شوف تشوف

رقصة الديك المذبوح

الذين استهجنوا أن يشبه هبيل فاس، حميد شباط، نفسه بالرسول الكريم عندما خاطبه الله عز وجل في كتابه الحكيم في سورة الفتح «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ليغفر لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وينصرك الله نصرا عزيزا»، نسوا أن شباط عندما أصدر جريدة سماها «غربال القرويين» ناطقة باسمه جعل شعارها آية كريمة هي «ورفعنا لك ذكرك».
وعندما عيره خصومه بالأمية لم يجد ما يقوله لهم سوى أن النبي كان أميا، بل سول له جهله أن افترى على الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال إنه سبق له أن ذكر فاس في أحد أحاديثه وأثنى عليها.
لكن أن يبدأ هبيل فاس خطبة وداعه بسورة الفتح وينهيها بالفروج الذي طلبوا منه أن يبيض لهم فهذا ما يدعو للإسراع بالحجر على الرجل لأنه اليوم تحدث عن الفرارج وغدا لا أحد يمكنه أن يتكهن بما سيقوله.
عندما كتب محمد زفزاف روايته «بيضة الديك» فقد صنع ذلك ردا على بعض النقاد الذين اعتبروا أنه لن يستطيع تجاوز السقف الإبداعي الذي وصله في روايته الأولى «المرأة والوردة» الصادرة عام 1972، ولذلك فقد اعتبر زفزاف «بيضة الديك» رواية معذبة لأنها استغرقت منه ثماني سنوات لكتابتها.
ولعل اختيار زفزاف لهذا العنوان نابع من تحدي المبدع الذي لا يقبل أن يوصف بالعقم الإبداعي، لذلك اختار «بيضة الديك» عنوانا لروايته كنوع من السخرية من نقاده وخصومه.
أما شباط عندما اختار، وهنا نمارس القفز، كما يقول الفرنسيون، من الديك إلى الحمار
sauter du coq à l’âne، أن يصف نفسه بالديك الذي طلب منه صاحب الضيعة أن يتوقف عن الأذان وأن يعيش وسط الدجاجات قبل أن يطلب منه أن يتعصر ويبيض، فإنه وضع نفسه في حظيرة الحيوان التي تحدث عنها جورج أورويل في روايته، وحول نفسه إلى شخص من شخوصها الروائية.
ويمكن أن نجد حميد شباط كشخصية روائية عجائبية في أعمال أدبية كثيرة كرواية «تحولات الجحش الذهبي» لمؤلفها لوكيوس أبوليوس الذي جعل بطل روايته جحشا ذهبيا يقفز في كل الأمكنة ويدخل كل المغارات لكي يختزن القصص والحكايات التي سيرويها في ما بعد، مثلما فعل شباط تماما عندما دخل كل الدهاليز وجالس كل الجهات.
ويمكن أن نجده في رواية «أحلام بقرة» لمحمد الهرادي التي تروي قصة رجل، مساعد تقني، سيكليس في حالة شباط، تحول إلى بقرة وبدأ في استكشاف العالم الخارجي، لكي ينتهي في آخر المطاف في المسلخ، ملخصا تجربته قائلا «كنت أسير كالحالم (…) حسبت نفسي أنني تهت في القدم وأن زمني قد انتهى بتحولي وخروجي، وأدركت أن علي أن أبتدئ من البداية، ولكن أية بداية».
وهي نفسها البداية التي يعتقد شباط أنه سيدشنها بعدما فتح الله له فتحا مبينا وغفر له ما تقدم من زلاته وما تأخر، لكن أية بداية هاته التي تشبه النهاية ؟
عندما شبه حميد شباط نفسه بالديك الذي يطلب منه صاحب الضيعة أن يبيض، أي يطلب منه المستحيل، وأنه يتمنى لو أنه عصى هذه الأوامر ومات مذبوحا وهو يؤذن، فإنه ضمنيا يعترف بأنه قدم تنازلات وتم توظيفه في صراعات سياسية مثل أي كركوز يتم تحريكه بالخيوط من فوق، واليوم بعد فوات الأوان جلس يندب حظه نادما حيث لا ينفع الندم، باكيا وسط حشد من أتباعه محاولا الظهور بمظهر الديك الراقص من فرط الفرح والحقيقة أنه يرقص مذبوحا من الألم.
ولعل القراءة التي كان قد نشرها الصحافي المصري مدحت عبدالدايم حول رواية زفزاف «بيضة الديك» عندما كتب «أصل كل شيء في الحياة أن يبقى الناس في وهمهم يعمهون، فكل الناس داعرون، وشريف النفس لا يملك عمرا طويلا، كل شيء يتم التعود عليه في حينه، الناس يقولون، وينتقدون أفعالا ما، لكنهم يرتكبون جرائم، ويفعلون أشياء لا يستطيع فعلها حتى الشيطان.
الرواية تضعنا بإزاء تاريخ من الرشوة والفساد والسقوط لنخبة حُسبت على السلطة، وشريحة اجتماعية فقدت قيمها تحت وطأة الحاجة، فجرفها الانحلال، وتجارة بعض رموز السلطة بأوجاع تلك الشريحة، فكانوا كمن أنيط بهم انتشال أولئك المنحرفين من أوحال الضياع، فسقطوا معهم بعد أن جرفهم تيار التحلل إلى هاوية عميقة.
كيف سقطت النخبة ؟ وكيف بررت سقوطها ؟ وكيف استسهل الجميع الكسب السهل ؟ هذا ما تكشفه الرواية، وهي تسرد وقائعها المؤلمة بشيء من السخرية المضمرة والحزن الشفيف، فمن بائع لجسده إلى بائعة للمبادئ، إلى متاجر بمعاناة الناس، إلى مستغرق في اللذة دون تعقل، ومن موظفين فاسدين إلى شباب منحرفين، ومن طاقات مهدرة إلى أموال مهدرة، ينفقها من ينفقها على لذات تزيد معاناة المحتاجين والمحتاجات، وتكرس للبغاء الثقافي قبل الجسدي، فللمال سطوته في غيبة القيم، والأمر كذلك فإن المجتمع السفلي بالدار البيضاء ما هو إلا قناع يتخفى وراءه زفزاف بنسجه عشرات القصص عن واقع متكرر في كثير من بلاد المشرق، ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، بل إن ذلك الواقع لا يقتصر على العرب دون سواهم، فلم تحل النهضة الأوروبية دون سقوط أهلها في براثن التمييز العنصري بين الطبقات، وهو ما يصرح به زفزاف في روايته التي يشارك في وقائعها مرتحلون من المشرق والمغرب إلى حيث متعهم الزائفة، وحيث حياة الرق التي لم يسلم منها الجاني والضحية».
«بيضة الديك» التي كتبها زفزاف قبل سنوات تنطبق أحداثها ووقائعها على شباط وأمثاله من الكائنات السياسية الأقرب إلى الهوام التي تتطاير حول الضوء إلى أن تحترق أجنحتها وتسقط.
وفي السياسة هناك الحيوانات السياسية، وهذه انقرضت في المغرب مع ذهاب بنبركة وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والمعطي بوعبيد وغيرهم كثير، والباقون كمولاي محمد الخليفة وبوستة واليوسفي وبنسعيد تراجعوا إلى الخلف بعدما احتل الصغار واجهة الأحداث.
وما بقي في المغرب اليوم ليس حيوانات سياسية بل مجرد فيروسات وحشرات تقتات على جثث شهداء وأموات أحزابها. ولذلك فالرواية التي تنطبق على هذه الطبقة من السياسيين هي رواية زفزاف الأخرى التي عنوانها «الديدان التي تنحني»، أو روايته الأخرى «أفواه واسعة»، والتي تنطبق على بعض السياسيين ذوي الأفواه المشرعة والتي تصرخ دفاعا عن مصالحها وامتيازاتها كلما شارفت على الزوال.
وقبل حوالي خمس وعشرين سنة صدر في فرنسا كتاب ساخر عنوانه «هذه الحيوانات التي تحكمنا»، خص فيه مؤلفه «رامبال» كثيرا من الزعماء السياسيين بالنقد اللاذع، بحيث اجتهد في البحث عن الأصل الحيواني لكل واحد منهم.
وبعد صدور الكتاب حقق أرقام مبيعات قياسية، وما زال معروضا للبيع على الإنترنيت إلى اليوم. في كل الديمقراطيات الحقيقية يصف الصحافيون ورجال الإعلام والأكاديميون رجال السياسة الأقوياء بالحيوانات السياسية. وطبعا فلقب «الحيوان السياسي» لقب لا يطلق على أي كان، فكما أن هناك «حيوانات سياسية» فهناك أيضا «حشرات سياسية» تعيش حيثما كان العفن والماء العكر.
الحيوانات السياسية غالبا ما تكون مفترسة، تتشبه بالسباع والضباع والفهود، لكن هناك نوع آخر من الحيوانات السياسية تختار الدهاء والمكر والخديعة، ومثلها الأعلى هو الذئب والثعلب، لكن هناك حيوانات سياسية أخرى تختار نفاق التماسيح.
وعندنا في المغرب محميات طبيعية واسعة حيث ترتع هذه التماسيح السياسية وتعيش، ومعروف عن التمساح أنه عندما يلتهم ضحيته، يبدأ في ذرف الدموع. ليس حزنا على ضحيته وإنما لأن عملية الهضم المعقدة التي يقوم بها الجهاز الهضمي للتمساح تتطلب ذلك، أي أنه يبكي لكي يهضم ضحيته بشكل أفضل.
وبالإضافة إلى التماسيح السياسية هناك في المغرب «جراثيم» سياسية تتكاثر حول جرح متعفن يسمونه السياسة يعرف الجميع أن الحل المتبقي لعلاجه هو اقتلاع الورم عوض دهنه بالمسكنات.
وبالنسبة للسياسيين، وخصوصا أمثال شباط، فالحيوان المثالي الذي يجب أن يتعلموا منه الدروس هو الفيل، فهذا الحيوان أولا لديه ذاكرة قوية، والذاكرة هي أهم جهاز يجب أن يحافظ عليه السياسي، لأنها تجنبه لعنة النسيان، حتى لا يخطئ المعركة ويخلط الجلاد بالضحية، ويضع رجله في المكان الخطأ ويده في يد الحليف الخطأ.
وعندما يشعر الفيل بقرب نهايته يجرجر قوائمه الثقيلة إلى مقبرة الفيلة ويجثو على ركبتيه بانتظار النهاية. فهو يجنب أشباهه رؤية العجز الذي يصل إليه حيوان ينحدر من آخر سلالات الحيوانات الضخمة.
ولعل رجال السياسة عندنا أمثال شباط يحتاجون إلى تعلم أخلاق الفيلة عوض التشبه بالديكة والدجاج، بحيث ينسحبون إلى الظل بمجرد ما يشعرون باقتراب نهايتهم السياسية.
المشكلة أن أغلب «الحيوانات السياسية» عندنا مولعة فقط بتقليد الضباع والتماسيح والثعالب والقردة والدجاجات، لكن القليل منها يبدو معجبا بنموذج الفيل، فهم يصرون على البقاء في «الحديقة» يتفرج عليهم العابرون، إلى أن يأتي من يطردهم منها أو يجهز عليهم بطعنة غادرة في الظهر.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى