
يونس جنوحي
في كل الثقافات، هناك إجماع على أن أغلب الأطباء الذين وضعوا مشرط العمليات الجراحية وحملوا القلم، يُحسنون تشريح «الحال» ويُبدعون في رص الكلمات والمعاني كما يخيطون الجروح تماما.
قبل أكثر من قرن، اتجه أطباء أجانب صوب المغرب وخالطوا المغاربة، لكن، إلى جانب مزاولتهم للمهنة، مارسوا الكتابة أيضا.
أحد هؤلاء هو الطبيب البريطاني «ويليام لامبريير».. العثور على نسخة من مذكرات هذا الطبيب، الذي مات سنة 1834، أشبه باستحضار الأرواح. ترجمة فرنسية للعمل الأصلي، قبل عقود طويلة، جعلت الباحثين المغاربة يتعرفون على سيرة هذا الطبيب وتجربته «المغربية».
لكن عند الوقوف على الكتاب الأصلي، باللغة الإنجليزية، لا يسع المرء إلا أن يقول إن بعض المُترجمين «إخوان الشياطين».. ترجمة بما يخدم نظرة الفرنسيين إلى المغاربة.
في النص الأصلي يعبر الرجل عن إعجاب كبير بمغرب ومغاربة القرن الثامن عشر.
وقصة هذا الطبيب مع المغرب بدأت في شتنبر سنة 1789، بعد أن تطوع لتلبية طلب مغربي رسمي، يتعلق بتوفير طبيب بريطاني لعلاج ابن السلطان المولى محمد بن عبد الله من مرض معقد.
وما يدل على جسامة المسؤولية ما كتبه هذا الطبيب، في صدر كتابه، إذ وجه إهداء مؤثرا إلى الأمير إدوارد، وشكره على ثقته الكبيرة على اختياره شخصيا لمهمة علاج ابن سلطان المغرب.
عندما بدأت مغامرة هذا الطبيب، تملكته الدهشة، ولم يعد يرعبه ثقل المهمة الملقاة على عاتقه، بقدر ما كان مأخوذا باستكشاف المغرب.
وهذا ما يفسر كيف أنه خصص الكتاب، الذي تتجاوز صفحاته الخمسمئة صفحة، لذكر تفاصيل تتعلق باستكشاف المغرب، ومدنه ومعلومات عن جغرافية البلاد والقبائل، والعادات والتقاليد، وخدام المخزن وطباعهم ومغامرات السفر في بلاد لا طرق فيها ولا سيارات..
كان بإمكان الطبيب «لامبريير» أن يختار عنوانا ملفتا لمغامرته، ويربطه، مثلا، بطبيعة المهمة التي أوكلت إليه من أعلى سلطة في بريطانيا، لكنه، بدل هذا كله، اختار أن يجعل الكتاب عن رحلته المغربية، وبدأ العنوان بعبارة «جولة»، بدأت من جبل طارق، إلى طنجة، ثم إلى سلا، فموگادور و«سانتا كروز»، ومنها إلى تارودانت.. وقطع الأطلس صوب مراكش.
من أطرف ما ذكره هذا الطبيب الجراح، ما حدث له في مدينة تارودانت، عندما حاول أحد «المجاذيب» أن يؤذيه مُوجها بغلا هائجا نحوه.. كان يسمع عبارات السب والشتم التي تُقذف في وجهه، على اعتبار أنه «نصراني» في الإيالة الشريفة..
لكنه لم يلق بالا لكل هذه التفاصيل، واعتبرها «ملح الكتابة».
في قصر السلطان بمراكش تعرف هذا الطبيب على حياة سكان القصر، وحكى عن ثقة السلطان، ومدى انفتاحه وسماحه للطبيب بدخول جناح الحريم لتقديم العلاج.. مكذبا الصورة المتحجرة التي تداولها الأجانب عن المغاربة.
عندما طُبع الكتاب في بريطانيا، لأول مرة، حقق نجاحا باهرا.. الإنجليز كانوا يريدون القراءة عن المغرب والمغاربة. طبعة ثانية وأخرى ثالثة، ولم يتوقف إلا عند الطبعة الخامسة، التي صدرت سنة 1813.
نحن نتحدث هنا عن واحدة من أقدم الكتابات الدقيقة عن المغرب، ولم يكتبها عالم اجتماع أو صحافي مهنته الكتابة، وإنما طبيب سبق أشهر صحافيي بريطانيا إلى الكتابة عن المغرب، وخطف منهم الأضواء جميعا محققا «السبق».
بعد كل هذه السنوات، لا يزال الأطباء حول العالم مسكونين بهوس الكتابة.. رغم كل ما يقال عن «تخلف» العرب عموما عندما يتعلق الأمر بالكتاب، إلا أن بعض الفلتات، في عالمنا العربي، أكدت أن الطبيب قادر على لفت انتباه النقاد وحراس معبد «الأدب».. وحازوا الثناء.
هناك نكتة بريطانية قديمة من القرن التاسع عشر تتعلق بقدرات الأطباء على الكتابة. ملخصها، باختصار، يتعلق بتساؤل عن سر إعجاب النقاد بما يكتبه الأطباء سواء في الرواية أو المذكرات.. والجواب واضح.. ليس هناك ناقد يقوى على انتقاد الطبيب عندما يكتب، خوفا من أن يجمعهما يوما القدر في غرفة العمليات، ويحمل الطبيب «المبضع» بدل القلم.. وحينها سيمكنه «انتقاد» الناقد بطريقته الخاصة!





