
من يشاهد فيلم V for Vendetta لأول مرة قد يظنه تحية للثوار، قصيدة سينمائية في وجه الطغيان، دعوة صريحة لانتفاضة تُسقط الأقنعة وتعيد الكرامة للشعوب. لكن من يعيد المشاهدة بعين أكثر خبثا يكتشف أن الفيلم لا يتحدث عن الحرية بقدر ما يتحدث عن هندستها. فـ«في» لم يكن مجرد ثائر يواجه النظام، بل مهندسا للغضب الجماهيري، خالق مشهد جماعي مدروس، كما لو أنّ الثورة نفسها أصبحت إعلانا تجاريا يوزَّع على الناس مع الأقنعة السوداء. الجمهور يخرج للشوارع منتشياً، لكنه لا يعرف من حرّكه، ولا إلى أين يسير. وهنا تكمن المفارقة، الثورة تُقاد باسم الحرية، لكنها في العمق تُدار بعقل بارد خلف الكواليس.
الفيلم، رغم طابعه البطولي، يفضح فكرة أن الانتفاضات لا تولد من العدم. هناك دائماً «في» ما، يقف في الظل، يصنع الرموز، يزرع الخوف ويُخرج الجماهير إلى الضوء في اللحظة المناسبة. مشهد الأقنعة المتشابهة في النهاية ليس فقط إعلاناً لوحدة الشعب، بل إعلاناً لموت الفرد، ولبداية جيلٍ مبرمجٍ على الهتاف لا على التفكير. إنه مشهد يوحي بالتحرر لكنه ينذر بالتحكم الكامل، وكأننا أمام ثورةٍ مُنتَجة في استوديو.
حين نُسقط هذه الفكرة على الواقع العربي، يبدو أنّ V for Vendetta كان نبوءة سياسية أكثر منه خيالاً فنياً. فمنذ اندلاع ما سُمّي بالربيع العربي، خرجت الجماهير تحمل الحماسة ذاتها والإيمان نفسه بأنّ الحرية قاب قوسين. غير أنّ السنوات التالية كشفت أنّ بعض الثورات كانت مبرمجة بعناية، تُقاد من غرفٍ مظلمة لا من ميادينٍ مضاءة. الشعوب العربية لم تُمنح فرصة لتصوغ مصيرها بقدر ما وُظّفت وقودا لمعارك القوى الكبرى. في النهاية تغيّر شكل النظام لكن الجوهر بقي نفسه، سلطة جديدة تضع قناع الحرية على وجهٍ قديم.
ما حدث بعد الربيع العربي يشبه تماماً اللحظة التي يخلع فيها «في» قناعه. الجميع ينتظر الحقيقة، لكن الحقيقة كانت مخيبة. تبيّن أن القناع هو البطل الحقيقي، وأنّ الجماهير لم تكن تُقاتل من أجل مبدأ بل من أجل صورة. هنا تصبح الثورة عرضاً بصرياً مثل مشهد الختام في الفيلم، الألعاب النارية، الموسيقى والعواطف المشحونة، لكنها لحظة قصيرة المدى تنتهي بانطفاء الضوء، وبعودة الجماهير إلى بيوتها، تماماً كما يعود المشاهد بعد الفيلم إلى حياته المملة وقد نسي كل ما أثاره قبل دقائق.
الأنظمة، بطبيعتها، تتعلم بسرعة. بعد كل موجة غضب تزداد مهارة في التحكم في الإيقاع. أصبحت تعرف كيف تصنع «فيها» الخاص، كيف تترك مساحة صغيرة للاحتجاج كي تُفرغ الغضب دون أن تمس الجذر. تُطلق المنابر الرقمية، تسمح بالصراخ في الفيسبوك وتمنع الخطوة في الشارع. ترفع شعار «دع الناس تتكلم كي لا تفعل شيئاً». وهكذا تتشكل نسخة عربية من ديستوبيا الفيلم، جمهور غاضب وأمل مؤجل باستمرار.
حتى الثقافة الثورية تحولت إلى سلعة. تُباع أقنعة «في» في مواقع التسوق أكثر مما تُباع كتب الفلسفة. يُعيد الشباب نشر مقاطع الفيلم في تيك توك ويظنون أن الثورة تبدأ من الهاشتاغ. لم يعد القناع رمزاً للمقاومة، بل شعاراً للموضة السياسية. إننا نعيش زمناً تُقاس فيه شجاعة المواطن بعدد المتابعين لا بعدد المخاطر التي واجهها. هكذا تحولت الفكرة الأصلية للفيلم من تمرّد على النظام إلى تمجيدٍ لأنظمة جديدة أكثر ذكاءً في احتواء التمرّد نفسه.
لكن ما يجعل الفيلم عبقرياً هو أنه لم يقدّم حلاً، كأنّ المؤلف أراد أن يقول إن الحرية لا تُمنح عبر التفجير، بل عبر الوعي. وعيٌ نادرٌ في عالمٍ تُصنع فيه الآراء كما تُصنع الإعلانات. في هذا السياق العربي، نكتشف أن الأنظمة والمعارضات معاً تتغذى من بعضهما مثلما يتغذى «في» من النظام الذي خلقه. كلّ طرفٍ يحتاج الآخر ليبرّر وجوده. وكلّ ثائرٍ يحتاج حاكما يحتج ضده كي يشعر ببطولته.
لقد كانت الجماهير العربية ضحية وهمٍ بصري يشبه مؤثرات الفيلم، كثيرٌ من الدخان، قليلٌ من المعنى. تَحوّل الشارع إلى مسرح كبير والجماهير إلى كومبارس. والنتيجة أن الثورات التي وُلدت باسم الحرية أنجبت أنظمة أشد صلابة، وإعلاماً أكثر مهارة في هندسة العقول. ربما هذا ما قصده الفيلم حين جعل «في» وجهاً بلا ملامح. لأن أي مشروع تحرري بلا وعي يتحول إلى قناعٍ آخر يختبئ خلفه جلاد جديد.
فيلم V for Vendetta ليس مجرد تحيةٍ للثورة، بل تحذيرٌ منها عندما تُدار بالعاطفة وتُوجّه بالعقل الخفي. وكأنّه يقول لنا نحن العرب بعد عقدٍ من اللهيب، احذروا من الأقنعة التي تَعِد بالتحرر لأنها غالباً ما تخفي نظاماً أكثر إحكاماً. فالثورة ليست أن تَصرخ بل أن تفهم لماذا تصرخ، وليست أن تُسقط النظام بل أن تمنع ولادته من جديد. أما الحرية الحقيقية فربما تكمن في اللحظة التي نقرر فيها خلع الأقنعة جميعاً، لا فقط تلك التي نرتديها خوفاً، بل أيضاً تلك التي نرتديها حماسةً. لأنّ أخطر الطغاة ليسوا من يحكمون الشعوب، بل من يُقنعونها بأنها حرة بينما هي تلبس قناع «في» وتبتسم للكاميرا.





