوض من الأميرال بينج، الذي كتب في غشت عام 1718 رسالة إلى السلطان، يسأله فيها عما إذا كان يسمح بإرسال مبعوث بريطاني إلى تطوان لبحث مقترحات السلام، وإطلاق سراح الأسرى. وبعث الأميرال بينج مع خطابه هدية إلى السلطان عبارة عن ثلاثة كلاب من فصيلة «البولدوج» المدربة على الصيد، وَسُرَّ المولى إسماعيل كثيرا بالهدية التي ما إن وصلت إلى مكناس حتى أرسل موافقته على اقتراح بينج، وبادر الأخير بإرسال واحد من قواده هو الكابتن فيليب كافنديش إلى تطوان في أبريل عام 1720 .
(..)
على ضوء تلك الانتكاسات المتكررة قرر الجانب الإنجليزي أخيرا إرسال تشارلز ستيوارت كمبعوث كامل الصلاحيات في يوليوز عام 1720، وبعد مفاوضات مفصلة أمكن الحصول على موافقة السلطان على معاهدة سلام وتجارة، تم توقيعها في فاس، في 23 يناير عام 1721. وقد ضمت هذه المعاهدة خمس عشرة مادة، ومنحت للإنجليز الامتيازات ذاتها التي تمتعوا بها في الاتفاقيات السابقة. وقد نصت المادة الرابعة عشرة على:
– عدم تجاهل هذا السلام، أو قبول أي اعتذار عن تنفيذه، وسوف يتم نشر هذا وإعلانه لكافة رعايا الدولتين. كما سوف يتم توقيع هذا التصريح وحفظه من جانب كل من القوتين لمنع المنازعات-.
كما نجح ستيوارت أيضا أخيرا وبعد جهد في إطلاق سراح الأسرى الإنجليز (البالغ عددهم مائتين وثلاثة وتسعين)، باستثناء واحد. تمثل هذا الاستثناء في صبي رفض تحريره، لأنه كان ملكا لواحد من أبناء المولى إسماعيل المقربين، وقد رفض هذا الابن فراقه.
ويعزى نجاح ستيوارت في أحد جوانبه إلى السخاء الذي وزع به الهدايا، ليس للسلطان فقط، وإنما أيضا لعدد غير قليل من رجال البلاط، بمن فيهم أصحاب المراتب الدنيا، مثل هؤلاء الذين يحملون المظلة الملكية فوق رأس السلطان في الاحتفالات لحمايته من الحرارة. غير أن الجانب الأكبر من نجاح ستيوارت يعزى إلى براعته وفهمه لمشاعر المغاربة وأحاسيسهم. وفي الخطاب الذي بعث به المولى إسماعيل إلى الملك جورج الأول، والمؤرخ في 7 غشت عام 1721، والذي حمله ستيوارت معه لدى عودته إلى إنجلترا، يلاحظ السلطان أن المبعوث قد أثبت بأنه شخص ذكي، حاذق في شؤون الدولة، وأفضل من أي شخص جاء من عند جلالتكم إلينا».
حقيقة تاريخية.. المولى إسماعيل انتصر على بريطانيا في التفاوض على الأسرى
من بين الحقائق التاريخية التي كشفتها الرسائل المتبادلة بين المولى إسماعيل، الذي حكم المغرب ما بين سنتي 1672 و1727، من قصره في مكناس، وبريطانيا، ما يتعلق بجانب التفاوض على الأسرى.
ونصوص هذه الرسائل ما زالت في نسخها الأصلية كما توصل بها البريطانيون، محفوظة في المتحف الوطني بلندن.
حتى أن المؤرخ البريطاني «د. روجرز»، وهو للإشارة أحد أشهر المؤرخين البريطانيين في القرن العشرين، كتب على ضوء أرشيف تلك الرسائل المغربية، وأيضا على ضوء الرسائل البريطانية الرسمية:
«وفي يونيو عام 1716 وصل الأدميرال كورنوول على رأس قوة بحرية إلى جبل طارق، وكتب من هناك رسالة إلى المولى إسماعيل يطلب فيها إرسال مبعوث إلى جبل طارق، لبحث إنهاء الصدامات البحرية القائمة وتبادل الأسرى. واستجاب المولى إسماعيل لتلك المبادرة، وأرسل مبعوثا يدعى موليناس وافق على هدنة بحرية مدتها عام وعلى تبادل الأسرى. وتبقي بعد ذلك تصديق السلطان على هذا الاتفاق، بيد أنه لم يصل لكورنوول ما يفيد بهذا التصديق. دعاه ذلك إلى أن يضرب حصارا على الموانئ المغربية الرئيسية، وإلى التهديد بالاستيلاء على السفن المغربية، بالإضافة إلى أخذ المغاربة العاملين في جبل طارق كرهائن.
رغم ذلك استمر عدد الأسرى الإنجليز في تزايد، إذ بلغ عددهم في غشت عام 1716 مائة وخمسة وعشرين. كما استمر مولاي إسماعيل ملتزما بالصمت إلى فاتح أكتوبر من السنة نفسها، حين بعث برسالة إلى الجانب الإنجليزي يبلغه فيها بأنه قد أصدر أوامره بعدم تكليف الأسرى بأشغال شاقة، إلى حين انتهاء المفاوضات الخاصة بهم. وفي ماي عام 1717 وفي محاولة لتجاوز المأزق، تم تعيين تاجر من تطوان هو أنطوني هاتفيلد قنصلا، على ألا يحصل على راتب، وإنما يجمع رسوما قنصلية على شكل نسبة مئوية ضئيلة عن السلع المستوردة على السفن الإنجليزية. وقد راود الأمل حكومة لندن في نجاح هاتفيلد في إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، الذين بلغ عددهم في مارس عام 1717 مائة وثلاثة وخمسين أسيرا».
يقول روجرز في السياق ذاته:
«ويصف خطاب من أحد الأسرى، ويدعى جون ويلدون، أرسله إلى زوجته من مكناس في 6 يونيو عام 1716، يصف الحالة التعيسة للأسرى الإنجليز فيقول:
نوجد في أكثر المناطق بربرية في العالم، وسوف أعطيك وصفا بسيطا لتعاساتنا في العبودية هنا. يتم إجبارنا على جر العربات بحبال في أكتافنا مثل الخيول، بالإضافة إلى ذلك نحمل قضبانا كبيرة من الحديد على نفس الأكتاف بأقصى ما نستطيع حمله، وأن نقف بها وقد غاصت أقدامنا في الطين حتى ركبنا، ثم أن نتزحلق بهذه الأحمال في أرض يصعب التحرك فيها بدون أحمال. ونحصل على قطعة من الخبز كل ثمانية أيام، وننتقل من باب إلى باب نتسول من سائر العبيد المسيحيين.
أما مأوانا فهو الأرض الباردة، ولم أرتد قميصا طوال الشهور الثمانية الماضية، ولا يعلم سوى الله متى سأرتديه. وإني أعتقد بأن كل المسيحيين في إنجلترا قد نسونا، حيث إنهم لم يرسلوا إلينا أي عون منذ وقعنا في إسار العبودية.
وبلغ تذمر أقارب الأسرى في إنجلترا مداه في ماي، وأصبح يشكل عنصر ضغط على الحكومة. ذلك أن الحصار الذي فرضه الأسطول على الموانئ المغربية لم يؤت بنتيجة، أو أتى بنتيجة غير مؤثرة، إذ يبدو أن وزراء السلطان قد حرصوا على حجب حقيقة الأوضاع عنه. وفي خطاب كتبه المولى إسماعيل من مكناس، مؤرخ في 18 جمادي الآخر عام 1129 هــ ماي 1717، عبر للأميرال كورنوول عن سخطه على الطريقة التي عامله بها الإنجليز».
يقول المؤرخ روجرز إن السلطان مولاي إسماعيل وبخ المبعوث الدبلوماسي البريطاني، ولم يجد الأخير بُدا من نقل رسالة السلطان إلى ملك بريطانيا، مع توصية خاصة بضرورة تسوية المشكل مع المولى إسماعيل، بحسب شروطه. حتى أن الرسالة جاء فيها على لسان المولى إسماعيل: «وإني عبد الله لا أستطيع الحديث معك لا بالبريد ولا بالرسائل التي تذهب وتجيء. وإذا ما رغبت في إرسال شخص إلى قصري للحديث والتفاوض معي، كعادة الملوك، فسوف يتم تلبية مطالب الجانبين بإذن الله، وعليكم السلام، ولكم موفور الصحة».
رسائل مغربية لا تُقدر بثمن.. والمتحف البريطاني لا يسمح ببيعها «أبدا»
يبقى المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي، أهم أكاديمي مغربي اشتغل على أرشيف الرسائل السلطانية التي تحتفظ بها بريطانيا في أرشيفها الرسمي. وبعض تلك الرسائل، وجد الباحثون نظيرا لها، أو رسائل في الفترة نفسها لتحريرها، في أرشيف الخزانة الملكية المغربية.
وإحدى الرسائل التي ما زالت موجودة في نسختها الأصلية لدى البريطانيين، تلك التي بعثها السلطان المولى إسماعيل إلى ملك بريطانيا، محمولة بين يدي السفير المغربي محمد بن حدو أثناء زيارته الرسمية إلى بريطانيا، يوم 15 دجنبر سنة 1681. موضوع الرسالة يتعلق بوضع بنود اتفاقية تجمع المغرب وبريطانيا، وتفضي إلى صلح بعد سنوات من التوتر، بسبب ما عُرف وقتها بقضية مدينة طنجة التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، قبل أن يستعيدها المغرب في فترة المولى إسماعيل نفسه.
كان الوفد المغربي الذي حمل الرسالة، يتكون من السفير محمد بن حدو، مرفوقا بمحمد الحافظ ومحمد لكاش. وقد اطلع التازي على نص الرسالة وأورد صورة عنها في موسوعته، «التاريخ الدبلوماسي للمغرب من أقدم العصور إلى اليوم».
وقد كتب متحدثا عن سياق الرسالة، يقول:
«وقد وجدت إنجلترا نفسها وجها لوجه مع السلطان المولى إسماعيل الذي توجه بكل ثقله للضغط على طنجة، فور قضائه على الخضير غيلان!
فبالرغم من اتفاقية الهدنة البحرية بين السير بالميس فير بورن، حاكم طنجة، وبين الحاج عبد القادر مورينو، حاكم سلا الجديدة (الرباط)، بتاريخ 28 غشت 1676، قامت القوات المغربية بقيادة عمر بن حدو البطوئي في بداية سنة 1678، بمداهمة أطراف المدينة…
وقد أضيف إلى قائمة القتلى السير بالميس نفسه، الذي أُصيب يوم 24 أكتوبر 1680، فتوفي بعد ثلاثة أيام متأثرا بجراحه، حيث عوضه في القيادة الكولونيل إدوارد ساكفيلEdward Sackville ، الذي خطط لحيلة انتقامية تتلخص في شن هجوم مباغت وقوي على القوات المغربية…
ومن هنا تجدد التفكير في إرسال سفارة مغربية إلى إنجلترا لمفاتحة الملك شارل الثاني في قضية طنجة، حيث اختار السلطان مولاي إسماعيل لرئاسة هذه البعثة محمد بن حدو الذي وصل إلى طنجة، معززا بوفد هام كان فيه الكاتب أحمد لوقّش، والقائد محمد الحافظ، وعدد من المساعدين، استقبل استقبالا حافلا على ما تذكره المصادر والتقارير الإنجليزية.
وعلى العادة في مثل هذا الحال، رأينا الكولونيل كيرك يرفع تقريرا إلى بلاده يحمل تاريخ 8 دجنبر 1681، يتضمن نبذة عن السفير ابن حدو..
وقد عاد السفير ابن حدو إلى طنجة ما بين 30 غشت و9 شتنبر 1682، ومن طنجة سافر إلى مكناس، حيث قدم تقريره إلى السلطان مولاي إسماعيل، مع مشروع الاتفاقية التي كان السفير قد شرط قبل تنفيذها أن تُعرض على السلطان ليبقيها كما هي، أو يُعدلها..».
هذه الرسالة واحدة فقط من مئات الرسائل، التي تعود إلى عهد المولى إسماعيل. وهناك أيضا رسائل تعود إلى عهد أبنائه من بعده، أو التي قبل فترة العلويين، سيما الرسائل المغربية أيام الدولة السعدية، إلى ملكة بريطانيا، الملكة إليزابيث الأولى.. وهي أيضا رسائل لا تقدر بثمن، وما زالت نصوص أغلبها، بختمها السلطاني قبل خمسة قرون، معروضة في المتحف البريطاني.
رسائل مغربية تعود إلى قرابة خمسة قرون وبعضها لا يزال مبحوثا عنه
بعض الرسائل المخزنية اختفت من الأرشيف، أو يتوفر المتحفان البريطاني والفرنسي على صور منسوخة عنها فقط، بينما يُجهل مصير أصولها.
أغلب هذه الرسائل تعود إلى عهد الملكة إليزابيث الأولى التي توفيت سنة 1603. وخلال عهدها، تبادلت الكثير من الرسائل مع السلطان المغربي، المنصور السعدي. وبعض هذه الرسائل لم يُعثر عليها، بينما احتفظ القائمون على أرشيف الملكة إليزابيث بتلخيص لها، أو ذكروا مضمونها في تدوين الأحداث.
وحسب المؤرخ «روجرز»:
«وقد قامت أول رحلة إنجليزية معروفة إلى المغرب عام 1551 اشتركت فيها سفينتان، إحداهما هي – ليون أوف لندن- التي كان يقودها الكابتن توماس ويندام، وكان في الوقت نفسه قائدا للرحلة، وتمت رحلة ثانية في العام التالي تحت قيادة ويندام أيضا، وإن ضمت ثلاث سفن هذه المرة، وموَّل الرحلتين عدد من تجار لندن. وقد غادرت السفن الثلاث بريستول في أوائل ماي عام 1552، اتجهت إلى آسفي وهي محملة بالأقمشة والمرجان والكهرمان بنوعيه الأصفر والأسود وغيرها من البضائع. وفي آسفي تم إنزال بعض البضائع لنقلها إلى مراكش، ثم استأنفت القافلة، ومنها قفلت السفن راجعة رحلتها إلى سانتا كروز (أكادير) محملة ببقية البضائع.
وقد حصلت في مقابل حمولتها على السكر والبلح واللوز، وهي الحمولة التي بيعت في لندن لدى عودة القافلة إليها في أكتوبر عام 1552.
وكانت بداية العلاقات التجارية بين البلدين ناجحة وذات عائد وفير، حيث ثبت أن كل بلد يستطيع أن يمد البلد الآخر باحتياجاته. فعلى الناحية المغربية، رأى السلاطين أنه بإمكانهم من خلال هذه العلاقة الحصول على السلاح والذخيرة، كما رأى التجار إمكانية الحصول على الأقمشة الإنجليزية التي يتزايد الطلب عليها يوما بعد آخر. أما على الناحية الأخرى، فقد اهتم الإنجليز بنترات البوتاسيوم المغربي لما تمتاز به من نوعية متفوقة، ونظروا النظرة نفسها للسكر أيضا، والذي تزايد الطلب عليه في أوروبا خلال القرن السادس عشر. ومن المعلوم أن سلاطين السعديين قد استزرعوا مساحات واسعة في جنوب مراكش بقصب السكر، وأوكلوا إدارة تلك المزارع إلى اليهود. وقد جلب تصدير السكر على هؤلاء السلاطين دخلا عظيما، بسبب ارتفاع معدل استهلاكه في أوروبا».
لكم إذن أن تتصوروا مقدار الرسائل التي تبادلتها الملكة إليزابيث في سياق سباقها مع دول أوروبا الأخرى للفوز بمكانة دبلوماسية لدى المغرب، المصدر الأول لمادة السكر الأساسية في الحياة اليومية للأوروبيين، قبل قرون خلت.
رغبة الملكة إليزابيث في الانفراد بصداقة المغرب، جعلت خط الرسائل لا ينقطع طوال سنوات حكمها، حتى أن صداقتها التي توطدت مع المنصور الذهبي بلغت حد التحالف مع المغرب ضد دول أوروبية منافسة، حتى تضمن الملكة بقاءها في الصدارة.





