الرئيسية

زيارة الملوك الثلاثة لوزرائهم أثناء المرض

استأثرت صورة الملك محمد السادس، وهو يزور الوزير الأول لحكومة التناوب عبد الرحمان اليوسفي في المصحة، باهتمام كبير من قبل الرأي العام، خاصة صورة ملك البلاد وهو يقبل رأس القيادي الاتحادي السابق الذي كان من أشرس المعارضين للنظام.
زار الملك اليوسفي مرتين قبل أن تتقاطر على غرفته زيارات القياديين والوزراء، وكأن زيارة الملك كانت بالنسبة لهم وخز ضمير جعلهم يعترفون بركضهم خلف الأصوات والتحالفات ونسيان واحد من القامات السياسية الكبرى التي صنعت تاريخ المغرب الحديث.
اعتاد الملوك المغاربة مد يد العون والتكفل بنفقات علاج خدام العرش، ولكن مجموعة من الوزراء تجاوزوا هذا التقليد الملكي، ونالوا حظوة العيادة المباشرة للاطمئنان على الوضع الصحي، فيما اختار الملك الراحل الحسن الثاني زيارة وزراء بعد الوفاة لتقديم العزاء.
في هذا الملف ترصد «الأخبار» الأيادي البيضاء للملوك الثلاثة على وزراء وزعماء صنعوا جزءا من تاريخ المغرب، فمن محمد الخامس إلى محمد السادس مرورا بالحسن الثاني، ظل الوازع التضامني حاضرا عند الشدائد، كما تروي طرائف من رحم المعاناة لوزراء أغلبهم عانوا في نهاية حياتهم من الالتهاب الرئوي من شدة تلوث المشهد السياسي.

بن زاكين.. وزير الصحة المريض
كان ليون بن زاكين الطبيب المغربي اليهودي، الأجدر بأن يعين وزيرا للصحة في أول حكومة بعد الاستقلال، نظرا لكفاءته الطبية، لكن ذلك لم يحصل إلا في التعديل الحكومي الذي مس الحكومة مغربية سنة 1956. ليون بنزاكين، يعد واحدا من أشهر الأطباء الذين عرفهم المغرب، ولد في طنجة في آخر يوم من سنة 1928، حيث كان من مؤسس الرابطة اليهودية. سينطلق الطبيب إلى داخل دواليب العمل السياسي المغربي، بطريقة رتبتها له الظروف وحدها، حتى يحصل على وضع اعتباري في مغرب الأربعينات وبداية الخمسينات. وعندما حصل المغرب على الاستقلال، تم تعيينه وزيرا للبريد والمواصلات، ثم أصبح وزيرا للصحة، وهو المجال الذي يناسبه، واستمر فيه إلى حدود سنة 1958، كما شغل منصب طبيب الملك محمد الخامس، وقد كان من بين الأطباء المقربين منه ومن عدد من الوزراء والشخصيات العمومية في مغرب الخمسينات.
تقول الروايات إن بنزاكين، كان واحدا من الوجوه اليهودية المغربية، المطلوبة لتعزيز حضور اليهود في المرحلة الجديدة من بناء المجال السياسي للبلاد بعد الاستقلال. خصوصا أنه كان يهوديا غير عادي، جمع بين الطب والعمل الإنساني باعتباره من مؤسسي الرابطة اليهودية بشمال المملكة.
أصيب بن زاكين بمرض مفاجئ فتم نقله إلى فرنسا لتلقي العلاج على يد أحد الأطباء اليهود في باريس، هناك تبينت إصابته بالتهاب رئوي بسبب إدمانه على التدخين، وهو ما تطلب منه غيابا عن المشهد السياسي وعن اجتماعات حكومة البكاي، وحين علم الملك محمد الخامس بالأمر وهو في باريس، قرر عيادته، مما أدخل السرور على ليون، الذي كتب عن هذه الزيارة واعتبرها بلسما لمعاناته الصحية.
لكن حظ بن زاكين كان عاثرا، إذ أن وفاة محمد الخامس قد حالت دون بقائه ضمن التشكيلة الحكومية بداية الستينات، خصوصا وأن علاقاته الوطيدة مع بعض المنظمات اليهودية خارج المغرب وخارج إسرائيل أيضا، جعلته يختار مغادرة المغرب.. لأن الظروف السياسية التي مرت منها منطقة الشرق الأوسط، انعكست على الوجود اليهودي بالمغرب، ولم تعد ظاهرة استوزار اليهود في الوزارات والدواوين إلا سنوات الثمانينات، وكان بن زاكين قد رحل عن الدنيا قبلها وتحديدا سنة 1977.

حين تحالف داء السل وتمرد الابن على بلافريج
أصيب أحمد بلافريج، الوزير الأول السابق بداء السل لأول مرة في صيف 1937 وانتقل إلى سويسرا للعلاج. هناك وجد كل الدعم من الطلبة المغاربة والسوريين في أوربا، ومن بينهم شكيب أرسلان على الخصوص، سيما وأن مقامه في جنيف دام طويلا. وحين عاد إلى كورسيكا منفيا اغتنم الإقامة الجبرية ليكمل علاجه، خاصة وأنه أصبح خصما للسلطات الاستعمارية الفرنسية التي أزعجها وقوفه وراء توقيع وتوزيع وثيقة المطالبة بالاستقلال.
عين الملك محمد الخامس أحمد بلافريج وزيرا للخارجية مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، كما تقلد رئاسة الحكومة، أصبح الممثل الشخصي للملك الحسن الثاني، لكن المرض الصدري ظل يتردد عليه بين الفينة والأخرى، وهو ما كان يغيبه عن المشهد السياسي، وحسب شهادة صحافي استقلالي فإن محمد الخامس قد طلب من طبيبه الخاص الاهتمام بالحالة الصحية لبلافريج، مما مكن هذا الأخير من الاستفادة من الطاقم الطبي للقصر.
لم تعمر حكومة بلافريج طويلا، حيث انتهت صلاحيتها السياسية في دجنبر 1958، وعاد إلى وزارة الخارجية ما بين 1961 و1963. ثم عين ممثلا شخصيا للملك الحسن الثاني إلى عام 1972، لكن مرضه أجبره على مغادرة الساحة السياسية، لكن أيامه الأخيرة عرفت صراعا خفيا مع القصر، بعد أن انتقل ابنه إلى صف المعارضة، حيث عاش رهن الاعتقال مدة طويلة دون أن يتدخل والده أحمد لدى الملك الحسن الثاني، بل اكتفى بالاستقالة من منصبه الحكومي ضد على التعسف الذي طال ابنه. هذا الوضع زاد من مرضه وجعله أسير بيته.
تحولت زوجته فطوم بناني ابنة المناضل الجيلالي بناني والد محمد بناني، وكلاهما كانا من الموقعين على وثيقة الاستقلال عام 1944، إلى ممرضة تسهر على صحة زوجها الذي قرر اعتزال السياسة، والطريف أنها أنجبت منه خمسة أبناء: أربع بنات: سعاد وليلى ومية وأمينة، والثلاث الأخيرات تخرجن طبيبات، بعد أن قررن معالجة والدهن واكتسبن تجربة من مرضه.

غضبة الحسن الثاني على زوجة المعطي بوعبيد
اجتاحت أولى أعراض المرض المعطي بوعبيد وهو حينها نقيب للمحامين بالدار البيضاء، وتحديدا قبل أيام من انطلاق المسيرة الخضراء، حيث شعر بضيق في التنفس، لم يكن يعتقد أنه سيكون ضمن متطوعي المسيرة، ليكتشف أن زوجته لبابة قد لعبت دورا كبيرا في وجود زوجها المعطي ضمن الصفوف الأولى من متطوعي المسيرة الخضراء، بل كانت تود مرافقته إلى الصحراء للمشاركة في حدث تاريخي لولا التزامات أسرية قاهرة، إذ توجهت إلى أحد مكاتب التسجيل في الدار البيضاء وسجلته كمتطوع عاد دون صفته ومكانته الاعتبارية والسياسية بالخصوص. عانى المعطي في أيامه الأخيرة من مرض عضال ضرب الجهاز التنفسي. وحسب مقربين من الراحل فإنه كان يتردد على إحدى المصحات الفرنسية ويتناول الدواء، دون أن يتخلى عن تدخين «السيكار» الكوبي. وفي أيامه الأخيرة حرص على ارتداء «كندورته» وتتبع أخبار فريقه الرجاء البيضاوي، وكان أغلب المترددين على بيته من الرجاويين. حين مرض الرجل وتسلل الألم إلى جسده، غضب الملك الحسن الثاني من زوجة بوعبيد، التي لها ارتباط قوي بالقصر، لأنها أخفت المرض عنه، وقال لها بلهجة صارمة «الرجل ملك للمغرب وليس ملكا لك وحدك». حينها حل المعطي بالقصر وهو في حالة صحية جد متدهورة ليودع الحسن الثاني وهو يعتقل دموعه. في ليلة الفاتح من نونبر 1996 لفظ المعطي آخر أنفاسه، وفي اليوم الموالي كان الجميع على موعد مع الديربي البيضاوي بين فريقه المحبوب الرجاء وغريمه الوداد، إذ توجه مئات مشيعي جثمانه من مقبرة الشهداء مباشرة إلى ملعب مركب محمد الخامس، حيث لأول مرة في تاريخ الديربي اجتمع جمهور الفريقين وقرأ الجميع الفاتحة على روح الفقيد الذي شكره الحسن الثاني من بين جميع الوزراء على ما قدمه للوطن. شاءت الأقدار أن يسلم المعطي بوعبيد الروح لبارئها ليلة مباراة الديربي البيضاوي، وهي المواجهة التي كان يتحاشى متابعتها ميدانيا ويحرص على سماع نتيجتها بعد أن يعلن الحكم عن نهايتها، نتيجة ضغط الدم الذي كان ينتابه كلما حل هذا الموعد الكروي، بل إن زوجته لبابة العلوي كانت تتهم الكرة بتعريض زوجها للمرض.
كان المعطي قد دشن مشواره المهني من سلك القضاء كوكيل للملك في مدينة طنجة، لكنه تألق بشكل ملفت في مجال المحاماة الذي شغل فيه منصب نقيب لهيئة المحامين بالدار البيضاء، قبل أن يتأبط مجموعة من الحقائب الوزارية ويصل إلى قمة المناصب الحكومية حين جمع بين وزارتين العدل والوزارة الأولى، فضلا عن مناصبه السياسية كقيادي في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم كأمين عام للاتحاد الدستوري، ناهيك عن مسؤوليات أخرى خاصة رئاسته لفريق الرجاء البيضاوي، قبل أن يسلم مفاتيح مكتبه لابنه سعد.

غابت قفشات أرسلان فتبين للملك مرضه
اسمه الحقيقي محمد الجديدي، ولقبه أرسلان، وهو من مواليد سنة 1926 بمدينة الجديدة داخل أسرة تنحدر من قبيلة توجد في منطقة الغربية ضواحي الزمامرة، على الحدود بين دكالة وعبدة. بدأ الرجل معلما للغة الفرنسية بإحدى المدارس الابتدائية بضواحي أكادير، لكنه لم يستمر طويلا في التدريس، بعدما اجتاز مباراة لولوج وظيفة بالمكتب الشريف للفوسفاط بخريبكة، وفي عنفوان الشباب احتضن الشاب أرسلان من طرف الاتحاد المغربي للشغل، النقابة التي كان يتزعمها المحجوب بن الصديق، ومع مرور الأيام اشتدت عوده النقابي وراح يتزعم إضرابات صاخبة، أقلقت السلطات يومئذ وهو الأمر الذي جعل الدولة تقرب منها هذا الشاب القادم من عمق بادية دكالة، وتدخله دواليبها ليغرد داخل السرب وليس خارجه، وهكذا سيعينه الراحل الحسن الثاني مندوبا ساميا للإنعاش الوطني، ثم في ما بعد وزيرا للشبيبة والرياضة في حكومة كان يقودها محمد كريم العمراني، ثم وزيرا للشغل والتكوين المهني. بعد انتهاء الانتخابات الجماعية لسنة 1992، أصيب الجديدي بوعكة صحية، وحين استشار طبيبه أكد له أنها من مضاعفات حملة انتخابية شرسة، فقد انتخب الرجل للتو رئيسا لولاية ثانية للمجلس البلدي بالجديدة، وحضر عملية تكوين فريق العمل وعانى الأمرين في خلق مجموعة منسجمة سياسيا، وحين اشتد به المرض نصحه طبيبه بالخلود للراحة بعيدا عن الصخب الانتخابي للجديدة، لذا أصيب بوعكة صحية ألزمته إقامة دائمة بمسكنه في حي اليوسفية بالعاصمة الرباط. حين علم الملك الحسن الثاني باختفاء أرسلان الجديدي عن الأنظار، أرسل في طلبه فقيل له إنه ممدد على فراش المرض، فأعطى أوامره من أجل التكفل به صحيا، خاصة وأن الكشف الطبي أكد ضرورة انتظامه في حصص تصفية الدم، وهو ما خضع له دون أن يلفت نظر آلاف أتباعه. ويقول مصدر نقابي إن أرسلان علم باستفسار القصر حول وضعه الصحي، فقرر الذهاب إلى القصر لملاقاة الملك وهو طريح الفراش. كان الرجل يتابع ما يقع في الجديدة بالرغم من وصايا طبيبه الخاص وأفراد أسرته، بل إنه أصر على حضور حفل زيارة الرئيس البرتغالي ماريوس سواريس لمدينة الجديدة حيث كان سعيدا وهو يرافقه إلى الحي البرتغالي رفقة العامل الوراق.

مفاجأة صادمة للحسن الثاني أثناء عيادة كديرة
عانى أحمد رضا كديرة، الوزير القوي في عهد الحسن الثاني، في بداية التسعينات من مرض عضال أبعده عن الحياة السياسية والاجتماعية، فاختفى عن أنظار كثير من الموالين له في زمن سطوته، وأصبح هاتفه لا يرن إلا بالخطأ، مما أثار حفيظة أبنائه وزوجته الفرنسية التي دعته إلى بيع كل ما يملك والعودة إلى فرنسا للاستقرار النهائي هناك.
برر المستشار الملكي السابق عبد الهادي بوطالب عزلة كديرة وعدم الإقبال على زيارته وهو على فراش المرض، بعلاقته المتوترة مع محيطه، وقال إن «علاقة رضا كديرة مع زملائه مرت بمرحلة تشوفه إلى الاستفراد بوظيفة المستشار أو تبوئه أعلى رتبة بين المستشارين». وقبل وفاته تغير تعامله مع زملائه بل تغير طبعه فأصبح بشوشا متعاطفا مع الجميع. لكن علاقته بالملك اعتراها بعض الفتور في السنوات الأخيرة من عمره ساهمت في عزلته وعدم اقتراب رفاقه من مقر سكناه خوفا من مضاعفات زيارة رجل غضب منه الملك.
بدأت عزلة الرجل في بداية التسعينات، فقد كان اكديرة قد قرر التوقف نهائيا عن العمل، واعتزل كل شيء سنة 1993. وعندما كان في صراعه مع المرض الخبيث، بلغ الأمر إلى الملك الحسن الثاني. أراد الملك أن يرى ما تبقى من اكديرة، وغضب كثيرا، عندما اكتشف أن مستشاره لم يعد يقطن بإقامته بالرباط، فبينما كانت سيارة الملك متوجهة إلى حيث يقطن اكديرة، اكتشف أن السائق يتجه في طريق نحو مغادرة الرباط، ليسأل مرافقيه ويشرحوا له أنه لم يعد يقطن بالرباط. ويكتشف أنه يقيم ذلك الوقت في إقامة متواضعة، خالية من الأثاث، كما أسر لنا أحد الذين زاروه في أيامه الأخيرة بالمغرب، حيث لم تكن غرفته تتوفر إلا على سرير بسيط وكرسيين للزوار.
لما علم الملك الراحل الحسن الثاني بما كان ينوي اكديرة القيام به وهو على فراش مرضه بالمغرب، لم يستسغ أن ينقل مستشاره القديم أملاكه إلى خارج البلاد، خصوصا وأن الملك الحسن الثاني كان أيضا يعيش أيامه الأخيرة، وأن المشهد السياسي قد شهد تحولات أخرى سمحت لعبد الرحمان اليوسفي أن يكون على رأس حكومة التناوب.
آخر لقاء له بالملك كان خارج التوقعات واعتبارات الزمان والمكان أيضا. إذ إن النظرة الأخيرة التي ألقاها الملك الراحل على اكديرة، في آخر أيام حياته، كانت في فيلا صغيرة ومتواضعة بتمارة، لينتهي كل شيء في علاقة الرجل بالحكم.
نقل رضا بقرار ملكي إلى فرنسا لاستكمال العلاج، وفي يوم الخميس 14 دجنبر 1995 توفي في إحدى مصحات باريس، ورافقته زوجته كريستين في آخر نبضات قبله، وحين توفي قررت اعتناق الديانة الإسلامية، حتى تدفن إلى جانب قبره في نفس مقبرة الشهداء.
لغز جنازة اكديرة كان محيرا، فقد كانت متواضعة وغابت عنها الدولة وهيبة رجالها ووجوه السلطة التي تودع أبناءها إلى مثواهم الأخير. بل إن موته بفرنسا لم يحظ بمتابعة مغربية تليق بمقام رجل اشتغل إلى جانب الملك عقودا طويلة، لينتهي به الأمر منقولا في نعش خشبي مغلق، إلى المغرب، كأي مواطن عادي مات خارج أرض الوطن.

الحسن الثاني يقبل نعش علال الفاسي
تبادل الملك الراحل محمد الخامس زيارات عديدة مع زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي، وعرفت علاقة هذا الأخير مع الملك الحسن الثاني حالات مد وجزر قبل أن يلفظ علال أنفاسه في مكتب رئيس رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو، حين كان يروج لملف الصحراء المغربية. مات الرجل وقد اختلطت الشهادة في فمه بالقضية الوطنية.
حين علم الحسن الثاني بالخبر عن طريق مرافقه امحمد بوستة، طالب بتوضيحات حول الموت المفاجئ، خاصة وأن الملك الحسن الثاني أصر على تكليف علال الفاسي بلقاء الديكتاتور الروماني، لكسب الأصوات المؤيدة للقضية الوطنية داخل المنظومة العالمية، إلا أن الموت كان يتربص به في بوخارست خلال اجتماع صاخب مع الزعيم حاول من خلاله موفد الملك إقناع الديكتاتور بأن التعارض الإيديولوجي لا يفسد للود قضية.
أعطى الملك تعليماته لتكون الجنازة بحجم الفقيد، وكشف الاستقلالي عبد الحق التازي عن مكانة الفقيد حين تحدث عن الاستقبال الشعبي الذي خصص لجثمانه «كان الاستقبال الشعبي الحاشد والمؤثر لجثمان الفقيد في مطار سلا بحضور الأخوين امحمد بوستة وعبد الحفيظ القادري، وتقرر داخل اللجنة التنفيذية، بعد التأكد من عدم وجود وصية منه عن مكان الدفن، أن يتم تشييع جنازته إلى مقبرة الشهداء بالرباط، واستقر الرأي، بعد تشاور مع القصر، على أن يجاور قبر الشهيد علال بن عبد الله، وإلى الآن، لا يوجد في هذه المقبرة الصغيرة سوى قبر العلالين (علال الفاسي وعلال بن عبد الله)، قبل أن ينضاف إليهما قبر علال بنقسو حارس المنتخب في السبعينات، وقد أهدى الحسن الثاني الرخامة الخضراء المقامة على رأس القبر، حيث تم الاتفاق على أن يكتب على الشاهد: «علال الفاسي 1910- 1974». وقد زار الملك الحسن الثاني بيت الزعيم الراحل وقعد أمام التابوت المغطى بثوب الكعبة، وقبّل النعش بخشوع، وقدم التعازي إلى أهله متأسفا على فقدان رجل عظيم لم يتسن له العمل معه مباشرة».

الحسن الثاني يفاجئ أرملة الدليمي في حفل التأبين
حين توفي أحمد الدليمي في حادثة سير يلفها الغموض، مساء يوم 25 يناير 1983، كانت زوجته زهرة تعاني من مرض أقعدها، مما حال دون وقوفها لاستقبال المعزين إذ كانت ممددة على فراش المرض، بل إنها علمت بالخبر عبر نشرة إخبارية في التلفزيون، وبعد انتهاء مراسيم الدفن فوجئت بالملك الحسن الثاني، وهو يحضر إلى بيتها لتقديم العزاء، أخفت عنه مرضها لكن الملك اكتشف حالة الهوان التي تسيطر عليها فنادى على طبيبه الخاص، الدكتور عبد اللطيف بربيش، وأمره بأن يسعفها، قبل أن يلتقي بأبناء الفقيد ووالده ويقول لهم «حتى حاجة متمسكم».
في يناير 1983 انتهى كل شيء، فقد مات الراعي الرسمي لاتحاد سيدي قاسم الجنيرال أحمد الدليمي، في حادثة سير أسالت حبرا غزيرا حولها، تعرض والده لحسن لما يشبه النكبة، ومنع الفريق من الحق في الوقوف دقيقة صمت قبل خوض إحدى مباريات الدوري الوطني بعد الفاجعة، لكن الأب أصر على إضافة اسمه على شاهد قبر ابنه أحمد، وطلب من الخطاط كتابة العبارة التالية: «هنا يرقد جثمان الجنرال أحمد بلحسن الدليمي». غضب الملك الحسن الثاني من لحسن بعدما توصل بتقرير حول مداخلة الدليمي الأب الذي تناول الكلمة في إطار نقطة نظام خلال خلال جلسة برلمانية عامة، رغم أنه من النادر أن يتدخل في نقاش البرلمان، وهو الذي لم يتعود حشر نفسه في أية مداخلة. في تلك الجلسة التي كان يرأسها احمد عصمان، وبصوت مبحوح متقطع يغلب عليه الحزن والتأثر قال النائب الحاج لحسن الدليمي إن موت ابنه الذي قضى نحبه في حادثة سير بمراكش «هدية من عائلة آل دليم إلى الشعب المغربي»، ثم عاد نحو مقعده تراقبه أعين الحاضرين نوابا وأعضاء من الحكومة. ويذكر بعض أصدقاء لحسن أن والد الدليمي كان يتردد على مدينة الجديدة باستمرار بعد زواجه من ابنة القائد السي بوبكر، كما كان يتردد على مدينة المحمدية ويصر على أداء صلاة الجمعة في مسجد مالي وكان يقول للمقربين منه إن ابنه الجنيرال لم يمت بعد، «حتى مرت سنوات فأتاهم بخبر موت ابنه وهو حزين ويقول اليوم يمكنكم تعزيتي»، يقول أحد رفاقه الفضاليين.

محمد الخامس يزور الخطابي في القاهرة
بدأت معاناة زعيم الريف محمد عبد الكريم الخطابي مع المرض في جزيرة «لاريونيون»، تلك المستعمرة الفرنسية التي نفي إليها، وظل مقيما في هذه المستعمرة الفرنسية من سنة 1925 إلى سنة 1947. بل إن محنته ظلت قائمة حتى في منفاه الاختياري بالقاهرة، لينتهي به المطاف في قبر بمقبرة الشهداء بالعباسية وسط القاهرة التي توفي بها في السادس من شهر فبراير 1963، بعدها فشلت جمع محاولات نقل قبره إلى معقله في أجدير. تحمل وهو في القاهرة مضاعفات مرض تسلل إلى جسده في الجزيرة التي قضى فيها جزءا كبيرا من حياته وهو يحمل صفة منفي، هناك عانى من الروماتيزم وحاول مداواته بالأعشاب. لكن معاناته النفسية كانت أكبر، حيث كان يمني النفس بالعودة إلى مسقط رأسه وفق شروط أملاها على مفاوضيه. لدفع الغضب وتليين المواقف بين الرباط والقاهرة، قام عبد الخالق الطريس الذي كان سفيرا للمغرب في مصر، ببرمجة لقاء بين الملك محمد الخامس إثر زيارة هذا الأخير للقاهرة في 13 يناير 1960، وعبد الكريم الخطابي، خاصة حين علم الملك بمرض بطل الريف وعدم قدرته على الحراك. وفعلا زار الملك بيت الخطابي وجالسه لمدة تزيد عن الساعتين، حيث تحدثا كثيرا عن المشهد السياسي المغربي وقليلا حول وضعه الصحي، كما تقول نجلته عائشة: «تحدثا عن الوضع العام في المغرب، وعن العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية، والوضع الصحي والمادي لولدي. وكان محمد الخامس يسعى إلى إقناع الأمير بالعودة إلى المغرب، لكن والدي قال إنه لن يعود إلى المغرب حتى يعرف مصير المختطفين الذين ذهبوا ضحية الاختطافات التي عرفها المغرب بعد انتفاضة الريف سنة 1958، كما طالب بفتح تحقيق بخصوصها». زاد التوتر بين الرباط والقاهرة بعد وفاة الملك محمد الخامس، وحين تولى الحسن الثاني عرش المملكة، زار القاهرة دون أن يزور «أمير الريف» مما أحدث جرحا دفينا في نفس الخطابي، ولعل مبعث قلق الملك يعود لمعارضة زعيم الريف لدستور 1962. وعلى امتداد شهور ظل يعاني من الألم الجسدي والنفسي إلى أن توفي بعد سنة، دون أن تحقق أمنيته بالدفن في تربة أجدير.

البصري.. مات ساعات بعد تحرير رسالة شكر للملك
بدأت علاقة محمد الفقيه البصري، المعارض المغربي، بالمرض في منفاه بالجزائر، حيث تعرض مرات عديدة لإصابات لكنها لم ترق إلى درجة الإقامة في غرف العناية المركزة، خلال مرضه بمنفاه الاختياري، كان إدريس البصري يتلقى تقارير يومية عن مرض الاتحادي، لكن في نهاية شهر غشت 2003، اضطر الفقيه البصري، إلى التوقف اضطراريا في باريس ليدخل إحدى مصحاتها، ويقضي بها يومين، كان الرجل قد دخل في «أرذل العمر»، قد اضطر للتوقف بها وهو في طريقه من بيروت إلى الدار البيضاء، وأجريت له عملية جراحية في القلب. قال بلاغ للمصحة إن وضعية البصري «حرجة جدا» وأنه دخل في غيبوبة على امتداد يومين كاملين، قبل أن يستفيق منها.
لذا ظل البصري يحن إلى هواء باريس، كلما تعرض لجلطة دماغية تجعلته يفقد الذاكرة، فتتحول زوجته سعاد إلى ممرضة دائمة. وحين اشتد المرض تكلف الملك محمد السادس بجميع مصاريف علاجه بأحد مستشفيات باريس، ولما تحسنت أحواله عاد إلى المغرب واستقر في منزل أحد رفاق دربه ويدعى «الحضري» بشفشاون، بعيدا عن صخب الدار البيضاء.
عاد البصري إلى نفس المصحة بعد شهرين، لكن تبين أن صمامات القلب في أسوأ أحوالها، لم يغادرها مشيا على الأقدام، بل غادرها على كرسي متحرك، وعاد إلى المغرب ليعيش قدره، بعد أيام أعلن عن وفاة أشهر المعارضين للنظام المغربي خاصة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي متعه بامتياز «الوطن غفور رحيم». مات البصري في مدينة شفشاون، عن عمر يناهز الثالثة والسبعين. وجاءت وفاته بعد فترة وجيزة من عودته من باريس.
وعلى الرغم من مرضه فقد كان لوفاته وقع المفاجأة، إذ أن الصحافة المغربية الصادرة صباح أمس نشرت برقية تحمل توقيع «الفقيه» تقدم فيها بالشكر الجزيل «لكل الذين آزروه في محنته الصحية الأخيرة، وفي مقدمتهم العاهل المغربي الملك محمد السادس».
وحسب رواية مقربين منه فإن الرجل ظل في آخر أيام حياته يطل من مقهى في تل مرتفع، على قبري محمد أمقران، والوافي الكويرة، شريكيهما في الانقلاب العسكري الفاشل لسنة 1972. ومن المفارقات الغريبة أن الفقيه مات يوم 15 أكتوبر 2003، وهي نفس السنة التي عرفت الموت السياسي لعبد الرحمن اليوسفي، بعد تعيين جطو وزيرا أول ضدا على الدستور المغربي.

عزاء ومقترح زواج لزوجة لمساعدي

رغم مرور حوالي ستة عقود على اغتيال المناضل عباس لمساعدي، دون أن تظهر بجلاء معالم الجريمة السياسية التي حولته إلى فقيد للحركة الوطنية وضحية لمشهد سياسي كان يتكلم لغة التصفية الجسدية، مازالت سيرة هذا المقاوم تشد المتتبعين للمشهد السياسي خاصة على مستوى تاريخ المقاومة المغربية..
لم يمسح مقتل عباس اسمه من الذاكرة، حيث ظل حاضرا في مذكرات السياسيين والمقاومين، بل إن الفقيد خلف بعد وفاته ابنا اسمه خليل كان في السابعة من العمر لحظة اغتيال والده، ولتخليد اسم الفقيد فقد أصر الابن على إطلاق اسم عباس على فلذة كبده بتزكية من الأم غيثة التي رافقت الراحل في أصعب المراحل التي عاشها وتحولت إلى سيدة تقضي وقتها مرابطة أمام الدوائر الأمنية والسجون، بالموازاة مع ذلك حرصت على تنشئة ابنها الوحيد خليل التنشئة الصالحة كي لا يتأثر بفقدان والده، إلى أن أصبح من كبار المهندسين.
تصر غيثة على أن زوجها عباس قد تمت تصفيته بسبب حسابات سياسية، وأنه ذهب ضحية مؤامرة دنيئة أقدم عليها قادة حزب الاستقلال، وأضافت بأن مخطط التصفية هو المهدي بن بركة، بمعية علال الفاسي، وأن منفذها هو الغزاوي مدير الأمن، لكنها لم تنس الوعد الذي قطعه مولاي الحسن حين كان وليا للعهد، حين قالها وهو يقدم التعازي يوم 27 يونيو 1956، «لن أنزع هذا القميص من جسدي حتى أكشف اسم القاتل»، وأضافت بأن الحسن الثاني حاول تزويجها من شخصية نافذة في القصر فرفضت المقترح، قبل أن تتزوج من أحد أقاربها بناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى