شوف تشوف

شوف تشوف

عندما يهدد التعليم الخاص بالإضراب 2.1

عشنا حتى سمعنا أن أرباب مدارس التعليم الخصوصي أصبحوا هم أيضا يهددون بشن الإضرابات، بعدما كانت الإضرابات شأنا مقصورا على التعليم العمومي.
ولعل أسوأ خبر يمكن أن يتلقاه اليوم سياسي يخشى على اسمه هو أن يتم اقتراحه لحقيبة التعليم، إنه كابوس حقيقي يؤرق السياسيين “الطموحين”، وهذا الأمر لا مبالغة فيه، لأنه قطاع انتحاري، وفي أيام الحسن الثاني رحمه الله كان الاستوزار في القطاع بمثابة عقاب، “الحزب اللي بغيتي فيه الخدمة عطيه التعليم”، واستمرت هذه الصورة إلى غاية اليوم، فأغلب الوزراء الذين أسند إليهم القطاع اختفوا من المشهد، لذلك لا نستغرب إذا عرفنا أن شخصيات كثيرة عرض عليها القطاع لتعويض محمد الوفا ورفضت دخول عش الدبابير هذا، ليتم اللجوء إلى رشيد بلمختار والذي يعد أيامه في الوزارة بالدقائق والثواني في انتظار أن يتم تعيين من يخلفه ليتخلص من الكابوس، تاركا على مكتبه ملفات تجعل الولدان شيبا، وعلى رأس هذه الملفات قطاع التعليم الخاص.
فهذا القطاع الذي يحيا وينتعش كلما مات التعليم العمومي، أضحى قنبلة موقوتة حولت مئات الآلاف من الأطفال إلى رهائن في يد بعض المستثمرين الذين اعتادوا على الريع الذي استفادوا منه لسنوات، وهاهم يهددون اليوم بالإعلان عن إفلاسهم، وطرد هؤلاء الأطفال إلى الشوارع إن لم تتفهم الدولة “الخير الأعظم” الذي يقدمونه للمجتمع، وعملت على تمكينهم من امتيازات ضريبية، وعدم محاسبتهم على تخليهم عن حقوق مستخدميهم، بل إنهم يذهبون إلى حد مطالبة الدولة بأن تمنع نفسها من الاستثمار في القطاع، من خلال مؤسساتها الاستثمارية.
هكذا أصبح يفهم البعض اليوم معنى الوطنية، والذي أضحى يعني مقايضتها بالامتيازات، لكن هذا الاستغراب يزول عندما نعرف أن من يقف وراء هذه المعركة المعلنة هم أغلب قادة حزب العدالة والتنمية، والذين يعدون من كبار المستثمرين في قطاع التعليم الخاص، والذين نراهم هذه الأيام يشوهون صورة بعض المستثمرين الآخرين لمجرد أن أسماءهم وردت في المراجعات الضريبية التي شملت كل شركات ومقاولات القطاع الخاص.
فقبل يومين عقد أرباب المؤسسات الخاصة جمعا استثنائيا لمدارسة مشاكل القطاع، وعلى رأسها توظيف وزارة التربية الوطنية لألفين من مستخدمي هذه المدارس بالعقدة، وأيضا توصل المئات منهم بمراجعات ضريبية وإنذارات من صندوق الضمان الاجتماعي، وهي مشكلات مترابطة في ما بينها، مشكلة معادلة قلما تتحقق في أي قطاع آخر، معادلة تجمع الارتجال والجشع وانعدام الرؤية الواضحة والفساد والريع على صعيد واحد.
فأرباب المئات من المؤسسات الخاصة توصلوا قبل أشهر بإنذارات أخيرة من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بخصوص ملايير لم يدفعوها للصندوق عن الآلاف من مستخدميهم، وفي الوقت نفسه تلقوا إشعارات من مديرية الضرائب تخبرهم بوجوب دفع ملايير أخرى، بمعنى آخر فهؤلاء الذين راكموا ثروات من التعليم الخصوصي أصبحوا اليوم على حافة الإفلاس، وأصبح عشرات الآلاف من الأطفال مهددين بشكل مباشر في تعليمهم، يضاف إلى هذا أن أصحاب العشرات من هذه المدارس الخاصة وجدوا أنفسهم بدون أساتذة بسبب عملية التوظيف بالعقدة التي نظمتها الوزارة الشهر الماضي، أي بعد مرور ثلاثة أشهر على انطلاق الموسم الدراسي، وابتداء من شتنبر المقبل، ستكون كل المؤسسات الخاصة أيضا مجبرة على عدم تشغيل أساتذة القطاع العام بشكل نهائي، خلافا لما هو جاري به العمل اليوم.
وإذا علمنا أن الوزارة عازمة مرة أخرى على توظيف 16 ألف مدرس آخر بالعقدة في حدود ماي القادم، فإن هذا يعني ببساطة إفلاس العشرات من هذه المدارس، لكونها ستجد نفسها مستنزفة ماليا وبشريا، والآلاف من التلاميذ لن يجدوا بها ابتداء من شتنبر القادم مقاعد للدراسة.
هذا هو الوجه الأول للمشكلة، أما الوجه الثاني فالقطاع الخاص عرف انتعاشة غير مسبوقة في السنوات القليلة الماضية بسبب المشاكل التي تعرفها مؤسسات التعليم العمومي، وخاصة الاكتظاظ، لذلك تشجع المستثمرون الصغار والكبار وفتحوا مدارس، بعضها عبارة عن منازل أو شقق أو فيلات معدة للسكن، وبدون مرافق صحية لائقة أو فضاءات للاستراحة ومكتبات وقاعات للأنشطة التربوية الموازية، إذ بالقليل من “دهن السير يسير” في النيابات والأكاديميات يمكن لأي شخص أن يعلق يافطة “مدرسة خاصة” على باب شقته، ويضع اسم زوجته كمديرة تربوية، وحماته كمسؤولة إدارية وجارته كمُعلمة، ويشتري سيارة من “لافيراي” يحشر فيها عشرات الأطفال جيئة وذهابا، ليحصل على ترخيص و”هاهوا خدام”، لذلك لدى الأغلبية الساحقة من “المستثمرين” في هذا القطاع قناعة بأن الربح مضمون.
وبسبب أن أزمات المدارس العمومية لا تنتهي فإن الزبناء مضمونون، وبسبب أزمة البطالة فإن المستخدمين هم أيضا متوفرون، إذ يمكن لأي كان أن يشغل العشرات من المجازين برواتب لا تتعدى 1500 درهم دون تغطية صحية أو ضمان اجتماعي، وهؤلاء يتم إجبارهم على التوقيع على التزامات يشهدون فيها على أنفسهم بأنهم “مبرعين” صحيا واجتماعيا، ولا نستغرب هنا إن وجدنا الآلاف من مدرسي التعليم الخاص يشتغلون لسنوات طويلة لأكثر من ثلاثين ساعة في الأسبوع، ووضعيتهم على الورق هي “متدربون”، وخوفا من طردهم عليهم أن يعملوا المستحيل لكسب ود الآباء وأبنائهم، ولو اقتضى الأمر أن يشتغلوا أحيانا كمهرجين لإضحاك الأطفال، وهذا أمر حقيقي ولا مبالغة فيه، وعليهم أن يتكفلوا بإيصال جميع التلاميذ إلى منازلهم واحدا واحدا بعد انتهاء الحصص الدراسية، ومنهم من يتكفل بـ”الميناج” بعد مغادرة الأطفال، وهي ظروف عمل تذكرنا في مجملها بالروايات القديمة التي تصور لنا واقع العبودية في العصر الفيودالي البائد.
كل هذا ومشغلوهم لا يدفعون درهما واحدا لصندوق الضمان الاجتماعي أو لمصلحة الضرائب، وعندما مرت سنوات كانوا فيها يربحون فقط دون أية تكاليف، سيكون على الدولة، كما يهددون اليوم، أن تتحمل مسؤوليتها في إعفاء هذه المدارس من الضرائب وكذا من واجبات التغطية الصحية والضمان الاجتماعي للمستخدمين، بل وعلى الدولة أيضا، ولأجل سواد عيون أرباب هذه المدارس الخاصة، أن ترفض تشغيل هؤلاء المستخدمين المستعبدين إن هم تقدموا بطلبات التوظيف في الوظيفة العمومية، وإلا فهذه الدولة لا تفهم معنى “الشراكة” بل ولا تقدر “التضحيات الوطنية” لهؤلاء، والذين “يساهمون في النهوض بتعليمنا”، بحسب ما جاء على لسان أغلب المتدخلين في الجمع العام سابق الذكر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى