
تواجه وزيرة الثقافة الفرنسية، رشيدة داتي، واحدة من أكثر الملفات القضائية إثارة للجدل في مسيرتها السياسية، بعد قرار القضاء الفرنسي إحالتها إلى المحاكمة بتهم تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ، في إطار علاقتها بشركة “رينو-نيسان” خلال فترة توليها منصباً في البرلمان الأوروبي. وبينما تواصل داتي نفيها القاطع لأي مخالفات، وتعتبر الملاحقات القضائية التي تطولها “مليئة بالاختلالات”، فإن تصريحاتها الأخيرة ضد القضاة أثارت استياء المؤسسة القضائية، ودفعت رئيس المحكمة القضائية في باريس إلى التحذير من تقويض ثقة المواطنين في العدالة. ومع تصاعد الضغط السياسي والإعلامي، تترقب الأوساط السياسية الفرنسية مسار المحاكمة المحتملة وما ستؤول إليه من نتائج، خصوصاً مع احتمالات ترشح داتي لرئاسة بلدية باريس في 2026.
إعداد: سهيلة التاور
ندد رئيس المحكمة القضائية في باريس، بييمان غاليه-مرزبان، أمس الأربعاء، بـ«الإهانة العلنية» التي طالت القضاة، على خلفية تصريحات أدلت بها وزيرة الثقافة الفرنسية، رشيدة داتي، إثر قرار إحالتها إلى المحاكمة إلى جانب المدير التنفيذي السابق لتحالف رينو-نيسان، كارلوس غصن، بتهم تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ.
وفي بيان رسمي، شدد رئيس المحكمة على أن «من حق كل شخص تقديم ما يدعم دفاعه في إطار احترام قرينة البراءة، إلا أن التعريض العلني بقضاة ملزمين بواجب التحفظ وغير قادرين على الرد، يقوض الثقة المشروعة للمواطنين في العدالة ويسيء إلى السلطة القضائية».
وجاء هذا الرد بعد أن انتقدت وزيرة العدل السابقة في عهد نيكولا ساركوزي، وهي بدورها قاضية سابقة، مسار القضية خلال مقابلة مع قناة LCI مساء أول أمس الثلاثاء، واصفة إياها بـ«الإجراءات المليئة بالاختلالات». وأكدت براءتها، متهمة بعض القضاة بانتهاك حقوق الدفاع وبارتكاب «تجاوزات خطيرة» .
وكانت داتي قد وجهت سهامها تحديداً إلى المدعي المالي العام، جان-فرانسوا بونير، قائلة إنه عبر لها عن رفضه للاتهامات خلال اجتماع استمر ساعتين ونصف، وأضافت: «نظرت إليه مباشرة وأخبرني بأن مكتبه لا يعمل كما ينبغي» .
لكن بونير نفى هذه التصريحات، في بيان صدر أمس الأربعاء، وأكد دعمه الكامل لقضاة النيابة المالية، مشيراً إلى أنه صادق شخصياً على التحليل القانوني الذي قدمه فريقه، والذي أوصى بإحالة داتي إلى المحاكمة في نونبر، وهو ما تبناه قضاة التحقيق لاحقاً.
مسار قضائي شائك
في بيانه، شدد رئيس المحكمة على أنه «من حق أي متقاضٍ الطعن في أي قرار قضائي يصدر بحقه»، في إشارة إلى إمكانية الطعن القانونية المتاحة أمام داتي وغصن، اللذين ينكران كافة التهم المنسوبة إليهما في هذه القضية التي تعود إلى عام 2019، وتحمل أبعاداً سياسية نظراً لترشح داتي المحتمل لرئاسة بلدية باريس.
وفي خضم هذه التطورات، طالب السكرتير العام للحزب الاشتراكي، بيير جوفيه، باستقالة رشيدة داتي، واصفاً إياها بـ«البلطجية»، بسبب قرار إحالتها إلى محكمة الجنايات. وقال في مقابلة مع راديو سود: «نطالب بشكل واضح باستقالة داتي»، مضيفاً: «إنها تستخدم أساليب شبيهة بتلك التي يستخدمها ترامب» في هجماتها على القضاء.
اتهامات مالية في صلب المحاكمة
وفقاً للقرار القضائي، ستُحاكم الوزيرة، البالغة من العمر 59 عاماً، بتهم تتعلق بتلقي مكافآت غير مشروعة، واستغلال النفوذ، والفساد السلبي أثناء توليها منصباً انتخابياً عاماً في هيئة دولية، هي البرلمان الأوروبي.
وقد أعلن محاميا داتي، أوليفييه باراتيلي وأوليفييه باردو، أنهما سيقدمان طعناً فورياً ضد القرار، مشيرين إلى أن طعناً سابقاً حول تقادم الوقائع قد رُفض منتصف يوليوز.
وتشتبه السلطات في أن رشيدة داتي حصلت على مبلغ 900 ألف يورو بين عامي 2010 و2012 مقابل خدمات استشارية لصالح شركة RNBVعندما كان غصن رئيسا للمجموعة، وهي فرع من فروع تحالف رينو-نيسان، بموجب عقد وقع في 28 أكتوبر 2009. وتقول النيابة إن هذه الخدمات لم تُقدم فعلياً، فيما كانت داتي لا تزال تشغل منصب نائبة في البرلمان الأوروبي وتمارس مهنة المحاماة في الوقت ذاته (2009-2019). ويشتبه بأن الاتفاق مع الشركة كان ستارا لنشاط ضغط في البرلمان الأوروبي، وهو ما يُحظر على النواب القيام به.
وكان مكتب المدعي العام الفرنسي للجرائم المالية طلب في نونبر 2024 محاكمة داتي، التي من المتوقع على نطاق واسع أن تترشح لمنصب رئيس بلدية باريس في مارس 2026، ورئيس شركة رينو-نيسان السابق غصن في إطار تحقيق بالفساد.
وعمل المحققون على التدقيق في المقابل المادي للاستشارات الذي تلقته داتي من تحالف رينو-نيسان للسيارات، الذي وظفها مستشارة بعد أن استقالت من منصبها وزيرة للعدل عام 2009 للترشح للبرلمان الأوروبي.
وتنفي داتي وغصن -الذي يحمل الجنسيات الفرنسية واللبنانية والبرازيلية- التهم الموجهة إليهما في القضية التي بدأ التحقيق فيها في باريس عام 2019.
ويقيم غصن (71 عاما) حاليا في لبنان، وصدرت بحقه في أبريل 2023 مذكرة توقيف دولية في الملف. وسيحاكم بتهم استغلال النفوذ من قبل رئيس شركة، وإساءة الأمانة، والفساد.
وأوقف الرئيس السابق لرينو أواخر 2018 في اليابان حيث كان من المفترض أن يحاكم بتهمة الاحتيال المالي. وقد هرب من اليابان في صندوق على متن طائرة خاصة إلى لبنان أواخر 2019.
ولم يغادر غصن لبنان منذ ذلك الحين بسبب نشرة حمراء صادرة عن الشرطة الدولية (الإنتربول) في اليابان.
تصريح مثير للجدل
في واقعة غير معتادة تحت قبة البرلمان الفرنسي، اندلعت مشادة كلامية حادة بين وزيرة الثقافة الفرنسية ذات الأصول المغربية، رشيدة داتي، والنائبة الفرنسية دولا غونتري، أثناء جلسة رسمية.
وخلال النقاش، كسرت داتي أعراف البروتوكول السياسي بتصريح أثار موجة من الجدل، حين قالت: «لستُ عاملة نظافة لديكِ».
وكان مجلس الشيوخ الفرنسي شهد، يوم الأربعاء 16 يوليوز الجاري، مواجهة محتدمة خلال جلسة خُصصت لمناقشة مشروع إصلاح الإعلام العمومي.
وأثناء مداخلتها، قاطعت السيناتورة الاشتراكية ماري بيير دو لا غونتري وزيرة الثقافة رشيدة داتي، مما دفع الأخيرة إلى الرد بانفعال قائلة: «احترميني… أنا لستُ عاملة نظافة عندكِ! وانتهت حقبة كان فيها والدي يعمل لدى والدك».
وقد أثار الفيديو الذي وثق هذه الحادثة داخل قبة البرلمان ضجة كبيرة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث انقسمت الآراء بين من دعم موقف داتي ومن انتقد طريقتها في الرد.
من أصول مغربية
ولدت رشيدة داتي يوم 27 نونبر 1965 في حي فقير بسان ريميه بمنطقة ساون-إيه-لوار لأب مغربي وأم جزائرية، لها سبع أخوات وأربعة إخوة. اضطرت للعمل مساعدة ممرضة لمواصلة تعليمها وإكمال دراستها.
وبعد حصولها على الثانوية العامة التحقت بالمدرسة الوطنية للقضاء، ثم حصلت على ماجستير في القانون العام، وماجستير في العلوم الاقتصادية (إدارة الشركات).
وبدأت مشوارها المهني في القطاع الخاص بالشركة النفطية الفرنسية الكبرى «ألف» ومجموعة ماترا للاتصالات، انتقلت بعدها للإدارة، حيث عملت قاضية رفيعة المستوى لدى محكمة بوبيني الابتدائية عام 1988 وبقيت في هذا المجال عشر سنوات، و اشتغلت في الفترة 1999-2001 قاضية مشرفة مختصة بالإجراءات الجماعية لدى محكمة بيرون الابتدائية.
ولمدة عام واحد تولت داتي عام 2001 منصب وكيلة النائب العام للجمهورية لدى القسم المالي في محكمة إيفري الابتدائية الكبرى، عينها وزير الداخلية نيكولا ساركوزي في العام الموالي مستشارة ومسؤولة عن مشروع قانون الوقاية من الجرائم الصغيرة (الجنح) في إطار مبادرته لمكافحة الجريمة بعد الاضطرابات التي عرفتها ضواحي باريس الفقيرة.
وفي عام 2004، عملت مستشارة في مكتب وزير الاقتصاد والمالية والصناعة، كما تولت منصب مديرة عامة مساعدة مسؤولة عن الأسواق العامة والشؤون القانونية والشؤون العقارية لدى المجلس العام في إقليم أو-دو-سان.
وعينها الرئيس نيكولا ساركوزي حارسة أختام الجمهورية ووزيرة العدل في حكومة فرنسوا فيون الأولى والثانية منذ ماي 2007 حتى 23 يونيو 2009، وغادرت وزارة العدل لتتولى رئاسة بلدية الدائرة السابعة في باريس.
لم يعرف لرشيدة داتي انتماء سياسي قبل أن تعمل مستشارة لوزير الداخلية نيكولا ساركوزي، حيث انخرطت في حزبه الاتحاد من أجل حركة شعبية في دجنبر 2006، وتولت في 14 يناير 2007 منصب الناطق باسم ساركوزي في الحملة الانتخابية الرئاسية.
وانتخبت في 14 يوليوز 2009 نائبة في البرلمان الأوروبي عن الحزب الشعبي الأوروبي.
وتعرضت لحملات إعلامية استهدفت حياتها الخاصة، واعتبرت نفسها ضحية لتلك الحملات والهجمات- حسب تعبيرها في حوار صحفي- الأمر الذي جعلها تؤلف كتابا باسمها عبارة عن سيرة ذاتية تشرح فيها ظروف نشأتها وعائلتها ومسارها الدراسي ومسيرتها السياسية، كنوع من الرد على تلك الحملات وما اعتبرته توضيحا لكثير مما أثير حولها في الإعلام.
وتعتقد بوجوب التفريق بين مواقف الفرنسيين المنفتحين الذين لا مشكلة لهم مع المهاجرين، والنخبة الفرنسية المحافظة التي لا تقبل أن يتولى فرنسيون من أصول عربية أو إفريقية ومهاجرة بشكل عام المناصب العليا.





