الرأي

صندوق المقاصة ورهان الإصلاح (1/2)

يعد الارتفاع المهول والتصاعدي الذي عرفته أسعار الموارد الأولية والغذائية والخدماتية وطنيا ودوليا، أحد الأسباب التي دفعت المهتمين بالحقل الاقتصادي والمسؤولين إلى التساؤل عن دور صندوق المقاصة ومكانته، والكيفية التي يدبر بها، والفئات المستفيدة منه، حيث يعتبر هذا الصندوق مؤسسة حكومية، ذو صفة معنوية واستقلالية مالية، وظيفته الأساسية دعم أثمان المواد الأولية المسوقة في المغرب، وخصوصا المحروقات النفطية والغازية والسكر، إضافة إلى دعم أثمنة بعض المنتجات الموجهة للاستهلاك في الأقاليم الجنوبية للمغرب، وقد كانت أولى بوادر ظهور هذا الصندوق من طرف المستعمر الفرنسي في سنة 1941، كآلية لمواجهة الانعكاسات السلبية الناتجة عن الحرب العالمية الثانية، وأثرها على اقتصادها واقتصاد مستعمراتها، ومحاولة توفير المنتجات الاستهلاكية الأولية الأوروبية بالمغرب بأسعار معقولة.
ولم تشرع الدولة في إرساء نظام دعم المواد الغذائية الأساسية، إلا ابتداء من أواسط الستينيات بالموازاة مع سياستها لتقنين الأسعار، لكن بعد ذلك وفي سنة 1965 سيتمتع صندوق دعم المواد الغذائية بصفة مؤسسة عمومية ذات استقلال مالي وشخصية معنوية، وصدر بعد ذلك القانون الرسمي لصندوق المقاصة بمقتضى ظهير شريف سنة 1977 بشأن إعادة تنظيم هذا الصندوق.
لكن اليوم، هذا الصندوق يعاني من العديد من الإكراهات والمشاكل، التي تعتبر من أهمها سياسية الريع واللوبيات التي تستفيد من هذا الصندوق، وانعدام الفعالية والنجاعة وعدم تحقيق العدالة المطلوبة، مما يستدعي معه إصلاح هذا الصندوق. فما هي إذن المشاكل التي يتخبط فيها هذا الصندوق؟ وكيف السبيل لإصلاحه؟
إن صندوق المقاصة محدث بظهير شريف مؤرخ في 8 محرم1360 الموافق لـ 25 فبراير 1941، وأعيد تنظيمه بمقتضى ظهير 19 شتنبر 1977، حيث يعتبر مؤسسة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، وتوضع تحت وصاية الوزير الأول ويكون مقره بالرباط. ويعهد إلى صندوق المقاصة بتنفيذ السياسية الحكومية بشأن استقرار الأسعار، ومن أجل هذه الغاية فإن الصندوق يعتبر الهيئة المؤهلة وحدها للقيام بجميع العمليات المتعلقة باستقرار الأثمان، ولاسيما القيام بتمويلها وإنجاز أو جمع الاقتطاعات المتعلقة بها. وتتمثل المهام الأساسية لهذا الصندوق في تنظيم التزود بالمواد الاستهلاكية الأساسية، خاصة السكر والزيوت الغذائية والمواد البترولية، وتأمين المقاولات من تقلبات أسعار المواد الأولية، وحماية المستهلكين عبر التحكم في أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية.
ويعتبر صندوق المقاصة من أبرز القضايا الشائكة التي تواجه المالية العمومية بالمغرب حاليا، بالنظر لارتباطه بالتوازن الاجتماعي والاقتصادي، حيث يتولى صندوق المقاصة توفير سياسة استهلاكية عادلة ومنصفة، عن طريق المحافظة على أسعار المواد الأساسية في مستويات تتناسب مع القدرة الشرائية للمواطنين.
فالموارد المالية لصندوق المقاصة تتشكل من اقتطاعات لفائدة الصندوق، وإعانات دولية، وتسبيقات الخزينة والهيئات العمومية أو الخصوصية، وكذلك المتحصل من الغرامات الإدارية المقبوضة لفائدته، والمتحصل من الاقتراضات بواسطة سندات لحاملها، وكذا جميع الموارد الأخرى التي يمكن أن تخصص فيها، والهبات والوصايا.
لكن واقع الحال الذي يعيشه هذا الصندوق، الذي يعرف إفلاسا وعجزا على مستوى تمويل ودعم سوق الاستهلاك، وأصبح يشكل ثقلا وعبئا على الميزانية العامة رغم ضخ الدولة لسيولة مالية مهمة فيه، وهو ما جاء في تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2013 حول منظومة المقاصة بالمغرب، ففي هذه السنة، تجاوزت تكاليف المقاصة المحاصيل الجبائية برسم الضريبة على الدخل وأصبحت تمثل ما يناهز 75 في المائة من محصول الضريبة على القيمة المضافة الراجع إلى الدولة، ونسبة 99 في المائة من محاصيل الضريبة على الشركات، في حين لم تتجاوز سنة 2009 أعباء المقاصة نسبة 43 في المائة من محصول كل من الضريبة عل الشركات والضريبة على الدخل، وانحصر في أقل من 30 في المائة بالنسبة للضريبة على القيمة المضافة. وقد وصلت تكاليف المقاصة في سنة 2013، إلى ما مجموعه 44.4 مليار درهم، منها 38.8 مليار للمواد البترولية، و3.6 مليار للسكر، و2 مليار للدقيق. وقد خصص قانون المالية لسنة 2016 مبلغ 15.5 مليار درهم لدعم المقاصة، وهي موجهة لدعم كل من أسعار الاستهلاك لغاز البوتان، ودقيق القمح الوطني والسكر، ولتمويل تدابير دعم المكتب الوطني للكهرباء والماء.
لكن، رغم هذا التمويل، فالصندوق لم يحقق الهدف المنشود من إنشائه، وهو دعم الفئات الفقيرة، وما يبعث على القلق، هو أن هذا الصندوق تستفيد منه بنسبة كبيرة الفئات الغنية، في حين أن الفئات الفقيرة تستفيد فقط من نسب قليلة إن لم نقل لا تستفيد قط من المبالغ التي رصدت لهذا الصندوق، كما أن دعم الصندوق تستفيد منه بالدرجة الأولى الكثير من المقاولات التي ضاعفت إنتاجيتها ومردوديتها، والتي يوجد ضمنها شركات أجنبية كبرى.
فحسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات، فالأقاليم الجنوبية استفادت من دعم قدره 1.1 مليار درهم برسم سنة 2013. كما استفاد القطاع العام (الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات والمقاولات العمومية) من دعم برسم استهلاك منتجات الوقود والمحروقات من أجل سد حاجيات الاستغلال وحظيرة السيارات باستثناء فيول الكهرباء، من مبلغ يقدر في 1.09 مليار درهم خلال سنة 2013. وفي نفس السنة، وفيما يخص تكاليف المقاصة لفائدة الأسر، فقد استفادت الأسر بدون سيارة، من مبلغ قدره 1.880 درهم سنويا، أي 156 درهم شهريا، والأسر التي تتوفر على سيارة استفادت من مبلغ قدره 3.943 درهم سنويا، أي 328 درهم شهريا، حيث يمثل غاز البوطان أهم حصة ضمن مبالغ الدعم التي تستفيد منها هذه الأسر.
فجوانب خلل صندوق المقاصة ببلادنا ترتبط أساسا بمشكل المسؤولية والمحاسبة، وغياب الحكامة في التسيير، وسوء استهداف السكان المعوزين، وعدم فعالية المؤسسات المسيرة، إضافة إلى عدم تطابق الممارسات مع الأهداف المسطرة، وأيضا مشكل التبعية المفرطة للسوق الدولية فيما يخص المواد الأولية، وغياب آليات للرقابة بإمكانها تتبع جميع أشكال الدعم التي وجهت إلى جهات غير معنية، وهو ما طهب إليه مجلس المنافسة من خلال دراسة قام بها. لذلك فإصلاح هذا الصندوق يجب أن يتم من خلال عدة جوانب وعلى صعيد عدة محاور مترابطة، من خلال التركيز على بناء نموذج مغربي صرف لهذا الصندوق، يعتمد على معطيات وأطر مغربية، دون تأثير أي منظمة دولية أو خارجية، واستهداف الفئات المعوزة والفقيرة.
• صندوق المقاصة وسبل الإصلاح
إن إصلاح صندوق المقاصة ببلادنا، يتطلب من جهة إرادة حقيقية تحمل في طياتها إجراءات تقنية وعملية، هيكلية وشاملة، تهدف إلى التحكم في كلفته وجعله في مستوى تتحمله المالية العمومية. ومن جانب آخر، إلى إرادة إصلاحية تستهدف إعادة تأطير نظام المقاصة وفقا لمنطق العقلانية الاقتصادية، والاستهداف الاجتماعي للفئات الهشة، الفقيرة والمعوزة.
وفي هذا الإطار، فإصلاح منظومة المقاصة يجب أن يشارك فيه الجميع، وفق مقاربة تشاركية، تنخرط فيها مختلف القطاعات الوزارية والهيئات المعنية، ما يساهم في تقنين وتدبير هذا الصندوق. وأيضا ضرورة وجود نظام للمعلومات يمكن مقارنة الكميات المستوردة مع تلك التي تم نقلها وضبط التسديدات المرجعة على الفاتورات، والمتعلقة بحالات إرجاع المواد المقتناة سابقا.
وحسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات، فمن الملائم تطوير التفاعل الإيجابي بين مختلف الأجهزة المتدخلة في نظام المقاصة. في هذا الإطار، يوصى بإحداث لجنة لليقظة تتعلق بالمقاصة، ويتعين أن تتألف هذه اللجنة، بالإضافة إلى صندوق المقاصة، من المكتب الوطني للحبوب والقطاني، وممثلين عن الوزارات المكلفة بالطاقة والشؤون العامة والمالية والصناعة والفلاحة والنقل، وكذا ممثلي الهيئات المهنية المعنية، تتجلى مهمة هذه اللجنة في تقديم الاستشارة للحكومة حول الاستراتيجيات والآليات الواجب وضعها من أجل عقلنة نظام المقاصة.
أما فيما يتعلق بالجانب الضريبي، فما يوصى به، هو التنصيص قانونا على استثناء المساعدات المقدمة من طرف صندوق المقاصة من مجال تطبيق الضريبة على القيمة المضافة، والنص على إعفاء الرسوم شبه الضريبية على الاستيراد فيما يتعلق بالمواد الخاضعة للمقاصة وبالتالي إعادة النظر في بنية الأثمان، والنص على إجراءات ضريبية محفزة لتطوير الطاقات المتجددة والتكنولوجيات التي تتسم بالاقتصاد في الطاقة، خاصة من خلال اعفاءات على اقتناء التجهيزات.
ومن بين الاقتراحات التي جاءت في تقرير المجلس الأعلى للحسابات، إنعاش الفعالية الطاقية وإنتاج الطاقات المتجددة من أجل خفض استهلاك غاز البوتان من خلال برامج كبرى، وهو ما تم بالفعل من خلال تدشين الملك محمد السادس مؤخرا لمحطة «نور1» للطاقة الشمسية، التي تعتبر الأكبر في العالم لإنتاج الطاقة الشمسية والطاقات المتجددة، وتمتد على مساحة 450 هكتارا وفيها نصف مليون من المرايا العاكسة. ويتوقع أن تنتج نحو 160 ميغاوات من الكهرباء، وهي تهدف بعد الانتهاء من بناء نور 2 ونور 3 ونور 4، إلى إنتاج 580 ميغاوات من الكهرباء، وإمداد مليون منزل مغربي بالطاقة النظيفة. حيث يعتبر هذا المشروع نموذج تهدف من خلاله الدولة على تشجيع الحلول القائمة على الطاقات المتجددة والنجاعة الطاقية.
كما أكد صندوق النقد الدولي في تقرير له، على أن إصلاح نظام المقاصة أمر ملح ويطرح بشدة، رغم الصعوبات التي قد يواجهها هذا الورش، لكن المضي فيها من شأنه أن يؤدي إلى التوازن الاجتماعي بين الطبقات. سبق للبنك الدولي أن طالب المغرب في تقرير صادر في اكتوبر 1983 بالغاء دعم المواد الأساسية وبرر ذلك بارتفاع حجم مصاريف الدولة من الدعم دون أن يؤدي ذلك إلى تحسين استهلاك الفئات الأكثر فقرا وهو ما استجابت له الحكومة بإلغاء دعم مادتين أساسيتين (الحليب والزبدة) في نفس السنة. وفي مارس2001، اقترح البنك الدولي في وثيقة بعنوان «تحيين الفقر في المغرب»، على الحكومة تخفيض متوازي للحماية الجمركية ولدعم المواد الغذائية وإدراج مساعدات مالية مستهدفة للمجموعات ذات الدخل المنخفض.
وفي سنة 2013 خلال ندوة حول «السياسة الاقتصادية للحكومة» منظمة بالرباط، أوصى سيمون كراي مدير منطقة المغرب في البنك الدولي، المغرب بإصلاح نظام المقاصة لمواجهة عجز الميزانية وضمان توازن المالية العمومية. ووجه المسؤول الدولي المغرب نحو استهداف الفقراء بتحويلات مالية غير مشروطة مرفوقة بتقليص تصاعدي وانتقائي لنفقات دعم الأسعار.
وخلال شهري يناير ويونيو 2013 قامت لجنة من صندوق النقد الدولي بزيارتين للمغرب يهدف تقييم أداء الاقتصاد المغربي، والضغط على الحكومة للقيام بإصلاحات هيكلية، من بينها ما يهم المقاصة،
بل وتم التهديد بوقف خط السيولة المفتوح بقيمة 6 مليارات دولار في حالة التأخر في انجاز الإصلاحات المطلوبة، وهو ما ينفي ما صرحت به الحكومة سابقا من أن القرض المفتوح بدون شروط، ونتيجة لثقة المؤسسات المالية الدولية في الاقتصاد المغربي.
إن إصلاح صندوق المقاصة يتطلب مواكبته بإصلاحات موازية تشمل القطاع الضريبي والصحي والاجتماعي وغيرها، وتفعيل الآليات والمبادئ والهيآت المرتبطة بالحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، والرقابة، والجودة في التدبير المنصوص عليها في دستور 2011. فنجاح عملية إصلاح هذا الصندوق يتطلب وبإلحاح مباشرة الإصلاحات المأمولة وفق تصور شمولي ومقاربة تدريجية، ورسم الأهداف والغايات، وتحديد الفئات المستهدفة والمجالات والجهات المعنية بالدعم، ومن ثمة الشروع في تنزيل ذلك بصفة تدريجية.
* كاتب وباحث جامعي في العلوم والتقنيات الضريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى