شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

في الذكرى 13 لرحيل سركون بولص…

إعداد وتقديم: سعيد الباز
(كأنّ كمامة أطبقت على فم العالم)

حلّت الذكرى 13 لرحيل الشاعر العراقي سركون بولص (1944-2007) التي تصادف 22 أكتوبر من كل سنة. سركون هذا الشاعر الآشوري الاستثنائي الذي تمثل بكل صفاء سلفه القديم جلجامش في ملحمته الأسطورية في رحلة التيه بحثا عن الوصول إلى مدينة أين. كان سركون بولص رائدا كبيرا للشعرية العربية الحديثة ومؤثرا قويا في الموجة الثانية لقصيدة النثر العربية. ويتبيّن، من خلال الأصداء الإعلامية والاحتفاء بذكرى رحيله، أنّ هناك عودة جديدة لمنجزه في مجال الشعر والترجمة والقصة تبرز، دون أيّ شك، مدى الأهمية الكبيرة لسركون بولص في خريطة الشعر العربي. يضاف إلى ذلك ارتباط هذا الوهج الإبداعي المتواصل لسركون بولص بالجائزة التي تحمل اسمه وتعيد التذكير بتجربته الشعرية باعتبارها أساسية في حركة الحداثة العربية. هذه الجائزة التي سبق أن نالها الشاعر المغربي مبارك وساط في دورتها الأولى والشاعر التونسي آدم فتحي في دورتها الثانية، وهذه السنة في دورتها الثالثة الشاعر المصري عماد صالح. وتبدو جائزة سركون بولص، من خلال دوراتها السالفة، أشبه باسمها. فهي، على حدّ قول الكاتب العماني محمود الرحبي: «مُنحت لشعراءَ من الهامش، أو بصورة أدق لشعراء ألهاهم، عن البروز الإعلامي، البحث في صياغات شعرية جديدة». وبالفعل كان سركون بولص منشغلا بمشروعه الإبداعي غير مكترث تماما بأي حضور إعلامي، منصرفا إلى تيهه الدائم ومنفاه الأبدي ورؤاه الشعرية.. ألم يقل ذات مرة وكأنّه يعيش اليوم بيننا: اليوم أريد أن تصمتَ الريح. كأنّ كمامة أطبقَت على فَم العالم.

صدوق نور الدين: يوم بكى سركون بولص
لم تكن لسركون معرفة بمدينة أزمور، مثلما لم تتح الظروف زيارتها في سياق تردده على المغرب، إلا أن اختياره أزمور وليد دعوة اقترحها عليه خالد المعالي، حيث أقام في فندق صغير، فيما ظل بيتي مفتوحا له، كما بعض الأصدقاء. على أن مساءات الصيف في جلال وداعتها، كانت تسوقنا إلى مقهى قريب من البيت، هنالك تعرفت على سركون حقيقة، إذ لم يكن الشاعر وحسب، وإنما المثقف الجامع الملم بالآداب العالمية في أفقها الأوسع، إلى آرائه الدقيقة في مسألة الترجمة وتصويباته لترجمات عربية تحققت لشعراء ومسرحيين عالميين: ييتس، أليوت وشكسبير. وأستحضر أنه حدثني عن ترجمة قصيدة «عواء» للأمريكي ألن غنسبيرغ. قال أقدمت عليها بطلب من الشاعر الفلسطيني محمود درويش، حيث نشرها في أحد أعداد مجلة «الكرمل» لتظهر لاحقا ضمن منشورات دار الجمل المتميزة. وكما تحدث عن ترجمة هذه القصيدة، أشار لإعادة ترجمة كتاب «النبي» لجبران خليل جبران، علما بأن المتداولة وقعها المصري ثروت عكاشة. وهنا تمثل لحظة بكائه، وفي الواقع هما لحظتان وليست واحدة، الأولى في الدار البيضاء في الليلة الأخيرة، إذ وأثناء تجوالنا في وسط المدينة مرّ شابان ظل أحدهما يحدق في سركون بقوة، ليتوجه بالسؤال: أأنت الشاعر سركون بولص؟ ولما ردّ بالإيجاب، قال الشاب: أنا من قرائك المعجبين، ثم صافحه بحرارة ومضى. عندها دخل سركون في قداسة الصمت، فأحسست بمدى تأثره البليغ الذي عبرت عنه دمعتان مسحهما بيده اليمنى قائلا: لم أكن أتوقع.
أمّا الثانية فجرت وقائعها في السويد، وبالتحديد في مدينة «لوند» حيث أدون الهوامش. ذلك أنه كان يقصد وزميل المدينة الثانية في السويد هلسنبوري بغاية قراءة أشعاره، لولا أنهما أضاعا الطريق. ومن المفارقات أن سركون لما فتح باب السيارة ليسأل عابرا، كان الأخير أخي الأصغر الذي سبق أن تعرف عليه في المغرب. عندها اشتعل فرحا وبكى تأثرا، ليخاطب مرافقه: هذا (ويقصد أخي) ولدي.

حسن نجمي: سركون تكثيف للشعرية العراقية كلها
… كنتُ مع شاعر يحملُ الفَانُوس ويضيء ليل الخطوات المندهشة المتعثرة. سَرْگونْ وهو يمشي، وهو يتوقَّف قليلاً، وهو يدخل مطعماً، وهو يدخُل متجراً، وهو ينْدسُّ في كشك أو بَارْ، وهو يدخل مكتبة، وهو يحيّي صديقاً أمريكياً، وهو يعثر مصادفةً على شاعرٍ فيقدمه إليَّ ويقدمني إليه، وهو يتحدث بهدوء وعمق وثقة في الفكرة والعبارة، وهو يخطو حاملاً العَالَم في رأسه، حاملاً جسده في العَالَم، وهو يعرف كيف يرى، وكيف يصف، وكيف يسمّي، وكيف يقول الأشياء. كأنّني لم أرَ سان فْرانْسِيسْكُو حين كنتُ فيها، وإنّما كنت أقرؤُها في نصّ لاَ مَرئي على أطراف أصابعه وإيماءات يَديْه وعينَيْه. أحياناً، تصبح المدن مجرد لغة حين نكون برفقة مَنْ يَعْرف كيف يتكلم عنها. أحياناً، تصبح مرآةً لروح الإنسان الذي يقَدِّمُها بحب إليك. تَشِفُّ المدينة كما تَشِفُّ روحُه حين يتمثَّلُها ويستَبْطنها، ويقدمها إليك كما لو كان يضَعُ روحه على طبقٍ…
كان سَرْگونْ تكثيفاً للشِّعْرية العراقية كُلِّها، كان مُصَاهَرةً مفتوحة على أبرز وأعمق وأصْفَى المرجعيات والخِبْرات الشِّعْرية والجمالية العربية. غذَّى الآخرين وتَغَذَّى منهم، أضاءهم وأضاؤوه، رافقَهُم وصاحَبَهَم واستأنس بهم فاستأنسوا به، أحبَّهم وأَحبُّوه. وعثر على مكانه بينهم على الخريطة. كما عثر على لغته داخل اللغة. ابتكر للمنفى، للعزلة، للصمت، للمغامرة، للمجهول مُعْجَماً يَلِيقُ بِكُلِّ هَذِهِ الحَالاَتِ الَّتي تُحْيِي وتُمِيتُ. كأنَّما حملته محفَّةُ القصيدة إلى أعالي الحياة، ثم نزلت به إلى أعماق اللؤلؤ وهشاشة العُشْب.
بَدَتْ له الأرض بريةً مفتوحة فانتشر فيها.

سنان أنطون: سركون سيّد المنفى
أين سركون بولص؟
ليس الجواب بسيطاً البتّة.
جسده مسجّى منذ عقد أو أقل بقليل في مقبرة تورلوك في ولاية كاليفورنيا. ويقال إنه كان يرغب بأن يدفن في برلين، التي أحبّها وعاش فيها وكان يهرب إليها، لكن رغبته لم تتحقق. ولعلها مفارقة شعرية: أن يهاجر جسد الشاعر (أو يهجّر) هجرة أخيرة، بعد موته، إلى اللامستقرّ. إلى أبعد الـهناكات.
«جئت إليك من هناك!»
**
سيقول قائل إنّه عاش في الولايات المتحدة أربعة عقود. نعم، ولكنها لم تصبح وطناً. وقد قال سركون في حوار نشر في مجلة «بّارناسوس»: «لم أتوقف لحظة عن التفكير بوطني أو التشوق لرؤيته. أميركا بالنسبة لي هي مكان عيش، إقامة، وليست وطناً، لكنك لا تستطيع أن تملك وطناً مرتين. وفي نفس الوقت، ليس بمستطاعك أن تعود إلى وطنك ثانية. اللغة العربية، وهي الحبل السري الذي يربطني بشعبي وبتاريخي، هي الوطن الحقيقي الوحيد الذي أملك».
قرر الذين أشرفوا على هجرة جسد سركون الأخيرة ألّا يكون لوطنه الحقيقي، اللغة العربية، مكان على شاهد القبر. كل ما نشاهده في الصورة هو نص حفّر باللغة الإنكليزية وآخر بالآشورية. هل هي محاولة، فاشلة بالطبع، لقطع الحبل السرّي؟ أو لاختزال حياة الشاعر وهويته المعقّدة والغنية واحتكاره واحتكارها من قبل الجماعة؟ نفيٌ آخر وأخير لسيّد المنفى.
لن أزور قبر سركون بولص. لأنه ليس هناك.
**
إذاً أين سركون بولص؟
يموت الشاعر في مكان واحد، مرة واحدة فقط. لكنه يسكن في اللغة، البيت… الأكبر. الوطن الحقيقي. الرحم. فاللغة تلد الشاعر من جديد كلّما قرأناه.
سأزور سركون… في دواوينه وستقبّل روحي كلماته. وسيأخذني، ككل مرّة، إلى كل تلك الأمكنة التي شيدها في اللغة. فالقصيدة مكان (ولـ «الديوان» دلالة أخرى في هذا السياق). مكان نطلّ منه على ذواتنا، وعلى الكون، وعلى ما اندثر من أمكنة، وأزمنة. ونطل، مع سركون، على العراق، طبعاً، وطن الشاعر. ووطن الشعر الأوّل.
**
سأزور سركون وسوف «أراه هنا أو هناك»، حيّاً، فوق أسوار أوروك، بجانب كرسي جده «تحته يعبر النهر، يتقلّب فيه/الأحياء والموتى». سأراقبه وهو يقلّب دفتره الذي يصيد فيه أرواح الموتى إذ «يمرّون على صفحاته في شبه رفيف». وسأرى ذلك الرجل، يسقط، فجأة، كما يفعل في كل قراءة، في وسط الساحة «مثل حصان حصدوا ركبتيه بمنجل». وسأرى، وأصدّق ما أرى: أمواج دجلة مقيدة بالسلاسل. وسأحفر، أنا أيضاً، مع سركون، قبراً للمستقبل. وأتفرّس في «قامات لصوص نهبوا التاريخ/ وكأنه بنك»
**
سأزور سركون وأرى أطياف الأطفال المسحورين في بقايا مدينتي، ومدينته، في حلمه، «كالطيور في الصحراء، يغنون من أجل لا أحد». سأشم رائحة الرغيف البغدادي وأكاد ألمسه. سأسمع صوته على «الساوندكلاود» وهو يقرأ قصائده برهبة وكأنّه يصلّي لآلهة الشعر. صوت قادم من «ما وراء الحزن» في «نهاية العام/عام النهايات». وشبح يوسف الحيدري يتمثّل بشراً ويقول لسركون، ولنا: «اللاجئون على الطرقات/ الأطفال في التوابيت/ النساء يندبن في الساحات/ أهلك بخير/ يسلّمون عليك من المقابر/ بغداد سنبلة تشبّث بها الجراد/ جئت إليك من هناك/ إنّه الدمار». ثم يبتعد ويختفي.
**
أين سركون بولص؟
أسأل الأرملة التي تجلس مع طفلتها «على مصطبة الخشب/ بانتظار آخر قطار ذاهب إلى الجحيم، في المطر» عن مكانه وعن وجهتها. تظل صامتة. أسمع «دردمة خافتة». تمشي عيناي إلى مكان/ نص آخر فأرى «مليون لاجئ يتلبّد في خطاه» وسركون يصغي إلى كل لاجئ وهو «يحكي ويحكي ويحكي/ لأنه وصل دون أن يذوق طعم الوصول».
**
أزور سركون بولص وأرى آلاف الفراشات تطير من وإلى قصائده «كأنها مقيدة بخيط خفي إلى الجنّة». ثم أراه مع الآباجي «يجول بين الخرائب/ ويرثي أبناء مدينته، يحلم أحياناً/ أن يحلّق كأي نسر، فوق رؤوس القتلى والقتلة». أقول له: نعم، إنك تحلّق يا سركون، فوق أسوار أوروك وفوق الخرائب القديمة والجديدة.
أحبّك، وألعنك أيضاً لأنك قلت كل شيء. وأشكرك، أيضاً، لأنك قلت كل شيء.
وأزورك دائماً.
**
سركون، أيها السيّد، يا سيّد المنفى.

وديع سعادة: باخرة ضائعة بين الأحشاء
لا وصول. كل مدينة هي مدينة «أين». ترحال في الجغرافيا، ترحال في الذات، ترحال في الحياة، ترحال في الشعر… فما يهمّ هو الرحلة وليس الوصول.
«حفيفُ ثوبٍ عابر»، «قطار من النبضات»، «سافرْ حتى يتصاعد الدخان من البوصلة»… كلمات لسركون بولص، أستعيرها كي أصف الشاعر، كي أصف سركون بولص.
شاعر اللامكان سركون بولص، الذي عبر أمكنة كثيرة (العراق، لبنان، الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا…)، لم يكن يعبر في الجغرافيا. كان يعبر في ذاته، عمودياً في الأعماق، وفي الغور هناك يحاول هدم الحدود بين الحلم والواقع.
كانت اللغة هي وطنه الافتراضي الوحيد، فحفر فيها عميقاً علّه يجد نفسه في وطن… لكن، هل للشعراء وطن، حتى في اللغة؟
يُجمع الشعراء والنقاد العرب على أن سركون، وقلّة من مجايليه، نقلوا الشعر العربي من مرحلة التأسيس للحداثة، والتنظير للحداثة، إلى الحداثة كتابةً ومفهوماً، وأنهم جعلوا القصيدة توأماً للحياة بنقلها من الرمز والتجريد إلى المحسوس والواقع… وكان سركون أحد أبرز هؤلاء الذين عاشوا حياتهم شعراً لا كتابةً فقط.
يُجمع الشعراء والنقاد العرب على أن سركون بولص صوت شديد الخصوصية في الشعر العربي ومن أبرز شعراء القصيدة الجديدة. أصغر تفاصيل الحياة اليومية تتحول في قصيدته إلى شعر متوهج. يختار جملته بإتقان، مزوّجاً الشعر بالفكر بالتراث بالتفاصيل اليومية. لغته نثرية بامتياز لكنها تحمل طاقة شعرية كبيرة. لغة مسكونة بالقلق الوجودي، بالتجربة الروحية، متراصّة كبناء لكنها في الوقت نفسه مشرّعة على الإيحاء والرؤى.
الإنسان ترحال دائم، ترحال في ذاته على الأخص، وكذا الشعر. وفي هذا الترحال كان سركون يبحث في ذاته عن مكان، عن خلاص، وعن عشبة الأبدية ربما، مثل سلفه غلغامش.
إلا أن الأمكنة كلها، في الذات وخارج الذات، هي منافٍ. ويستمرّ الشاعر يرحل فيها، من منفى إلى منفى، أعزل ومعزولاً.
عقد سركون بولص صداقة مع آلام شارل بودلير. بودلير، الذي أبحر في باخرة نحو آسيا حاملاً آلامه وكادت الباخرة تغرق به وبمن فيها، وصلت آلامه إلى سركون باكراً (من أوائل قصائد سركون قصيدة بعنوان «آلام بودلير وصلت»). إلا أن باخرة سركون لم تكن في البحر بل في أحشائه: «هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائي «.
أعتقد أن شعر سركون كله مسكون بهذه الباخرة الضائعة بين الأحشاء. وأعتقد أن هذه الباخرة تبحر بين أحشاء كل شاعر، ولا ميناء لها.
العلن يكمن في السر. وما يكتبه الشاعر، وما كتبه سركون، من تفاصيل حياة يومية، إنما كي يقول السر وليس العلن. وبحثاً عن هذا السر تبقى باخرة الأحشاء في سفر دائم. فكل ميناء هو ميناء «أين»، وكل بحر هو بحر «أين» أيضاً.
لكن، مهما أبحر الشاعر في باخرة أحشائه، مهما ابتعد، يقول سركون: «سيصل إلى قلبه في النهاية/ حيث يتدلّى الجرح من النوافذ/ حيث الجرح يحترم الرصاصة».

سعدي يوسف: سركون شاعر العراق الوحيد
سركون بولص هو الشاعر العراقيّ الوحيد.
قد يبدو التعبيرُ ملتبساً.
لكن الأمر، واضحٌ، لديّ.
سركون بولص لم يدخل الشعر إلا من باب الشعر الضيّق.
بدأ في مطلع الستينيات، مجهّزاً، مكتمل الأداة، مفاجِئاً وحكيماً في آن.
لم يكن لديه ذلك النزق (الضروريّ أحياناً) لشاعرٍ شابٍّ يقتحم الساحة.
سركون بولص لم يقتحم الساحة. لقد دخلَها هادئاً، نفيساً، محبّاً، غير متنافسٍ.
كان يسدي النصيحةَ، ويقدم أطروحة الثقافة الشعرية الرصينة، مقابل الخصومةِ، والمشتبَكِ، والادّعاء.
لم يكن ليباهي بثقافته، وإن حُقّتْ له المباهاة.
هو يعتبرُ الشعرَ نتيجَ ثقافةٍ عميقةٍ وممارسةٍ ملموسةٍ.
سركون بولص يكره الادّعاء!
**
وأقول إنه الشاعرُ الوحيدُ…
هو لم يكن سياسياً بأيّ حالٍ.
لكنه أشجعُ كثيراً من الشعراء الكثارِ الذين استعانوا برافعة السياسة حين تَرْفعُ…
لكنهم هجروها حين اقتضت الخطر!
وقف ضدّ الاحتلال، ليس باعتباره سياسياً، إذ لم يكن سركون بولص، البتةَ، سياسياً.
وقفَ ضد الاحتلال، لأن الشاعر، بالضرورة، يقف ضد الاحتلال.
سُمُوُّ موقفِه
هو من سُمُوّ قصيدته.
**
لا أكاد أعرفُ ممّن مارسوا قصيدة النثرِ، شاعراً ألَمَّ بتعقيدات قصيدةِ النثرِ، ومسؤولياتها، مثل ما ألَمَّ سركون بولص. مدخلُهُ إليها مختلفٌ تماماً. إنه ليس المدخلَ الفرانكوفونيّ إلى النصّ المُنْبَتّ، في فترةٍ مظلمةٍ من حياة الشعر الفرنسيّ:
رامبو مقتلَعاً من متاريس الكومونة…
مدخلُهُ، المدّ الشعريّ الأميركيّ. مجدُ النصّ المتّصل.
أطروحةُ تظاهرةِ الطلبة، حيثُ القصيدةُ والقيثارُ والساحةُ العامّة.
قد لا يعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوِّفُ مع فريقٍ، لإلقاء الشعر في البلدات الأميركية والقرى ..
طبلٌ وقيثارٌ وهارمونيكا…
**
سركون بولص…
شاعر العراق الوحيد!

قصائد

رؤيا في «فندق النصر» أزمور/المغرب
إلى صدوق نور الدين

الشمسُ في الأعلى
طافية، كبيضة اللقلق، فوق السقوف
ولا أحدَ، في الأسفل، يتحرّك :
إنّها القيلولة .
نافذتي تـُطلّ على بُستان ٍ أشواكهُ
أعلى من السقوف، امرأة ٌ
تنشرُ عليها ملاءاتٍ، قنابيزَ أطفال. ها هيَ
تخرجُ من بيتها المتواضع، وتأتي
لتلمّ غسيلها. جـلابتها المقلـّمة
راية ُ الغسَـق .
**
قدَماي
مجَذ ّرتان في هذا السرير
حيثُ ألقيتُ، منذ ُ يومين، مرساتي .
الفندقُ يطفو بين يدَي عرّ افة
تسافرُ في خيمتها الوبريّة إلى جبال الأطلس
كلّ ليلة .
**
عُظاءة ٌ كانت تتسلـّـقُ ساق َ طاولتي
حيثُ تستقرّ منفضةٌ، وكأسٌ، وقنـّينة
ألقتْ نظرة ً غيرَ آبهة
على يدي التي يتصاعدُ منها دُخانُ لــُـفافة
ومضَت مثل أميرة متغطرسة
في طريقها إلى المنفى .
**
البُستانُ نائمٌ
تسيلُ على شوكهِ أوّلُ قطرات الندى .
نافذتي مفتوحة ٌ تستقبلُ حاشية ً
من البعوض، وثمّة
مَن يحملُ فانوسا ً ويبحثُ عن شيء ٍ ما
في الخرابة .
أزمّـور… وهذه ليلتي الثالثة .
كمظلــّيّ ٍ لم تنفتح مظلـّـتـُه ُ
تسقط ُ في كأسي بعوضة .
مخدّ ة ٌ تحتَ رأسي
تتكهرَبُ بالأرَق، فأرمي بها إلى الجدار .

أبي في حراسة الأيّام
لم تكن العَـظْمة، ولا الغُراب
كانَ أبي، في حراسة الأيام
يشربُ فنجان شايه الأوّل قبل الفجر، يلفّ سيجارته الأولى
بظفْر إبهامه المتشظّي كرأس ِثـُومة.
تحت نور الفجر المتدفّق من النافذة، كانَ حذاؤهُ الضخم
ينعسُ مثل سُلحفاة زنجيّة.
كان يُدخّن، يُحدّقُ في الجدار
ويعرفُ أنّ جدراناً أخرى بانتظاره عندما يتركُ البيت
ويُقابلُ وحوشَ النهار، وأنيابَها الحادّة.
لا العَظمة، تلك التي تسبحُ في حَساء أيّامه كأصبع القدَر
لا، ولا الحمامة التي عادت إليه ِبأخبار الطوَفان.

الكمامة
اليوم أريد أن تصمتَ الريح
كأنّ كمامة أطبقَت على فَم العالم.
**
الأحياءُ والأمواتُ تفاهموا
على الارتماء في حضن السكينة.
**
لأنّ الليل هكذا أراد
لأنّ ربّة الظلام، لأنّ ربَّ الأرْمِـدَة
**
قرّرَ أنّ آخرَ المطاف هذه المحطّة
حيثُ تجلسُ أرملة وطفلتها على مصطبة الخشب
**
بانتظار آخر قطار ذاهب إلى الجحيم، في المطـَر.

تحوّلات الرجل العادي
أنا في النهار رجل عادي
يؤدّي واجباته العادية دون أن يشتكي
كأيّ خروف في القطيع لكنني في الليل
نسر يعتلي الهضبة
وفريستي ترتاح تحت مخالبي.

قالوا
الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار: ترك سركون هذه المدينة في السنوات الأخيرة من حياته، سان فرانسيسكو التي كان يقول إنه لم يشعر فيها بالملل ولو لدقيقة واحدة، لكنه غادرها باتجاه آخر مقتفياً أثر الحياة، طريدتَه التي لم يكن القبض عليها أمراً ممكناً على ما يبدو: «لا مكان يحلم بوصولي/ والحياةُ / طريدتي الخائفة».

الشاعر المصري جرجس شكري: من يقرأ شعر سركون بولص يتأكد أنه لم يغادر كركوك، لقد حمل معه قريته بكاملها، بيوتها وشوارعها وسكانها بعاداتهم وتقاليدهم، حمل أحزانهم وأفراحهم، حياتهم وموتهم، حمل الأب والأم، القابلة وصندوق العروس، مجانين القرية، أبقار الأب والحقول، حمل كل هذا معه إلى أن استقر في سان فرانسسكو، وكانت هذه الكائنات تسكن روحه وتأمره أن يكتبها كل مساء حتى لا يموت.

الشاعر اللبناني اسكندر حبش: ما بين الظل والنور تقف تجربة سركون بولص. تجربة أساسية في حركة الحداثة العربية. ربما من قلائل سيبقون طويلا، لا في مخيلتنا فقط، بل في قلب هذا النص الذي أعاد تشكيله بطريقة لا تخصّ أحدا سوى نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى