عمر باحنيني.. ابن الوزير الذي ناضل من أجل ضحايا انقلاب الصخيرات
أولاد خدام الدولة.

عرفت عائلة باحنيني بولائها المطلق للعرش، وكان الملك الحسن الثاني يعتمد على محمد باحنيني ويثق به، خاصة وأنه أستاذ للملك، تولى الوزارة منذ بداية عهد الحسن الثاني إلى أن وافاه الأجل المحتوم، تولى الأمانة العامة للحكومة لمدة طويلة، كما تولى وزارة العدل ووزارة الثقافة، ثم وزارة الدولة، وهو الوزير الذي كان يشرف على المصالح الملكية من الناحية الإدارية والمالية، وظل اسمه مرتبطا بمهمة الإشراف على تربية ولي العهد، بل إن الملك الراحل الحسن الثاني أصر على تكليفه بصياغة الخطب الملكية والرسائل وخطاب العرش، وكان يكلفه بالمهمات الخاصة السرية على مستوى مجلس الحكومة وهو المؤتمن على أسرار القصر والحكومة والوزراء.
أما شقيقه الأكبر أحمد باحنيني فظل اسمه مخلدا في أبرز القاعات التابعة لوزارة الثقافة بالرباط، إذ ارتبط هذا الاسم بالحادث المأساوي لمحاولة الانقلاب على الملك الحسن الثاني في قصر الصخيرات، التي قادها الكولونيل أحمد اعبابو، يوم 10 يوليوز 1971، وأودت بحياة أحد أبرز السياسيين المغاربة، أحمد باحنيني، الذي كان يشغل حينها منصب الرئيس الأول للمجلس الأعلى، فيما نجا شقيقه محمد بأعجوبة، بعدما انتهت المداهمة الدرامية بمقتل العشرات من الضيوف، منهم أفراد من الحرس الملكي وشخصيات سياسية، بينهم أحمد باحنيني الذي كان عمره حينها 62 سنة، إذ فارق الحياة برصاص الانقلابيين العشوائي دون نية تصفيته.
الأخوان باحنيني.. ماتا وهما يحملان الصفة الوزارية
كان ابن مدينة فاس يسمى الفقيه، وكان مناضلا، حيث اعتقل من طرف المستعمر الفرنسي سنة 1944 لتوقيعه وثيقة المطالبة بالاستقلال الشهيرة، قبل أن تتحول الأحداث ويحصل المغرب على استقلاله، ليتحول باحنيني إلى موظف بالمحكمة الابتدائية بفاس، بينما أحمد باحنيني (1909 – 1971) فقد كان سياسيا مغربيا وخبيرا قانونيا في عهد الملك الحسن الثاني. شغل منصب الوزير الأول بين 13 نونبر 1963 و7 يونيو 1965. كما شغل منصب رئيس المحكمة العليا.
كان أحمد باحنيني يسكن في منزل بين القيادة العليا للجيش والإذاعة الوطنية وسط العاصمة الرباط، وكان هذا الموقع الحساس لبيته سببا في اعتقال أخيه امحمد باحنيني، الذي كان وزيرا للدفاع يوم الانقلاب، وعندما جاء لإخبار زوجة أخيه بموته، وجد عناصر من الانقلابيين يحتلون المنطقة، وعندما حاولوا استفساره عن هويته نطق سائقه وهو على ما يظهر رجل أمي، وقال لهم: كيف تجرؤون على منع معالي وزير الدفاع من المرور؟ فأجابوه إنها فرصة ذهبية، إننا نبحث عنه، فاعتقلوا وزير الدفاع وساقوه إلى الإذاعة، حيث “كادوا أن يعدموه لولا أنه استطاع إنقاذ نفسه بالكلام المعسول والبيانات المقنعة التي كان يدلي لهم بها، وفعلا كان الوزير الأديب الذي أنقذه لسانه من الإعدام”، كما أشار مصطفى العلوي في كتابه: “الحسن الثاني الملك المظلوم”. إلا أنه سيموت إثر مرض عضال.
وعلى الرغم من مكانة الفقيد أحمد باحنيني إلا أنه لم يحظ وهو ميت بجنازة تليق به، ربما لموقع بيته قبالة القيادة العليا للجيش والتي كانت تعرف في تلك الأثناء حالة استنفار قصوى. علما أن الرجل سبق له أن شغل منصب وزير أول على رأس الحكومة السابعة في تاريخ المملكة.
عمر يعاين جثة والده المقتول
يتذكر عمر هذه الفاجعة في حوار مع مجلة “زمان”، وكان الولد يبلغ من العمر 16 سنة، حيث كان إلى جانب شقيقه الأكبر في شاطئ الصخيرات غير بعيد عن مكان الانقلاب، وتحديدا في المكان الذي يتواجد فيه الآن فندق “لامفيتريت”، كانت أجواء الصيف تغري بالسباحة وكان الناس يتقاطرون على شاطئ الصخيرات، قبل أن يسمع دوي الرصاص من جهة القصر ويشرع الناس في الانسحاب من الشاطئ لاسيما بعدما شوهد كثير من الناس وهم يركضون من شاطئ القصر في اتجاه البحر في محاولة للإفلات من القصف العشوائي، لم يكن يعلم أن والده قد قتل غير بعيد عنه وأن جثته ملطخة بالدماء.
قرر عمر وشقيقه مغادرة المكان والتوجه إلى البيت لإشعار والدتهما بالنازلة، وفي الطريق ستظهر لهم معالم حدث جلل، خاصة وأن والدته التي كانت تشتغل في الإذاعة الوطنية عاشت عن قرب تطويق هذه المؤسسة من طرف الجنود قبل اندلاع الانقلاب بساعات.
في مساء نفس اليوم لم يعد الوالد إلى بيته ولا سائقه الخاص، وتبين أنه مات برصاص انقلابي كان يقصف قصف عشواء، وربما لم يكن يعرف شخصية باحنيني أصلا.
لقد كانت جنازة رئيس المجلس الأعلى، أحمد باحنيني أصغر الجنائز وأقلها حشودا، ذلك لأن بيته كان بين نارين من نيران الانقلابيين، بين الإذاعة والقيادة. وفي اجتماع للحكومة وقف وزراء حكومة عز الدين العراقي لقراءة الفاتحة ترحما على الفقيد وقد انهمرت الدموع من عيون الحاضرين في مشهد مؤثر.
عمر باحنيني.. مناضل في جمعية ضحايا الصخيرات
لم يختر عمر سبيل والده، ولم يدخل السياسة ولم ينجذب بالاستوزار، بل اشتغل كإطار بنكي إلا أن شغله الكبير هو مصير أبناء ضحايا انقلاب الصخيرات. لاسيما وأنه ألقى نظرة على جثة والده وهو شاب يافع جعل آثارها راسخة إلى الأبد في ذهنه.
بالرغم من انشغالاته السابقة كإطار بنكي وإشرافه على مرفق سياحي، إلا أن اهتمامه الكبير كان منحصرا على معاناة أسر ضحايا الانقلاب الأبرياء الذين حلوا بالقصر ضيوفا في أبهى الحلل وغادروه ملفوفين في أكفان، فضلا عن الضباط والحراس والموظفين والعاملين في القصر الذين لقوا حتفهم في يوم عيد.
ناضل عمر باحنيني وصديقه محمد المعزوزي العامل السابق، والذي فقد ابنه الأكبر في الانقلاب بعدما درس في جامعة السوربون بفرنسا، وعاد معينا من طرف الملك الحسن الثاني في كتابته الخاصة، من أجل حقوق الضحايا، ونجحا بعد طول معاناة إدارية بالخصوص من خلق جمعية أطلق عليها اسم “جمعية ضحايا أحداث الصخيرات”.
بعد سنوات من الاحتجاج، تمكنت الجمعية من إقناع السلطات بإقامة نصب تذكاري يحمل أسماء عدد من الذين قضوا في انقلاب الصخيرات سنة 1971، وهو النصب الذي يحمل اسم أزيد من 80 ضحية، عند مدخل مقبرة الشهداء بالرباط.
وبعد الإفراج عن المعتقلين السابقين في سجن “تازمامارت” في بداية التسعينيات، وإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة لطي صفحة الماضي وتعويض المعتقلين الذين حوكموا ببضع سنوات ثم وجدوا أنفسهم معزولين مدى الحياة، قبل أن يقرر الملك الراحل فتح أبواب السجن أمام العالم كله. في هذه اللحظة عرف الرأي العام أن لانقلاب الصخيرات وجها آخر ظل منسيا، يتعلق بعائلات المسؤولين والضباط والحراس والموظفين والعاملين في القصر الذين قتلوا خلال الهجوم الانقلابي، وقد ظلت هذه الأسر تلتزم الصمت تقريبا طيلة الفترة ما بين الانقلاب والإفراج عن معتقلي الصخيرات.
لم تستوعب الجمعية أن يتم تعويض من تسميهم بـ”القتلة” بمئات الملايين من الدراهم وأن يتم الإفراج عنهم، وألا يؤخذ برأيها في الموضوع، وهو ما دفع الجمعية، إلى اللجوء إلى دار الإفتاء التابعة لجامع الأزهر بالقاهرة لاستصدار فتوى حول النازلة، بعدما امتنع المجلس العلمي الأعلى بالمغرب عن البت في الموضوع، وجاءت الفتوى لتعتبر سجناء تازمامارت السابقين “قتلة وتؤكد أن هؤلاء يجب أن يقضوا عقوبة السجن مدى الحياة”.
وقد أثار هذا الموضوع جدلا واسعا في الوسط السياسي، ما دفع عمر باحنيني إلى الرد على مضامين كتاب أحمد المرزوقي “الزنزانة رقم 10″، في بعض الصحف المغربية.





