حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

عملية عسكرية فرنسية سرية استهدفت شفشاون سنة 1925

نفذها 17 طيارا أمريكيا بدون علم حكومة بلادهم

يونس جنوحي

 

17 شتنبر 1925..

توصل القنصل الأمريكي في طنجة الدولية ببرقية عاجلة: عملية جوية ضربت مدينة الشاون نفذتها طائرات فرنسية.

مع الظهيرة، جاءت برقية أخرى: الطائرات الفرنسية كان يقودها 17 طيارا أمريكيا!

في اليوم الموالي، حصل الأمريكيون على كل التفاصيل، ووصل التقرير إلى واشنطن.

وزير الخارجية الأمريكي أعلن أن بلاده سوف تؤدب طياريها الذين شاركوا مع الجيش الفرنسي، وأكد للصحافة أن هؤلاء الطيارين لا يعملون في صفوف الجيش الأمريكي، وإنما هم طيارون سابقون سبق لهم المشاركة في الحرب العالمية الأولى.

التقرير الأمريكي الرسمي توعد الطيارين بسحب الجنسية الأمريكية منهم، لأنهم شاركوا في حرب ليست بلادهم طرفا فيها..

لاحقا، عرفت هذه الفرقة بـ«المرتزقة» الأمريكيين، بعد أن عرضوا خدماتهم مرات أخرى على الحكومة الفرنسية، لكي ينفذوا عمليات في إطار ما عرف لاحقا بـ«حرب العصابات»، أو «الباحة الخلفية» للجيوش النظامية.

قُصفت مدينة شفشاون، دون أن يخسر الفرنسيون جنديا واحدا، وكان سبب تدخل فرنسا، ما أسمته حكومتها في ذلك الوقت «تحرش» قوات محمد عبد الكريم الخطابي بقواتها في منطقة الشمال، في إطار حرب الريف التي كانت مستعرة بين قوات الخطابي والجيش الإسباني.

 

مايكل سويني.. طيار أمريكي متقاعد عرَضَ «خدماته» على فرنسا

 

في شهر مارس سنة 1925، كان الطيار الأمريكي المتقاعد «تشارلز مايكل سويني»، يمر بمشاكل مادية.. لم يكن لديه ما يجعله يعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتقول بعض الشائعات إن ديونا متراكمة وشكاوى، كانت سبب عدم عودته إلى أمريكا. بدل ذلك، اختار البقاء في فرنسا، متجولا بين الفينة والأخرى في بقية دول أوروبا بحثا عن وظائف تتعلق بما يُتقنه: «الطيران العسكري».

التقى هذا الطيار مع بعض المسؤولين العسكريين الفرنسيين، وعرض عليهم خدماته، دون أن يُدرك أن فرنسا كانت في الوقت نفسه تبحث عمن ينفذ عمليات قذرة، دون علم الحكومة الفرنسية.

إذا شارك طيارون رسميون من الجيش الفرنسي في بعض العمليات، فإن الأمر كفيل بجر مسؤوليهم العسكريين إلى المحاكمة. لكن إذا تعلق الأمر بتوظيف من يقوم بالمهمة، فإن العملية قد تدخل في إطار العمليات السرية، لدواع أمنية ودفاعية، إلى أن تتقادم. هكذا كان ينظر المسؤولون الفرنسيون إلى الأمر.

في أواخر شهر ماي ، اتفق الطيار مايكل سويني، مع القادة العسكريين في سلاح الجو الفرنسي، على عملية سرية، سوف تُنفذ في شمال إفريقيا، ولم يكن سويني في تلك المرحلة يعرف أن الأمر يتعلق بمدينة شفشاون.

في شهر يونيو، تكلف «سويني» رسميا بمهمة تشكيل فريق من الطيارين المتقاعدين ممن شاركوا في الحرب العالمية الأولى، وبعث إلى أزيد من ثلاثين طيارا ممن يثق بهم، ويعلم جيدا أنهم تقاعدوا ويعيشون وقتها في سنة 1925، فوق تراب الولايات المتحدة الأمريكية.

توصل «سويني» بـ17 ردا، على مجمل الرسائل التي وجهها إلى أصدقائه. وهؤلاء أكدوا له المشاركة، واتفقوا معه على نقطة للقاء في فرنسا، بعد أن نجح في إغرائهم بالمال، ولم يقدم لهم تفاصيل عن العملية الجوية «الغامضة».

بحلول شهر يوليوز، وصل 12 طيارا أولا إلى فرنسا، والتقوا بمدبر العملية «سويني» الذي لم يكن نفسه يعرف التفاصيل، وكل ما كان يتوفر عليه: «وعد من فرنسا بدفع المال بسخاء لتنفيذ قصف جوي في مكان ما».

في شهر يوليوز دائما، جُند هؤلاء المشاركون وعددهم 17 طيارا، منهم من خدموا إلى جانب الطيران الفرنسي في الحرب العالمية الأولى بشكل نظامي، بينما آخرون شاركوا في الحرب العالمية الأولى، لكنهم لم يسبق لهم التعامل مع الفرنسيين.

التحق هؤلاء الطيارون الأمريكيون، دون علم الحكومة الأمريكية، بحكم أنهم كانوا قد غادروا الخدمة العسكرية في ذلك الوقت، ولم يعد يربطهم بسلاح الطيران الأمريكي أي علاقة، بفرقة عسكرية جوية فرنسية خاصة أحدثت خصيصا لهذه المهمة، لكن لم يشارك فيها طيارون فرنسيون، وبقيت الفرقة سرية. ولم يكن يعلم بأمرها سوى رئيس الوزراء الفرنسي، ووزير الدفاع، وكبار مسؤولي الطيران العسكري الذين نسقوا للعملية.

حسب الأرشيف الرسمي، فإن الفكرة عرضها الطيار الأمريكي «سويني» ووافق عليها رئيس الوزراء، بعد اجتماع لم يستمر سوى دقائق قليلة. بينما تقول مصادر أمريكية إن الفكرة كانت فرنسية استُقطب لها هذا الطيار الفرنسي، بحكم علاقاته السابقة مع مسؤولين فرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى، وإدراكهم براعة الطيارين الأمريكيين وقدرتهم على إصابة الأهداف بدقة.

استفاد الطيارون الأمريكيون المشاركون من تدريب سري في الجنوب الفرنسي، استمر لأسبوعين، تدربوا خلالهما على المناورات الجوية وإصابة الأهداف والمناورة، وتجنب البنادق والمدافع المضادة للطائرات. بحكم أن هؤلاء الطيارين الأمريكيين تقاعدوا، رغم أنهم كانوا في سن الشباب، ولم يكن هناك داع لاستمرار عملهم في الطيران الأمريكي، ولم يشاركوا في عملية قصف منذ 1917.. وكان لا بد من أن يتدربوا على أجواء القصف واستعمال الطائرة، من جديد.

كان الفرنسيون يتوقعون أن يستعمل أفراد القبائل الثائرة ضد فرنسا مدافع مضادة للطائرات، سبق لهم «الاستيلاء» عليها غنيمة مواجهات ضد الجيش الإسباني والفرنسي أيضا، في سياق الحرب الأولى بعد 1912.

انتهى التدريب واتجه الطيارون، مع بداية شتنبر، إلى المغرب، لتنفيذ المهمة التي كانت محاطة بكثير من السرية.

 

هذه فرقة «المرتزقة» الأمريكيين الذين قصفوا الشاون

 

يوم 17 شتنبر 1925، كان يوما لا ينسى في مدينة «الشاون»..

بلدة هادئة ووديعة، حتى الذين قصفوها وحولوا أجواءها الصافية إلى كتلة من الدخان الرمادي، شهدوا أنها كانت أكثر الأماكن التي شاهدوها في حياتهم هدوءا ودعة..

في ذلك الصباح، كان سكان الشاون ملتهين بأشغالهم اليومية، إلى أن تناهى إلى سمعهم هدير محركات الطائرات الفرنسية، الذي مزق الأجواء.

هذا «الأزيز» المزعج، تلاه صوت انفجار قوي، سرعان ما تلته أصوات انفجارات أخرى متتالية سببها القنابل التي سقطت فوق المنازل المتفرقة، ألقتها 17 طائرة خفيفة.

سرعان ما استوعب الأهالي أن الأمر يتعلق برد عسكري، لكنهم لم يتوقعوا أن تكون فرنسا وراءه.

فقد كانوا يعرفون أن قوات المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي دخلت في مواجهة مع الجيش الفرنسي في أحد المواقع الريفية، في الوقت نفسه الذي كان فيه الإسبان في قمة حنقهم من الهزائم التي تسبب فيها المقاتلون المغاربة المنتمون إلى قوات الخطابي.

لم يستوعب المغاربة ما وقع إلا بعدما انتهى القصف.

استنكر الأمريكيون مشاركة مواطني بلادهم في حرب لا علاقة للولايات المتحدة بها، لكن الأمر كان قد تم.

أشهر هؤلاء الطيارين الأمريكيين هم:

-العقيد «سويني» الذي كان قائدا للفرقة السرية.

-القائد بول روكوال.

-جيمس ساسون.

-دونالد جيبني.

-جيمس سباركس.

وهؤلاء كانوا من أشهر الطيارين الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى الطيار «بول روكويل»، الذي كتب مذكراته بعنوان «War Letters»، أي رسائل الحرب، وفضح فيها لأول مرة تفاصيل مشاركته في قصف الشاون، وبدا واضحا من خلال مضمون رسالة واحدة من جملة الرسائل التي نشرها عن الحرب العالمية الأولى، أن أغلب المشاركين تملكهم الندم عندما قصفوا الشاون. فقد كانوا يتوقعون أن يجدوا أنفسهم في ساحة حرب يدخلونها لتقديم العون للجيش الفرنسي، لكنهم وجدوا أنفسهم يحلقون فوق بلدة هادئة، تحيط بها طبيعة خلابة، وظهر لهم من الجو مزارعون محليون مسالمون يرعون دوابهم وحقولهم، قبل أن يلقوا فوق رؤوسهم قنابل تزن الأطنان، زلزلت أرض شفشاون.

 

واشنطن رفضت أن يضرب طياروها أرضا مغربية وهددت بسحب جنسيتهم

عندما وصل خبر مشاركة فوج من الطيارين الأمريكيين «المتقاعدين»، من الفوج المشارك في الحرب العالمية الأولى في قصف مدينة «الشاون» الهادئة، إلى واشنطن، ضُربت الطاولات وارتفعت حرارة أسلاك الهاتف..

حتى أن أرشيف الخارجية الأمريكية اليوم، لا يزال يضم أرشيف المراسلات من مكتب الخارجية في واشنطن، إلى مكتب القنصل الأمريكي في مدينة طنجة الدولية، في أواخر شهر شتنبر 1925.

إحدى المراسلات جاء فيها أن الخارجية تبحث قرار سحب الجنسية الأمريكية من الطيارين.

ستيف ماكواير، أحد موظفي الخارجية الأمريكية في واشنطن، والذي كان من بين المسؤولين عن مكتب شمال إفريقيا، ومصلحة الاتصال في الخارجية، نقل رسالة غاية في الأهمية إلى القنصل الأمريكي. ومن أقوى ما جاء فيها: «إن واشنطن تُدين بشدة مشاركة طيارين أمريكيين في قصف مدينة صغيرة توجد في قلب منطقة لا نزاع لديها مع الولايات المتحدة الأمريكية. إن واشنطن لن تقبل أن توظف صورتها في قلب موازين حرب دائرة منذ سنوات، في شمال إفريقيا. ويتعين على المشاركين في هذه العملية أن يتحملوا وحدهم العواقب».

الأمريكيون توعدوا بسجن أعضاء فرقة الطيارين المشاركين، والذين اتضح لواشنطن بعد فتح تحقيق موسع، أنهم تحولوا إلى «مرتزقة»، يقدمون خدمات عسكرية لمن يدفع أكثر.

نشرت الصحف الأمريكية مقالات اختلفت بين إدانة التصرف الذي أقدم عليه طيارون يحملون الجنسية الأمريكية، وبين مؤيدين لما قاموا به.

المؤيدون اعتبروا أن هؤلاء الطيارين أبطال يجب تكريمهم، لأنهم يشاركون في حرب تدافع عن مصالح الإنسان الأوروبي الذي شكل نواة الولايات المتحدة الأمريكية. بينما المعارضون اعتبروا أن الفعل الذي أقدم عليه هؤلاء الطيارون لا يمثل روح فلسفة الإنسان الأمريكي المعاصر، وإنما يمثلون أنفسهم فقط، خصوصا وأنهم شاركوا في القصف لأهداف ربحية، ولم يكن يهمهم سوى التعويض المادي الذي سوف يحصلون عليه من الجيش الفرنسي.

 

 

 

طيار أمريكي وصف المشاركين في القصف بـ«الأغبياء»

لكن أطرف ما نقلته الصحافة الأمريكية في الموضوع، ما نشرته مجلة محلية كانت تصدر في ذلك الوقت، تحمل عنوان «إليسترال»، حيث نشرت رسما توضيحيا يحاكي عملية قصف مدينة الشاون، وأسفل الرسم مقالا مقتضبا، هو في الحقيقة شهادة من طيار أمريكي متقاعد. ومن أقوى ما جاء في المقال: «أنا طيار متقاعد شاركت في الحرب العالمية الأولى، في أوروبا. وأدرك جيدا ماذا يعني أن تشارك في عملية جوية، في شمال إفريقيا. لقد تحالفنا مع الفرنسيين والبريطانيين لمواجهة معسكر العدو. ولم يترددوا في جرنا إلى عمليات خارج أوروبا، وبالضبط في شمال إفريقيا. لكننا لم نستعمل القوة في العمليات الجوية، وحاولنا جعلها استطلاعية فقط. حتى رؤساؤنا الأمريكيون أكدوا علينا ألا نستعمل القوة، وأنه يتعين علينا تلقي التعليمات منهم فقط، وليس من البريطانيين أو الفرنسيين.

وعندما انتهت الحرب سنة 1918، عدنا جميعا إلى الولايات المتحدة.

أعتقد أن هؤلاء الطيارين الذين شاركوا في قصف موقع في شمال إفريقيا لصالح الجيش الفرنسي، لديهم مشكل مادي في الولايات المتحدة ورأوا أن الحرب، الدائرة حاليا في شمال إفريقيا وفي شرق آسيا، قد تدر عليهم بعض الأرباح.

لو أنهم استمعوا فقط إلى نصيحتي، فقد نصحت طيارين زملاء شاركوا معي في الحرب بأوروبا، بأن يبحثوا عن مورد عيش مضمون. أنا مثلا، أشتغل في رش المحاصيل الزراعية بالمبيدات، وجدول المواعد عندي مزدحم، طيلة الأشهر الثلاثة المقبلة. أجني عائدات مهمة، وحاليا أبحث عن توظيف طيارَين إضافيين معي، لكي نلبي كل الطلبات. كل ما يتطلبه الأمر، التحليق بالطائرة لنصف ساعة، وجني أجرة موظف في أسبوعين كاملين. في ولاية أريزونا، يوجد طيار متقاعد يقدم خدمات ترفيهية، ويوميا يصطف عشرات الأطفال والبالغين، لكي يأخذهم في جولات بالطائرة لمشاهدة الغروب.. لماذا لم ينتبه هؤلاء الطيارون إلى كل هذه الفرص في الولايات المتحدة، واختاروا أن ينضموا إلى الحرب مجددا؟ مع كل احترامي، أعتقد أنهم أغبياء».

من بين ما جاد به أرشيف الصحافة الأمريكية أيضا، مقالات وقعها طيارون سابقون تحدثوا فيها عن ذكريات المشاركة في الحرب العالمية الأولى، ونددوا بتحول طيارين أدوا قسم الشرف إلى «مرتزقة»، حولوا «حِرفة» الطيران العسكري إلى ما يشبه حرب عصابات، خصوصا وأن استعانة الفرنسيين بهذه الفرقة الأمريكية لم يكن في إطار قانوني، ولم يكن أيضا قرارا سياسيا.

ومن أقوى الشهادات التي نشرت في هذا الصدد، تلك التي تعود إلى ضابط متقاعد في الطيران، شارك في الحرب العالمية الأولى، وأصيب على إثر سقوط طائرته سنة 1917. يقول هذا الطيار «س. و ماكينزي» إن الانتماء إلى سلاح الطيران الأمريكي شرف ما بعده شرف، وإن مشاركة فيلق من الطيارين في أوروبا كان تشريفا للولايات المتحدة الأمريكية جمعاء، وتأكيدا للصداقة مع بريطانيا، ولم تكن وراءه أي أهداف أخرى، وإنه يتأسف لأن زملاء له سبحوا ضد التيار، وقدموا خدمات مؤدى عنها للجيش الفرنسي، الذي لم تكن تربطهم أي صداقة بمجنديه أو طياريه.

يتساءل صاحب المقال: «لماذا نحن؟».. ويقول لماذا لم ترسل فرنسا طياريها، لكي يقصفوا منطقة التماس بينهم وبين إسبانيا؟ ودعا إلى تأمل تداعيات العملية، خصوصا وأن التوتر الفرنسي الإسباني كان وقتها قد تبدد نسبيا.

كان الأمريكيون يدركون أن دخول فرنسا في عمليات عسكرية في منطقة شمال المغرب، كان بسبب الهجوم الذي شنه محمد عبد الكريم الخطابي على قوات فرنسا، إثر توصل الخطابي بأخبار مفادها أن إسبانيا تستعد للتحالف مع فرنسا ضده في الريف، فأراد أن يوجه ضربة استباقية للفرنسيين.. لكن الأمر تحول في الأخير إلى ذريعة مجانية أمام فرنسا لتبرر عملية عسكرية عنيفة وجهتها إلى المغرب، دون أن تقحم طيرانها في الأمر..

لقد كان الأمريكيون يرون في الخطوة الفرنسية «لؤما» عسكريا، وتلطيخا لسمعة الطيران الأمريكي الذي حاز بطولات خلال الحرب العالمية الأولى.. لذلك لم يتقبل أغلبهم مشاركة زملائهم في عملية من هذا النوع، لضرب المدنيين العُزل في بلدة هادئة مثل «الشاون».

 

 

المولى يوسف احتج والمولى عبد الحفيظ حزن في منفاه

عندما كانت الحرب دائرة في الريف بين قوات الخطابي والجيش الإسباني، كانت فرنسا تضرب نوعا من العزلة بين داخل المغرب وحدود منطقة الريف، في إطار اتفاق مسبق بين الإسبان والفرنسيين، حتى يعزلوا سكان الريف في المنطقة، ويضمنوا عدم تلقيهم للمساعدات.

كان السلطان مولاي يوسف سنة 1925، يعيش عزلة إدارية حقيقية فرضها عليه الفرنسيون. وأحد الذين عاشوا تفاصيل هذا العزل، هو صديق السلطان ومستشاره «اعبابو»..

كان لاعبابو أصدقاء فرنسيون في الدار البيضاء، ونقلوا إليه بعض الأخبار، قبل قصف مدينة الشاون، تفيد بأن فرنسا لن تتردد في استعمال القوة الجوية التي اشتهرت بها في الحرب العالمية الأولى، لحسم أي معركة لصالحها في المغرب، خصوصا إذا أحس قادة الجيش أن قوة أجنبية أخرى قد تشكل تهديدا على نفوذ فرنسا، الذي ضمته بموجب معاهدة الحماية.

في وثائق مكتب القنصل الأمريكي في طنجة الدولية لسنة 1925، والتي أرسلها المكتب إلى مقر الخارجية في واشنطن، توجد وثيقة تحمل الرقم 118-11، وهذه الوثيقة نقلت ما دار بين مستشار السلطان وصديقه، وبين موظفين فرنسيين في الإقامة العامة الفرنسية في الرباط. أما كيف وصلت المعلومات إلى القنصل الأمريكي في طنجة، فإن الأمر يعود أساسا إلى وجود عملاء ميدانيين في الدار البيضاء بعد الحرب العالمية الأولى، كانت مهمتهم الاختلاط مع المسؤولين الفرنسيين ورجال المخزن المرموقين، وإرسال تقارير منتظمة بشأنهم إلى المفوضية الأمريكية في طنجة.

مما جاء في التقرير أن السلطان مولاي يوسف غضب، عندما تناهى إلى علمه خبر تنفيذ القصف الجوي على مدينة الشاون. وكان أول سؤال طرحه على الشخص الذي نقل إليه الخبر: «هل مات الناس هناك؟»، بدا واضحا أن السلطان كان يريد أن يعرف إن أخلى الفرنسيون المدينة من السكان أولا قبل قصفها -كما هو الشأن في عدد من المعارك- أم أن الهجوم كان مباغتا. لكن السلطان لم يحصل على جواب في الحين، إلى أن صدر التقرير الفرنسي «المزهو» بالانتصار..

مما جاء في التقرير أيضا، أن السلطان مولاي يوسف احتج لدى المقيم العام، واعتبر أن القصف لم يكن ضروريا، وأن فرنسا بإمكانها التفاوض، سواء مع الإسبان، أو مع القبائل دون اللجوء إلى القصف بالطائرات. لكن احتجاج السلطان لم يكن مكتوبا، بل حمله موظف من الإقامة العامة الفرنسية، إلى المقيم العام.

أما السلطان المخلوع المولى عبد الحفيظ، والذي كان سنة 1925، قد أصبح بدون أصدقاء فرنسيين، وانفضوا من حوله بعد أن أحسوا أن توقعاتهم بشأن ثروته المالية لم تكن صائبة بالمرة، فقد ندد فعليا بالقصف. وكان قد علم بالخبر من الصحف والإذاعة الفرنسية. وكتب إلى أحد علماء القرويين من أصدقائه في مدينة فاس، رسالة مطولة استنكر فيها القصف، وأظهر حزنا وتأثرا وتعاطفا مع سكان شفشاون والمغاربة عموما، وسأل صديقه في فاس عن تداعيات العملية العسكرية وتأثيرها على أهالي الشاون، وما إن كان أحد أصدقاء السلطان -من علماء الشاون- قد أصيب أو «استُشهد» خلال العملية.

رغم استنكار المولى عبد الحفيظ ما وقع في الشاون، إلا أن موقفه لم يصل أبدا إلى صفحات الصحافة الفرنسية، أو هُمش منها على الأقل، ببساطة لأن الفرنسيين لم يكونوا يرغبون في سماع صوت سلطان أزيل عن العرش ونفي إلى خارج بلاده.

خبر رسالة المولى عبد الحفيظ إلى صديقه في فاس انتشر بين شخصيات من جامع القرويين، وتملك أغلبهم الفضول لمعرفة ما يفكر فيه السلطان السابق الذي وقع معاهدة الحماية. وعندما وصل خبر رسالته إلى موظفي الإقامة العامة الفرنسية في الرباط، تمت الإشارة إليه في تقرير القنصل الأمريكي في طنجة، وبدا واضحا من لغة التقرير أن أفكار السلطان السابق لا تهم موظفي الإقامة العامة، ولا المقيم العام شخصيا.. فقد كانوا مُدركين أن رسالة منه لن تجمع الناس لاتخاذ أي قرار، قد يشكل خطرا على سياسة فرنسا في المغرب.. أفكار المولى عبد الحفيظ كانت معروفة لدى الفرنسيين، والقصف – كما ظهر لاحقا- كان مخططا ناجحا أضعفت فيه فرنسا القبائل، ورسمت بموجبه «الملعب» مع إسبانيا في المستقبل.

 

 

عندما أخطأ الريسولي خلال حرب الريف وأساء تقدير «قوة» فرنسا

بدا واضحا من خلال مذكرات الشريف الريسولي، أحد صُناع تاريخ منطقة شمال المغرب خلال حرب الريف، في النصف الأول من عشرينيات القرن الماضي، والتي نقلتها المغامرة الأوروبية «روزيتا فوربس» وأصدرتها في كتاب، بعد أن سجلت معه أحداث وذكريات حياته طيلة أسابيع، خلال إقامتها في قصره بمنطقة تازروت، بعد انتهاء الحرب بطبيعة الحال.. بدا واضحا أن الرجل كان يحذر فرنسا، ويقدر قوتها العسكرية ويعي جيدا أن عتادها يفوق عتاد إسبانيا، التي تحالف معها في وقت من الأوقات.

قال الريسولي عن المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي إنه لم يكن حكيما عندما احتك بالفرنسيين، لكنه هو نفسه يعترف في هذه المذكرات بأنه اعتقد أن التحالف مع إسبانيا كفيل بنُصرته على مواجهة جيش فرنسا..

لم يكن الريسولي واعيا أنه في سنة 1925، لن تتردد فرنسا في قصف «الشاون»، المدينة الروحية التي طالما حاول هو نفسه أن يُجنبها الدخول في مواجهاته ضد إسبانيا بالسلاح، قبل أن يتحالف مع المقيم العام الإسباني الذي صار صديقا حميما له.

تحكي روزيتا فوربس عن سياق مواجهة الريسولي مع فرنسا، في كتابها: «الريسولي.. سلطان جبالة»، في ترجمة حصرية سابقة لهذا الكتاب على صفحات «الأخبار»:

«بعد احتلال سوق الثلاثاء، جاء سيلفيستر لرؤيتي في أصيلة. جاء مع رجل يُدعى أوليفا، ومعه ثمانية رجال آخرين. وقد استقبلتهم بحفاوة وتشريف كبيرين. وخرجت إلى مشارف البلدة لاستقبالهم. كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها الكولونيل. ومثل «زوگاسطي»، كان ينظر إلى عيني مباشرة، لكنه كان يتحدث بشكل سريع.

أذكر أنه أحضر إليّ خمس بنادق نارية، وهي أفضل هدية يمكن أن تقدمها إلى مغربي، وشكرني على المساعدة التي قدمتها إليهم، وأكدت له أنني سوف أكون في خدمته دائما.

تحدثنا عن أمور كثيرة، لكننا كنا معا يُعمينا ويسيطر علينا الخوف من عدو مشترك، ولم ندرك الصعوبات التي كانت تنتظرنا. كان تأثيري كبيرا من منطقة القْصْر إلى تطوان. ولا أحد يتحرك في الجبال بدون معرفة الريسوني بأمره. شرحتُ لسيلفيستر أن منطقة سوق الأحد يجب أن يتم احتلالها. لأنها لم تكن تبعد عن أصيلة سوى بساعة واحدة. وكان الفرنسيون قد اعتادوا على الذهاب إلى هناك مرتين في الأسبوع، لشراء المؤونة ودفع أجور رجالهم. وفي عدد من المناسبات، كان المال ينتهي في جيوب القواد. والطريقة الوحيدة لوقف هذا الأمر، هي أن يقف الإسبان في سوق الاثنين، لكي يقطعوا الطريق على الفرنسيين نحو سوق الأحد. اتفقنا على أن هذا ما يجب فعله. وأنه يتعين على إسبانيا أن تدفع رسوم الحاميات في منطقة القْصْر وأصيلة، لكي تقطع الفرصة على الفرنسيين حتى لا يطالبوا بها مستقبلا محمية لهم.

لم أرتب كل هذه الأمور لأنني أكره الفرنسيين بحكم أنهم محاربون ولا يُهزمون أبدا. ولكن لأنهم كانوا نافذين جدا وأردت أن أحسم معهم حدود منطقة نفوذهم».

بعد هذا الحوار التاريخي، كتب سيلفيستر إلى مدريد ما معناه تقريبا:

«انطباعي الشخصي أن الريسوني في الوقت الحاضر يخدمنا بولاء وإخلاص، وأن فرنسا تعمل بشكل متواصل لاستمالته لصالحها. لهذا السبب علينا ألا نضيع الوقت أبدا في تأكيد دعمنا اللامشروط له. وجني الثمار قبل أن يسبقنا إليها الباشا. إذا لم نضع الوقت، قد نتجنب وقوع هذا الأمر. وفي النهاية، قد يتصرف معنا مثل أي مغربي، وقد يغير ولاءه وينقلب علينا.

علينا أن نستغل إيجابيات التهديدات التي تستهدف فرنسا اليوم، والتي تتمثل في السلوك والموقف المشبوه لألمانيا. علينا أن نحتل سوق الاثنين، وأن نؤسس مركزا للشرطة على مسافة عشرين كيلومترا عن طنجة.. إلى آخره».

هذه الرسالة تكشف الجهل الكبير بسياسة الريسوني التي لم تتغير أبدا.

سياسته تقوم دائما على جعل فرنسا هادئة في منطقتها وعدم مضايقتها. لكنه في علاقته مع إسبانيا، كان يريد دائما حماية منطقته».

 

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى