الرأي

صور كارثية من صراع الأجيال

مالك التريكي
صار اسم الفتاة السويدية غريتا ثونبرغ من أشهر الأسماء العالمية، بعد أن عرفت أثناء العام المنقضي متحدثة بليغة باسم الشباب القارع لناقوس الخطر البيئي، والمحرض للمجتمعات والحكومات في جميع أنحاء العالم على المسارعة بوقف التلوث الصناعي والاحتباس الحراري، إنقاذا للإنسانية من الهلاك المحقق. وفي غمرة النقاش العالمي الذي حركته هذه الفتاة، اكتسى صراع الأجيال معنى جديدا ما كان ليخطر ببال. حيث أصبح يقال إن أجيال الكهول والشيوخ أجرمت في حق الأجيال الناشئة لفرط أنانيتها وإمعانها في تقويض مقومات البقاء على الكوكب الصغير. أي إن نمط العيش الاستهلاكي الذي أخذ به الآباء والأجداد، قد صادر مستقبل الأبناء والأحفاد. إنه صراع أجيال بين الجناة والضحايا. بين كبار زرعوا الشوك وصغار حكم عليهم أن يجنوا الجراح.
ومعروف أنه لم يكن لصراع الأجيال في القرن العشرين سوى معنى واحد: هو صراع القيم الاجتماعية بين القديم والحديث، بين المحافظة والتجديد، بين الأبناء المتعلمين والآباء الأقل تعلما، بين التشبث بالأهلي والأصلي وبين الانفتاح على رياح المدنية العصرية. هذا هو المعنى الشائع. على أن هنالك معنى آخر ظهر قبل عقدين، ولكنه لم يعرف انتشارا. إنه المعنى الذي وضعه الباحث الاقتصادي نيكولا بافريز، في كتابه الصادر عام 1998 بعنوان «الثلاثون البئيسة» (أي سنوات الركود والبطالة التي عرفتها أوربا الغربية منذ منتصف السبعينيات)، عندما قال إن صراع الأجيال قد بدأ يعوض الصراع الطبقي، لأن أجيال الآباء والأجداد نعمت وتنعم بمستوى معيشة مرتفع وبمخصصات تقاعد سخية، بينما تتخبط أجيال الأبناء والأحفاد في متاهة الهشاشة الاقتصادية وانعدام الأمان الوظيفي وتوقعات ضعف، بل انعدام، مخصصات التقاعد.
إنه صراع أجيال ناجم عن انتهاء عهد ذهبي في تاريخ الإنسانية. فقد ظل مستوى المعيشة يتحسن باطراد من جيل إلى جيل طيلة القرن العشرين، ولكن الآية انعكست تماما منذ حوالي عقدين. وإن هذا لمعنى محزن مؤس، لأنه يتعلق بخيبة ذلك الأمل الإنساني الفطري لدى كل أب وأم في أن يكون أولادهما أفضل منهما وتكون حياتهم أطيب.
إلا أن هنالك معنى إضافيا لصراع الأجيال أخذ يزداد علي إلحاحا منذ سنوات: إنه المعنى الذي قصده الشاعر التونسي عبد العزيز قاسم، عندما كتب أخيرا: «ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن تنهار فيه المنظومة التربوية يدخلها الأمي فيتخرج منها جاهلا يحمل شهادات عليا. رحم الله زمانا كان الناس يتخذون فيه أبا العلاء أسوة وإماما، وهو القائل المتباهي عن جدارة: ما مر في هذه الدنيا بنو زمن، إلا وعندي من أخبارهم طرف، (..) إن الذي لا يعرف كبار المفكرين يصح فيه استعمال ضمير غير العاقل، ولا يغرنكم اليوم أنهم خريجو جامعات». ولكن قبل أن ينعى الشاعر على الجيل الجديد ضحالة التكوين الثقافي، عاب عليه فرط الجحود وشدة التطاول، فكتب متحسرا «ما أقصر ذاكرة هذا الجيل القاصر وما أطول لسانه!».
هذا الصراع المجازي بين الأجيال، أي التدهور المستمر على صعيد المعرفة والقيم، هو المعنى الذي يتبادر إلى ذهني كلما حدث في الحياة العامة ما يرسخ الانطباع بأن الفارق النوعي بين الأجيال ما يفتأ يتعمق، وبأن الجيل الجديد قلما يفلح في مضاهاة الجيل القديم. ولا ينبغي أن يفهم من هذه الملاحظة أنها تتضمن إنكارا لسنة الحياة المتمثلة في ضرورة التعاقب والتداول. وإنما هي مجرد تقرير لواقع ناطق بتدني المستوى، بشكل شبه مستمر، كلما وقع الانتقال من جيل إلى الجيل الذي يليه. ورغم أن لهذا الواقع تجليات في مجالات عديدة، مثل الإدارة (أي قيادة المؤسسات) والتعليم والإعلام، فإن السياسة تبقى هي مجال الفارق النوعي بين الأجيال بامتياز. حسبك أن تنظر عظم الفارق بين قادة من طراز تشرشل وروزفلت ودوغول ونهرو وعبد الناصر وكينيدي ومانديلا وبورقيبة وسنغور، على سبيل المثال، وبين ترامب وبوش الابن وساركوزي وبرلسكوني وبوريس جونسون والسيسي وحفتر وسفاح دمشق ومن كان من طينة هؤلاء من الفخامات والماريشالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى