حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةفسحة الصيف

على العالم تشييد نظام جديد أو الانهيار في الفوضى

كتاب "النظام العالمي" لـ"هنري كسنجر"

في التاسع والعشرين من نونبر 2023، تُوفي هنري كيسنجر، أشهر وزير خارجية في العالم، بعد إتمامه عامه المئة، وتعميره قرنا من الزمن أفناه في الترويج للولايات المتحدة ومبادئها “الديمقراطية” والتنظير لخط دبلوماسي مستوحى من القرن التاسع عشر، قرن العِبَر في نظره. وتَبِعَ الإعلان عن وفاته سيلٌ من التعليقات والمقالات التي تراوحت بين الهجاء الصارخ، والتقييم الجدي لتجربته السياسية والفكرية. لكن ظهر إجماعٌ عابرٌ للاصطفاف على حدة ذكائه ودهائه كما في مقال “كيسنجر المجرم… كيسنجر العبقري المنقذ” لسمير التقي، مما يدفع المرء إلى التساؤل عن أسباب هذا الصيت رغم مرور عقود على الحقبة التي لعب فيها أهم أدواره التاريخية، لا سيما أن هذا الانطباع غير مُقتصر على أصحاب الاطلاع المحدود، بل هو ممتد لقطاع عريض في الأوساط الأكاديمية التي ترى الرجل صاحب أفكار أصيلة وقلم لا تشوبه شائبة.

 

نظام عالمي جديد

سعى هنري كيسنجر في كتابه إلى تقييم النظام العالمي الحالي وتقييم كل المناطق الجغرافية التي تمتلك منظومة قيم مناهضة للنظام العالمي الوستفالي، الذي يُنسب إلى معاهدة ويستفاليا التي أنهت حرب الثلاثين عاما في الإمبراطورية الرومانية، التي طحنت أوروبا ودفعت كل الأطراف في نهاية المطاف إلى مخرج من “حرب الكل ضد الكل” (بلغة الفيلسوف توماس هوبز)، ومن خلال تقييم تلك المنظومات سعى للإجابة عن سؤال عما إذا كانت هذه المنظومات تهدد النظام العالمي فعلا، وطرح الخيارات الواجب اتخاذها من الدول الغربية، تحديدا الولايات المتحدة الأميركية، لوأد هذه المنظومات. وقد لخص كيسنجر بنية هذا النظام منذ وستفاليا 1648 وصولا لأيامنا عبر سرد تاريخي للأحداث والوقائع المفصلية التي شكلت عالم اليوم، مُقدما قراءة ثقافية لكل تلك المناطق والبلدان، كالصين وثقافتها واليابان والهند وروسيا والعالم الإسلامي والدول الأوروبية.

والنظام الوستفالي كما يشرحه وزير الخارجية الأسبق يقوم على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية وعدم جواز انتهاك الحدود، وسيادة الدول، وتشجيع القانون الدولي ودعمه، ويرى أن شروط النظام العالمي المعاصر هي التالي: “وحدات سياسية متعددة ليس فيها واحدة ذات قوة كافية لدحر الأخرى، وكثرة منها متبنية لفلسفات وممارسات داخلية متناقضة، بحثا عن قواعد محايدة لضبط سلوكها والتخفيف من الصراع”، والطريف في الأمر أن كيسنجر يرى “الأهمية الكونية الشاملة للنظام الوستفالي كامنة في طبيعته الإجرائية وهي حياديته إزاء القيم، فهو قائم على مبدأ توازن القوى”، ولا أدري كيف لعبارة كهذه أن تخرج من فم “العبقري” كيسنجر، فأي أهمية وديمومة لنظام لا يملك منظومة قيم؟

كما أن عددا من منظري المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية التي ينتمي إليها كيسنجر، كروبرت ستروز هربيه (Robert Strausz-Hupé)، يرون “ضرورة بناء وتطوير منظومة القيم الغربية حتى يكون هناك توازن فكري في النظام العالمي بين الدفاع عن القيم والدفاع عن الحياة في عصر أصبح فيه البقاء العضوي مصدر قلق لكثير من الأفراد”. إضافة إلى مسألة القيم، هناك نقد طويل على منظري الواقعية في ندرة تحديدهم لمفهوم “توازن القوى” في كتاباتهم، فأنيس كلود (Inis Claude) وإيرنست هاس (Ernst Bernard Haas) يرون أن هذا المفهوم يحمل ما لا يقل عن ستة معانٍ عند الواقعيين، وأن فائدة هذا المفهوم تصبح محدودة ما لم يحدد الكاتب مسبقا مفهومه لتوازن القوى، وكيسنجر في الكتاب الذي بين يدينا لا يحدد ما يقصده بهذا المفهوم على وجه التحديد، وبالتالي تصبح العبارة أقل أهمية في ظل غموضها. وفي نقد النظرية الواقعية يمكن العودة لكتاب “النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية” لجيمس دورتي وروبرت بالستغراف.

يوضح كيسنجر في كتابه أن هناك أربعة مشاريع أساسية كبرى في العالم: الأول هو المشروع الأوروبي الذي نتج عن التصارع والقبول القسري بالتعددية الناتجة عن توازن القوى، والثاني هو الإسلام الذي يقوم على علاقة مباشرة مع السماء عبر القرآن الكريم، والثالث هو الصين من خلال إرثها الثقافي الإمبراطوري، والرابع هو المشروع الأميركي الذي لم يقبل فقط باحتضان نظام القوى الأوروبي، بل استند إلى بلوغ السلام عبر نشر المبادئ الديمقراطية والحرية، نتحدث عن تصنيف دقيق ولافت؛ ثلاثة مشاريع أرضية مقابل مشروع سماوي.

يمكن إرجاع سبب الشهرة الفائقة التي حازها كيسنجر في العالم العربي إلى ما روجه عنه الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل الذي كان ينظر إلى المرآة ويرى نفسه كيسنجر، فكلاهما مثقفان كبيران ومستشاران يعبدان الطريق في الخفاء لخطوات الرؤساء، وكلاهما واقعان في غرام التاريخ الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. هكذا وصف هيكل كيسنجر في كتابه “الحل والحرب” المشحون بعاطفية جياشة في التعاطي مع الرجل. فمثلا، قال كيسنجر لهيكل مرة: “إن كلا منا يمر بثلاثة أطوار فكرية ونفسية، وهي أن يعد الواحد نفسه لدور ما، ثم أن يكون عنده ما يقوله حين يمسك بفرصته، وأخيرا يكون التحدي الذي يواجهه هو: كيف يؤدي دوره؟ وبأي أسلوب ضمن معطيات الواقع وظروفه؟”. وحاول هيكل على امتداد عشرات الصفحات أن يشرح كيف أعد كيسنجر نفسه لدوره، وكيف استعد لما قاله حين أمسك بفرصته، وكيف أدى دوره وبأي أسلوب. وتتبع هيكل كل تفصيلة في حياة كيسنجر، إلى درجة أنه تتبع الدفاتر الأصلية لبعض طلبة كيسنجر في جامعة هارفارد، ودرسها ليخرج منها بتصور كيف أصبح أستاذ مادة إدارة الأزمات السياسية في هارفارد مديرا للأزمات السياسية في العالم، بحسب وصف هيكل.

 

العالم العربي في قلب التغيير

لم يتوقف الحديث، في العقد الماضي، عن إعادة النظر في الخارطة السياسية للعالم العربي، وخصوصاً بعد تنحية صدام حسين، وتمكن القوات العسكرية الأميركية من الوجود في قواعد عسكرية دائمة في مناطق عربية مختلفة. وطالما قرأنا، في وسائل الإعلام، عن خطط لتقسيم المملكة العربية السعودية وسورية والعراق وغيرها إلى دويلات، واقتطاع مناطق من هنا لإضافتها إلى هناك، وكأن الإقليم بات قطعة حلوى، يسهل تقسيمها بسكين مطبخ، وفقاً لمتطلبات المرحلة.

يرى هنري كيسنجر، المستشار الأمني السابق للرئيسين الأميركيين ريتشارد نيكسون، وجيرالد فورد، ووزير الخارجية الأميركي (1973 – 1977)، إن هناك ضرورة للعودة إلى أفكار الأمير النمساوي كليمنس فينول مترينخ (1773 – 1859) ونهجه، وهو الذي وضع أسس العمل السياسي للدول الأوروبية العظمى وقواعده، إثر هزيمة نابليون بونابرت، ورسم بالاتفاق مع القادة الأوروبيين خارطة دول القارة الأوروبية، وتشمل اتفاقية فيينا تلك عدم العبث بحدود هذه الخارطة، من دون موافقة باقي دول المنظومة، ويعتبر الأمير النمساوي أفضل من طبق مبدأ المكيافيلية “الغاية تبرر الوسيلة”.

“تسعى رؤية كسينجر الأخيرة إلى وضع أسس جديدة لنظام عالمي جديد، يأخذ في الحسبان حالة عدم الاستقرار التي يشهدها العالم، في العقدين الأخيرين.”

وقصد كيسنجر بحديثه، الأوضاع المتفجرة في أوكرانيا، والخلاف الحدودي والأصولي مع روسيا الواقعة في أوراسيا “آسيا وأوروبا”، من دون أن تجد مكانها الطبيعي في القارتين، بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم، وخاضت حروباً عديدة مع دول القفقاس، وها هي، الآن، تعاني من صراع سياسي مع المنظومة الأوروبية، أدى أخيراً إلى اتخاذ حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية، ما أسفر كذلك عن إمكانية إغلاق الأجواء الروسية أمام حركة الطيران الأوروبي حال المضي في تنفيذ هذه العقوبات.

ويرى كيسنجر أن الولايات المتحدة هي المعنية، حالياً، بتقمص دور الأمير مترينخ، ولعب دور العراب العالمي، إذا أمكن استخدام هذا المصطلح “Global balancier”، وفقاً لمبادئ المكيافيلية ومحاولة إرضاء الأطراف كافة، بعيدًا عن المثالية الأميركية، والتي قدمت الفوضى العارمة ودوامة عنف مستمرة، حتى اللحظة في منطقة الشرق الأوسط، وفشل الحملات العسكرية الفجة في أفغانستان والعراق، من دون تحقيق الحد الأدنى من الأهداف الأميركية المرجوة، وعدم وضوح الرؤية السياسية بديلاً عن الديمقراطية الموعودة.

أمريكا هي التي أوجدت تنظيم القاعدة لمحاربة روسيا، وأعلنت الحروب ضد الإرهاب والتطرف من دون تحديد معنى الإرهاب، ومباركة إطاحة أنظمة عربية باسم الديمقراطية، والتردد في مواجهة أنظمة استبدادية دموية أخرى، ما أسفر عن ظهور تنظيماتٍ وحركاتٍ متطرفة، تسعى إلى تحقيق توازن الرعب في المنطقة، والاستفادة من الفوضى العقيمة غير الخلاقة في الشرق الأوسط. وتسعى رؤية كسينجر الأخيرة إلى وضع أسس جديدة لنظام عالمي جديد، يأخذ في الحسبان حالة عدم الاستقرار التي يشهدها العالم، في العقدين الأخيرين، وذلك في دراسته الجديدة المنشورة في مواقع إعلامية كثيرة بعنوان “New World Order”.

كيف يمكن للولايات المتحدة استعادة دورها شرطياً عالمياً، قادراً على تقديم المكافآت ومعاقبة المارقين الدوليين في ظل تنامي النفوذ الروسي الواضح في البلقان والشرق الأوسط “سورية وإيران”، وظهور قوى اقتصادية عالمية جديدة، كالصين والاتحاد الأوروبي! لم يذكر كيسنجر الآليات الممكنة لاستعادة الدور الأميركي المتردد، وفاقد المصداقية، إثر الدعم السياسي والعسكري المتواصل لإسرائيل في حروب الإبادة الجماعية لغزة ومحاصرة الشعب الفلسطيني، وقضم أراضيه من دون توقف وتوسيع المستوطنات، والاستهانة بالقوانين الدولية، مستفيدة من الفيتو والدعم الأميركي غير المحدود، أو المشروط. ويطرح كيسنجر كذلك ضرورة تحقيق التوازن بين المثالية الأميركية والاستراتيجية العالمية لإرضاء الأطراف كافة، طارحاً بذلك مثال انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام، بعد الانفتاح على روسيا، وبذلك أبقت أميركا على ثقلها وحضورها الدولي المؤثر في تلك المنطقة.

الدور الدبلوماسي الهادئ الساعي إلى إيجاد التوازن العالمي المقترح للولايات المتحدة الأميركية وفقاً لنظرية كيسنجر يبدو صعباً للغاية، وهي التي خاضت حروباً دموية في قارات عديدة، ولم تحرك ساكناً لدعم الحكومات المنتخبة ديمقراطياً في مصر ودول أميركا اللاتينية، لكنها لم تتوقف عن التغني، ليل نهار، بمبادئها الديمقراطية، وموقفها من الاحتلال الإسرائيلي واضح ومفضوح، باعتبار أن إسرائيل أكبر حاملة طائرات أميركية.

التحالف الذي أعلنته الولايات المتحدة مع دول عربية للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، أخيراً، باعتباره عميد الإرهاب في المنطقة، يدل على عدم فهم الأحداث والتغييرات الأصولية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. وقد تنامى تنظيم داعش، وتمكن من التحول إلى قوة عسكرية مؤثرة، وتضخم تعداد مقاتليه إلى نحو 30 ألف مقاتل “ضعف قوام جيش دولة الكويت، وأكبر من قوام جيش دولة أوروبية، مثل بلغاريا”، عدا عن الانتماء العقائدي للمنتمين إلى داعش، ما يجعلهم أكثر جرأة واستعداداً للقتال والموت في ساحة المعركة، وخصوصاً في سورية، لأن شروط بقائهم ونجاح مقاومتهم أفضل منها في العراق التي ما تزال تتمتع بجيش نظامي ومقاومة كردية في الشمال. هذا التحالف يدل على عدم وجود إرادة، أو رغبة سياسية، بعيدة الأمد لحل مشكلات منطقة الشرق الأوسط، وتفضيل التدخل المرحلي المؤقت بين حين وآخر، البديل السهل عن البحث عن الأسباب التي أدت إلى ظهور قوة داعش وتناميها بهذه السرعة، علماً أن هزيمة هذا التنظيم على الأرض من الجو فقط صعبة، وهو الذي يعتمد استراتيجية حرب الشوارع والأزقة والجحور، ويتقن أساليب الفر والكر والترويع وقطع الرؤوس، ورفع مستوى المواجهة العقائدية مع الغرب بإعدام الصحافيين واحداً تلو الآخر، غير عابئ بالتهديدات الأميركية والبريطانية، مع استمرار انضمام آلاف الأوروبيين إليه.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى