
سعيد الباز
بدأ الحديث الآن وبشكل مكثف عن ظاهرة «الألتراس» التي صارت رديفا أساسيا لكل مقابلة في كرة القدم بدورياتها الوطنية والقارية والعالمية. لم تعد كرة القدم لعبة رياضية فحسب، بل تجاوزت كل الحدود التي تصورها محبوها وعشاقها الذين أسهموا في خلقها ووضع قوانين تنظيمها وتطويرها، لما يزيد عن قرن ونصف، منذ أن انطلقت بشكل رسمي من مهدها الأصلي بإنجلترا.
لقد صار من الصعب اليوم الاكتفاء بالقول إن كرة القدم الرياضة الجماعية الأكثر شعبية في العالم. ذلك أننا أمام لعبة تحولت مع مرور الزمن، وبفعل التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلى طقس احتفالي جماهيري لم نعد نميز فيه الجانب الرياضي المحض عن الجانب الاقتصادي بالنظر إلى حجم الأموال التي أصبحت تستثمر فيها، وما تدره في المقابل من أرباح. إضافة إلى ذلك أفرزت خلال تطورها ظواهر ثقافية ذات بعد سوسيولوجي، من بينها ظاهرة «الألتراس». يعود ظهور حركة «الألتراس» بحسب الكثير ممن درسوا هذه الظاهرة إلى البرازيل في الأربعينات من القرن الماضي تحت مسمى «التورسيدا»، لكن في إيطاليا خلال بداية الستينات من القرن الماضي شهدت نشأتها الفعلية لتنتقل بعدها إلى الكثير من البلدان الأوروبية والعالمية، حيث ساهم النقل التلفزي في تطور هذه الحركة وغزوها للكثير من البلدان في العالم.
على المستوى العربي ستكون تونس والمغرب سباقين إلى ظهورها بشكلها المعروف الآن، فنحن أمام ظاهرة حديثة نسبيا. لقد كان لكل فريق لكرة القدم، منذ نشأتها، مشجعون أوفياء، لكن مع «الألتراس» نحن إزاء مجموعة من المشجعين يفوقون سابقيهم في الولاء للفريق بشكل زائد عن الحد، ومن هنا معنى كلمة «الألتراس». فهي مجموعة فائقة التنظيم أيضا، وتعتمد على نفسها على مستوى التمويل والتنقل وتوفير تجهيزاتها وإعدادها في المكان المخصص للتشجيع في الملعب، ثقافتها الخاصة ومبادئها وتنظيماتها المحكمة، وأفرادها يتميزون بنكران الذات والولاء للفريق والدفاع عنه حيث يعتبرون أنفسهم اللاعب رقم 12 وأن دورهم أساسي في حسم نتيجة المباراة، لذلك لا يتوقفون عن ترديد الأغاني ورفع الشعارات واقفين طيلة المقابلة، فالجلوس في ثقافتهم ممنوع لأنه من خصال المشجعين العاديين.
لكن لا يمكن أن يوجد «الألتراس» بدون «التيفو» الذي هو عبارة عن لوحة فنية تتشكل من جمهور «الألتراس»، ما يضفي نوعا من الجمالية في الملعب، ويتضمن في الآن نفسه رسائل واضحة أو مشفرة أحيانا إما لتحفيز فريقها بتذكيره بوقائع محددة القصد منها الرفع من معنوياته أو بث الرعب في الخصم وتوجيه التهديدات له. وكلمة «التيفو» إيطالية الأصل وتعني لغويا (أنصار) حيث ظهرت أول لوحاته. عرف «التيفو» اليوم تطورا هائلا، حيث يحرص «الألتراس» على التفنن فيه وإبداع أشكال أكثر تطورا تستمد عناصرها من تاريخ الفريق أحيانا ومن رموز مصادرها متعددة من الفن والأدب والسينما وتوظفها لغاية أساسية ووحيدة تشجيع الفريق والنيل من الخصم.
لهذا يمكن اعتبار «التيفو» خطابا قابلا للقراءة والتحليل، فإذا كان «الألتراس» مجموعة محكمة التنظيم، في سياق مجتمعات تضاءل فيها التنظيم السياسي على مستوى الأحزاب والهيئات السياسية والنقابية والمجتمع المدني، فإنه يمثل شكلا من الانتماء غير الإيديولوجي من خلال فريقه الرياضي، ويصبح «التيفو» بالتالي عبارة عن خطاب موجه للخصم أحيانا وموجه للمجتمع أحيانا أخرى. وأخيرا فإن كرة القدم لم تعد مجرد لعبة رياضية، بل بؤرة تختزل أكبر تحولات المجتمعات المعاصرة بكل أزماتها. لهذا أصبح للجمهور من خلال «الألتراس» دور قد يفوق أحيانا الرياضيين أنفسهم، وأصبح من الجائز القول: إن كرة القدم أضحت اليوم شأنا خطيرا جدا، إلى حد أنه لم يعد يعني الرياضيين وحدهم.



