
دخلت فرنسا مرحلة سياسية غير مسبوقة، بعد سقوط حكومة فرانسوا بايرو في الجمعية الوطنية، ما فتح الباب أمام سلسلة من السيناريوهات المجهولة تتراوح بين تشكيل حكومة جديدة بائتلافات هشة، أو الدعوة إلى انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة، أو حتى تصاعد الضغوط نحو استقالة الرئيس إيمانويل ماكرون. هذا المشهد المعقد يأتي في وقت يشهد فيه الشارع الفرنسي توتراً متزايداً، مع تنامي الدعوات إلى الإضرابات والتظاهر، ووسط استطلاعات للرأي تكشف عن فقدان واسع للثقة في الطبقة السياسية. وبين ضغوط المعارضة اليمينية المتطرفة، ومناورات اليسار الراديكالي، ومحاولات الاشتراكيين لطرح بدائل اقتصادية واجتماعية، يجد ماكرون نفسه أمام اختبار صعب يحدد ليس فقط مستقبل ولايته، بل أيضاً استقرار النظام السياسي الفرنسي بكامله.
إعداد: سهيلة التاور
شهدت فرنسا، مساء أول أمس الاثنين، حدثًا سياسيًا بارزًا تمثل في سقوط حكومة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، عقب تصويت الجمعية الوطنية بحجب الثقة عنها. فقد صوت 364 نائبًا لصالح إسقاط الحكومة مقابل 194 نائبًا فقط دعموا بقاءها، لتطوى بذلك صفحة سياسية قصيرة لم تتجاوز تسعة أشهر.
هذا التطور لم يكن مفاجئًا في حد ذاته، إذ كان متوقعًا منذ أسابيع في ظل تنامي المعارضة البرلمانية، لكنه عكس في المقابل عمق الانقسام السياسي وتفاقم الهوة بين خطط التقشف الحكومية وبين المزاج الشعبي الرافض لمزيد من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية. وهكذا وجد الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه أمام أزمة جديدة تزيد من هشاشة ولايته الثانية التي ستنتهي بحلول منتصف عام 2027.
مسار بايرو: من الآمال إلى الإخفاق
عُين فرانسوا بايرو في دجنبر 2024 خلفًا لميشال بارنييه، في سياق اقتصادي واجتماعي صعب. ورغم رغبته في تقديم نفسه كوجه إصلاحي قادر على إعادة التوازن للمالية العامة الفرنسية، واجه منذ اليوم الأول معارضة حادة من مختلف أطياف المشهد السياسي. حزب التجمع الوطني بقيادة مارين لوبان قاد الحملة ضد حكومته، مدعومًا بالحزب الاشتراكي بقيادة أوليفيه فور وحزب “فرنسا الأبية” بزعامة جون لوك ميلنشون. تحالف هذه القوى، رغم تبايناتها الأيديولوجية، كان كافيًا للإطاحة به بعد أقل من عام على دخوله قصر ماتينيون.
خطة اقتصادية مثيرة للجدل
ركز بايرو في برنامجه على إجراءات تقشفية صارمة، أبرزها تقليص الميزانية العامة بمقدار 44 مليار يورو، وإلغاء عطلتين رسميتين هما “إثنين الفصح” و”الثامن من ماي”، في محاولة لتقليص العجز. كما حذر مرارًا من ارتفاع حجم الديون الفرنسية التي بلغت 3415 مليار يورو، مشيرًا إلى أن البلاد تدفع فوائد ضخمة سنويًا مقابل هذه المديونية المتصاعدة. وذكر النواب بأن فرنسا دفعت عام 2020 حوالي 20 مليار يورو كفوائد، وقفز الرقم إلى 60 مليارًا في 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 117 مليار يورو مع نهاية القرن. بالنسبة له، هذه الأرقام تجسد أزمة حقيقية تهدد مستقبل الأجيال القادمة.
خطاب أمام البرلمان: أزمة تتجاوز السياسة
خلال كلمته أمام الجمعية الوطنية قبيل التصويت، حاول بايرو أن يصور الوضع الاقتصادي على أنه “أزمة ديمقراطية وتاريخية” لا مجرد خلاف سياسي. أشار إلى أن فرنسا لم تعرف ميزانية متوازنة منذ أكثر من نصف قرن، وأن الناتج المحلي الإجمالي تراجع مقارنة بدول الجوار، إذ يقل بنسبة 15 بالمئة عن ألمانيا وبنسبة 30 بالمئة عن هولندا.
وحذر بايرو من مشكلات ديموغرافية تهدد نظام التقاعد وتؤثر على استمرارية النمو. وأكد أن الحل يكمن في إنعاش التجارة الخارجية، وضبط النفقات الاجتماعية، والعودة إلى مستوى عجز لا يتجاوز 3.5 بالمئة في أفق عام 2029.
حملة تواصل لم تغير المعادلة
في الأسابيع الأخيرة قبل سقوطه، كثف بايرو من ظهوره الإعلامي وتنقلاته الميدانية لشرح مشروعه للفرنسيين، من القرى إلى المدن الكبرى. لكنه لم ينجح في تغيير قناعات الرأي العام ولا في إقناع النواب بالعدول عن قرارهم.
وبرغم استعانته المتكررة بالقنوات التلفزيونية والإذاعات لتوضيح رؤيته، ظل تأثير خطابه محدودًا أمام موجة الغضب الشعبي من خطط التقشف. فبالنسبة لخصومه، هذه الإجراءات لم تكن سوى وصفة لتقويض المكتسبات الاجتماعية وتفاقم معاناة الفئات الهشة.
انتقادات لاذعة من المعارضة
خصوم بايرو لم يوفروا أي جهد في استغلال اللحظة لإبراز مسؤولية الرئيس ماكرون المباشرة عن الأزمة. فقد اتهم بوريس فالو، رئيس الكتلة الاشتراكية، ماكرون بأنه أغنى الأغنياء وأفقر الفرنسيين، مذكرًا بأن نسبة التضخم كانت 3 بالمئة عند وصوله إلى الحكم عام 2017 بينما ارتفعت اليوم إلى 5.7 بالمئة. كما وصف خطة بايرو بأنها “وصفة للبطالة وتراجع التعليم والقطاع العام”.
من جانبها، اعتبرت مارين لوبان أن حكومة بايرو كانت “حكومة شبح” وأن البلاد عاشت فراغًا حقيقيًا في القيادة. وذهبت أبعد من ذلك بمطالبتها باستقالة ماكرون والدعوة إلى انتخابات جديدة، مؤكدة أن تداول السلطة ليس عيبًا بل ضرورة. أما ماتيلد بانو، رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب “فرنسا الأبية”، فاتهمت ماكرون بأنه لا يحكم سوى بالخوف، وأكدت أن سياساته ضاعفت ثروات الأثرياء وأفقرت الفقراء.
تقشف مقابل بدائل سياسية
الخلاف لم يكن فقط على أرقام الميزانية بل على رؤية شاملة لمستقبل البلاد. فبينما دعا بايرو إلى خفض النفقات الاجتماعية لتأمين سداد الديون، رأت المعارضة أن الحل يكمن في توزيع أكثر عدالة للثروة وتحميل الأغنياء العبء الأكبر. بالنسبة لليسار، فإن وصفة التقشف لا تعالج أصل الأزمة بل تفاقمها. أما اليمين المتطرف فقد حمل المهاجرين مسؤولية المشاكل الاقتصادية، في وقت رد فيه بايرو بأن البلاد بحاجة إلى مستثمرين لا إلى البحث عن شماعات سياسية.
الانقسام البرلماني يتعمق
تصويت حجب الثقة كشف حجم الانقسام داخل الجمعية الوطنية. إذ اتحدت قوى متعارضة إيديولوجيًا – من اليمين المتطرف إلى أقصى اليسار – لإسقاط الحكومة.
هذا التكتل غير المعتاد يعكس إلى أي مدى باتت الساحة السياسية الفرنسية تعيش حالة استقطاب حاد يصعب معه تشكيل أغلبية مستقرة. والأخطر أن سقوط الحكومة لم يفتح بابًا لحل واضح، بل زاد من تعقيد المشهد وترك ماكرون أمام خيارات محدودة.
ماكرون: دعوة إلى “الاستقرار والمسؤولية” وسط العاصفة
في أول رد فعل له عقب التصويت، حاول الرئيس إيمانويل ماكرون احتواء تداعيات الأزمة عبر خطاب مقتضب ركز فيه على أهمية الحفاظ على “الاستقرار والمسؤولية” داخل مؤسسات الدولة.
وأكد أن فرنسا تمر بمرحلة دقيقة تتطلب من جميع القوى السياسية “الارتقاء فوق الحسابات الضيقة” من أجل حماية الاقتصاد الوطني والحفاظ على مكانة البلاد في أوروبا والعالم. كما شدد على أن التحديات الكبرى، من أزمة الديون إلى تراجع القدرة الشرائية وملف التقاعد، “لا يمكن مواجهتها إلا بروح جماعية وبعيدة عن الانقسامات العقيمة”.
ورغم تجنبه الخوض في تفاصيل المرحلة المقبلة أو الإعلان عن اسم خليفة بايرو، لمح ماكرون إلى أنه لن يتردد في اتخاذ “القرارات الصعبة” إذا استمرت حالة الجمود داخل البرلمان، ما فسره بعض المراقبين على أنه تلميح إلى إمكانية حل الجمعية الوطنية والذهاب نحو انتخابات تشريعية مبكرة.
حكومة جديدة.. انتخابات أم استقالة؟
أعقبت الأزمة تساؤلات حول مخرج المرحلة المقبلة. فقد دعا مسؤولو حزب “التجمع الوطني” إلى حل سريع للجمعية الوطنية، مستندين إلى استطلاعات الرأي التي تشير إلى تقدمهم في أي انتخابات محتملة.
ماكرون بدوره أكد أنه لا يرغب في اللجوء إلى هذا الخيار، لكنه لم يستبعده رسميًا. ويرى محللون أن أي انتخابات مبكرة قد تعيد إنتاج التوازنات نفسها التي عرفها البرلمان منذ 2024، ما يعني استمرار المأزق.
أما حزب “فرنسا الأبية” فقد طالب باستقالة الرئيس نفسه، بينما أظهر استطلاع حديث أن 64 بالمئة من الفرنسيين يرغبون في انتخابات رئاسية مبكرة.
غير أن ماكرون أعلن في أغسطس أنه سيكمل ولايته حتى 2027، مفضلًا البحث عن رئيس وزراء جديد بدل الذهاب إلى انتخابات غير مضمونة النتائج.
معضلة تشكيل حكومة بديلة
طرح الحزب الاشتراكي، الذي يملك 66 نائبًا، تصورًا بديلاً عبر ميزانية تعتمد على فرض ضريبة بنسبة 2 بالمئة على الثروات التي تتجاوز مئة مليون يورو، مع خفض للإنفاق بقيمة 22 مليار يورو وتعليق إصلاح التقاعد الصادر عام 2023.
لكن هذا الطرح قد يؤدي إلى انسحاب حلفاء أساسيين من الائتلاف الحالي مثل الجمهوريين (49 نائبًا)، حزب “آفاق” بزعامة إدوار فيليب (34 نائبًا)، وحتى حركة “موديم” بزعامة بايرو (36 نائبًا).
وفي المقابل، يرفض حزب “فرنسا الأبية” الدخول في أي تحالف مع الاشتراكيين في ظل ما يصفه بـ”صفقة كريهة” مع أنصار ماكرون.
لذلك، يرى بعض المراقبين أن الحل قد يكون في تعيين شخصية توافقية لا تنتمي إلى الحزب الاشتراكي، تحظى بقبول طيف واسع من القوى السياسية من اليمين المعتدل حتى اليسار الديمقراطي. من بين الأسماء المطروحة رئيسة الجمعية الوطنية يائيل برون-بيفيه ووزير الاقتصاد إريك لومبار.
احتجاجات مرتقبة تزيد المشهد تعقيدًا
الأزمة السياسية ترافقها أجواء اجتماعية مشحونة. فقد دعت النقابات وحركات احتجاجية، بينها “السترات الصفراء”، إلى يوم تعبئة وطني في 10 شتنبر بشعار “شل البلاد بالكامل”.
هذه الدعوات التي تجد صدى واسعًا على شبكات التواصل الاجتماعي قد تضيف ضغطًا كبيرًا على الحكومة المقبلة، خصوصًا إذا نجحت في حشد قطاعات واسعة من الشارع.
ويرى محللون أن أي تحركات قوية ستضعف موقع الرئيس أكثر، وتفتح الباب أمام مزايدات بين اليسار المتشدد واليمين المتطرف على حساب الاستقرار السياسي.





