
يونس جنوحي
في مثل هذا اليوم بالضبط، لكن قبل 180 سنة كاملة، تولى مواطن مغربي مهمة إنعاش العلاقات المغربية الفرنسية.
لم يقصر الفرنسيون في استفزاز المغرب قبل سنة 1845، ووصلت العلاقات مع باريس حد القطيعة.
أما نحن فلم يكن لدينا أي وزير يتحدث الفرنسية. حتى أن بعثة فرنسية سابقة، إلى القصر الملكي في فاس، شعر أعضاؤها بالإحراج عندما رأوا كيف أن الوزراء المغاربة كانوا يمسحون أيديهم في تلابيب جلابيبهم بعد مصافحتهم مباشرة!
وسبق للدبلوماسيين الفرنسيين أن كتبوا مرارا عن النظرة التي يرمق بها المغاربة “النصراني” حتى لو كان سفيرا.
لكن “سفيرنا”، الحاج عبد القادر أشعاش، كان مختلفا عن هؤلاء جميعا.
اختار السلطان المولى عبد الرحمن ابن هشام العلوي “سيرته الذاتية” من بين عشرات الأسماء الأخرى.
“أشعاش” شاب لم يبلغ الأربعين، وسيم، ويشتغل عاملا على مدينة تطوان!
أما أعضاء البعثة، فقد كانوا جميعا شيوخا. “السكة القديمة”، تبعوا السفير عبر الباخرة إلى باريس مباشرة. وكانوا فقهاء لم يسبق لهم نهائيا أن غادروا طنجة، ومنهم من لم يغادر فاس إلا لأداء فريضة الحج.
تولى أشعاش نقل هدايا المغرب إلى فرنسا. حمولة كاملة من الحيوانات البرية، لإعادة الدفء إلى العلاقات الدبلوماسية. ملك فرنسا كان مولعا بالضواري والكواسر، لذلك كانت بضعة رؤوس من الفهود والأسود والحمير الوحشية، كافية لجعل مزاج ملك فرنسا رائقا.
أشعاش كان مثالا دقيقا لما يجب أن يكون عليه رجال المخزن. كتب مخطوطا، بنفسه، ذكر فيه كل شيء عن رحلته.. لحظة مغادرة تطوان، و”أهوال” البحر وتقلبات المناخ.. وبرودة باريس وحفاوة الاستقبال.. بل وسجل حتى نسخة من الرسالة التي بادر بكتابتها إلى السلطان بمجرد أن وطئت قدماه باريس، ليطمئنه بأن ملك فرنسا اعتنى شخصيا باستقبال السفير ومن معه، وأن الفرنسيين خرجوا عن بكرة “أبيهم” لرؤية البعثة المغربية، بالجلابة المغربية.. لكنه لم يذكر أي شيء عما دار بينه وبين الملك “فيليب الأول”!
أسرار الدولة كانت بين أيد أمينة بكل تأكيد.. ولم يخرج أيّ منها إلى العلن. أشعاش بلغ رسالة شفهية إلى الملك فيليب، ونقل رسالة شفهية أخرى إلى السلطان عبد الرحمن بن هشام.. ولم يشر إليها في مخطوطه نهائيا!
الدليل على نجاح عامل تطوان في امتحان السلك الدبلوماسي، أنه عاد من فرنسا إلى المغرب في أقل من شهر ونصف، وفي دجنبر -أقل من شهرين على مهمته- أرسل الملك فيليب سفيره إلى القصر الملكي في مراكش، لإبرام اتفاقيات مع المغرب!
عندما يختار سلطان علوي قصر مراكش لاستقبال سفير فرنسي، فإن الأمر يعني أن السلطان يفرض ما شاء من شروط في الاتفاقية.. وهذه السُنة الدبلوماسية بدأت مع المولى إسماعيل، الذي استقدم سفير فرنسا أيام لويس الرابع عشر، غريمه السياسي، إلى مراكش، وجعله يقطع المسافة بينها وبين فاس، على الخيل ويجرب “وعثاء” السفر داخل الإيالة الشريفة..
أما الملك فيليب، فقد كان محتاطا وهو يوقع اتفاقيات سلمية مع المغرب، وهو الذي وصل إلى الحكم في نفس السنة التي احتلت فيها بلاده الجزائر رسميا.. ورغم أنه لم يشتغل على موضوع احتلال الجزائر، لكنه جنى ثماره لوحده.. وعندما جرب أن يتعامل مع المغرب بنفس الطريقة، وصلت العلاقات المغربية الفرنسية إلى الباب المسدود، ليتولى عامل تطوان الشاب، مهمة “ترويض” مستشاري ملك فرنسا، وجعلهم يفهمون أن المغرب بلاد أخرى لا تنتمي إلى الحضيرة التي تولت فرنسا تسييرها بعد مغادرة العثمانيين.
أدرك “أشعاش” بذكائه أن إهداء الملك فيليب الأول تحفة مغربية عبارة عن عمود روماني، يعود إلى آلاف السنين، كُتب عليها: “لا غالب إلا الله”.. سوف تفي وحدها بالغرض.. وكذلك كان.





