حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

بين شهوة الذبح وواجب الوطن

يقترب عيد الأضحى هذا العام على إيقاع مختلف، حيث يخيم صوت الحكمة فوق ضجيج العادة، وتعلو مصلحة الوطن فوق نزعة الفرد. في زمن شحيح بالمطر، مثقل بتقلبات المناخ وضغوط الاقتصاد، جاءت التوجيهات الملكية السامية لتخاطب ضمير الأمة قبل عاداتها، معلنة بصدق المسؤول عن رعاية القطيع الوطني: كل واحد فينا.

لطالما كان عيد الأضحى موسما للفرح واللمة والعطاء، لكنه أيضا ـ في جوهره الشرعي ـ سنة مؤكدة ترتبط بالاستطاعة. واليوم، حين تهدد شح الأمطار، وارتفاع أسعار الأعلاف، وتراجع أعداد الماشية، أمننا الغذائي، يصبح الامتناع عن الذبح عبادة من نوع آخر، عبادة في شكل تضحية بالعادة لأجل الوطن. إنه اختبار حقيقي لمعنى المواطنة ولجوهر الدين في صورته الرحيمة والعادلة.

إن القطيع الوطني ليس مجرد رؤوس من الغنم تجوب المراعي، بل هو عصب من أعصاب أمننا الغذائي، ومخزون استراتيجي يقي البلاد أزمات قادمة في زمن تتحكم فيه الحروب والجفاف في مصير الغذاء العالمي. وحين يضعف هذا القطيع تحت وطأة الظروف القاسية وأسباب أخرى سبق أن فصلنا فيها في مقالات سابقة، فإن ذبح الأضاحي يصبح استنزافا لما تبقى من هذه الثروة، ويهدد بموجات غلاء قد تطحن الفقير وتضيق على المتوسط، وتربك الاقتصاد الوطني برمته.

من هنا، كان النداء الملكي صوت العقل الذي يعلو على العاطفة الموسمية، يضع نصب عينه مصلحة الأمة، ويعيدنا إلى جوهر العبادة: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها». فالتضحية الحقيقية في هذا العيد، ليست في إسالة الدم، بل في كبح الرغبة والاستجابة لنداء الوطن حين يحتاج إلينا جميعا.

إن بعض الأصوات التي تحاول تصوير هذا القرار كمساس بالحق الفردي، تغفل عن جوهر الحقوق حين تتقاطع مع مصلحة الجماعة وأمنها. فالحق الفردي مشروع ما لم يصبح تهديدا للصالح العام. وحماية القطيع اليوم ليست قرارا إداريا باردا، بل درع وقاية من أمراض سبق أن عصفت بالمنطقة، من الحمى القلاعية إلى طاعون المجترات، ناهيك عن أزمة القدرة الشرائية التي باتت تضع الأضحية في مرتبة الكماليات المكلفة لا الفروض الواجبة.

إن التزامنا بهذا التوجيه الملكي ليس فقط طاعة لأمير المؤمنين الذي يستمد شرعيته الدينية والسياسية من حماية رعيته، بل هو امتحان للوعي الجمعي الذي يعلو فيه صوت الوطن على همسات العادة والتقاليد الجامدة. فنحن اليوم أمام لحظة تاريخية نقيس فيها مقدار إيماننا الحقيقي بوطننا، وقدرتنا على أن نرتقي بالتدين من طقوس محفوظة إلى سلوك يضع الرحمة والعقل في مقدمة الممارسة الدينية.

في هذا العيد، لن نرفع السكاكين، بل سنرفع قيمة الوطن، وسنقدم له أضحية من نوع آخر: أضحية الحكمة، أضحية الوعي، وأضحية التضامن. فليس أجمل من وطن نخرج فيه من مواسم العبادة ونحن أقوى، أكثر رحمة ببعضنا، وأقدر على مواجهة أقدار الأيام القادمة بثروة حيوانية محمية وضمير جماعي يقظ.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى