شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

غربلة التُراب..

 

 

يونس جنوحي

 

في الوقت الذي يلجأ فيه المزارعون إلى آلات حفر حديثة تتيح الوصول إلى نقاط أعمق، جريا وراء الفرشة المائية الآخذة في الانخفاض، هناك شركات تنقيب عالمية تُجري المزيد من الأبحاث، في أكثر من خمس دول إفريقية جنوب الصحراء، بحثا عن الذهب والنحاس والفضة، وتحفر دون توقف لتوسيع وإنشاء المزيد من المناجم.

يشتغل فريق هولندي، هذه الأيام، على اللمسات الأخيرة من فيلم وثائقي عن القرى المجاورة لنقط اشتغال أربع شركات عالمية كبرى في مجال التنقيب عن الأحجار الكريمة. ولو أن الأمر تعلق بفريق تصوير عادي، لما سُمح له بالتصوير في القرى التي توجد بالقرب من مواقع التنقيب، ذلك أن الأهالي يعيشون في القرون الوسطى رغم أنهم ينامون بالقرب من ثروات من شأنها أن تُحول قراهم إلى منتجعات، أو كما قال أحد المُسنين، الذي وثّقت الكاميرا شهادته:.. «كان حريا بهم أن يشقوا لنا طريقا مبنيا بالرخام وليس الزفت، بالنظر إلى الأرباح التي يراكمونها بالقرب من مسقط رؤوسنا».

منذ سبعينيات القرن الماضي، تنشط جمعيات كثيرة لحقوق الإنسان في مجال حماية حقوق القرى الفقيرة المجاورة لمناطق التنقيب عن الأحجار الكريمة، حتى أن بعض معارض المجوهرات في لندن وباريس تتعرض دوريا لانتقادات ومظاهرات للتنديد بالوضع الإنساني في قرى منسية وسط الصحاري والأدغال، فيما ثرواتها تساوي ملايير الدولارات وتجوب معارض العالم.

الفيلم الهولندي يعالج مشكل هشاشة القرى في نيجيريا وسيراليون والمناطق الحدودية بين دول إفريقية أثبتت الدراسات أنها تتوفر على مؤهلات مهمة يمكن استغلالها من طرف شركات التنقيب. وهذه الشركات، بشكل غير مباشر، تتحكم في رسم حدود بعض الدول الإفريقية، وكانت، أيضا، سببا في بعض الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول إفريقية منتصف السبعينيات.

هناك مهندسون ومنقبون، من جنسيات أوروبية، قضوا قرابة أربعين سنة من الاشتغال في أعمال التنقيب وبناء المناجم والإشراف على نقل الآليات الثقيلة لاستخراج المعادن من باطن الأرض والوديان، ومنهم من اختاروا الاستقرار بشكل نهائي في جنوب إفريقيا أو الدول المجاورة لها، بحكم أنهم قضوا ثلثي حياتهم في العمل داخل القارة الإفريقية، ولم يعد لديهم أي إحساس بالانتماء إلى أوطانهم الأصلية. أحد هؤلاء المهندسين أدلى، أيضا، بشهادته وتحدث عن ذكرياته مع بداية العمل في التنقيب عن الأحجار الكريمة مع شركة متعددة الجنسيات، وذكر أنه حضر مرة عملية ولادة طفلة صغيرة كانت أمها عاملة من بين مئات العاملات في البحث عن حبيبات الذهب بالقرب من مصب أحد الأودية الرئيسية جنوب إفريقيا. وبعد 11 سنة، عاد إلى الموقع نفسه ليجد أن الأم تشتغل رفقة ابنتها في الموقع ذاته بمعية المزيد من النساء، ولا زلن يواظبن على «غربلة» التراب المبلل بمياه النهر، وطبعا يعثرن على حبيبات الذهب التي تُستعمل في صناعة مجوهرات يتهافت عليها أغنياء أوروبا والعالم.

إلى اليوم، لم تستطع أي منظمة من منظمات الأمم المتحدة ولا منظمات حقوق الإنسان التي تدور في فلكها، إجبار شركة واحدة على التبرع للقرى التي ساهمت لأكثر من نصف قرن في إثراء خزانة أثرياء العالم بالمجوهرات والأحجار الكريمة، في حين أن النساء اللواتي تزداد يوميا الهوة بينهن والعالم، لا زلن يغربلن التراب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى