الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

قصة إعادة بناء ميناء الدار البيضاء

تفاصيل الاستيلاء على «مرسى كازا بلانكا» سنة 1906

قبل مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي عقد في يناير 1906، كان مرسى الدار البيضاء منشأة مغربية خالصة يتولى تسييرها موظفون مخزنيون مغاربة. إلا أن فرنسا بعد أن كسبت أغلب أوراق المؤتمر لصالحها وضمنت انسحاب الإنجليز والألمان على الخصوص، اقترحت على المغرب إصلاح الميناء، لكي تضمن استرداد أقساط الديون التي أثقلت بها البلاد. هذا الإصلاح الذي هم ميناء الدار البيضاء بدأ في ربيع سنة 1907، لكنه توقف بعد قصف المدينة في غشت من السنة نفسها، لكي تلغي فرنسا كل شيء، وتباشر خطة جديدة للسيطرة كليا على الميناء. وبعد توقيع معاهدة الحماية، أصبح ميناء الدار البيضاء أحد أحدث الموانئ البحرية في المنطقة، بل ركيزة من ركائز الاقتصاد الفرنسي في المغرب.

يونس جنوحي

المنصب المنقرض لـ«أمين الديوانة» و«مول الميزان»

«كانت مرسى الدار البيضاء وديوانتها كسائر مراسي المغرب لها أنظمة خاصة. من هذه الأنظمة كان لها رئيس وله التفويض التام في شؤون الميناء، وله خليفة يقوم مقامه في غيبته ويعاونه في مهماته. وكان الرئيس يتأمر على أصحاب القوارب وينظم أسفارهم، والقوارب كانت ملكا لأصحابها، والرئيس والخليفة لهما عدد وافر منها في غالب الأحيان يقود القارب عدد من البحارة منهم من يتولى زمام القارب ويقوده، ويسمى «مول الدمان» وإذا رسا مركب حاملا السلع بعيدا من المرسى، اتفق الرئيس مع الخليفة على ثمن السفرة. وإذا حصل الوفاق أخذ أصحاب القوارب يحملون السلع والمسافرين إلى البر، والبحرية كان لهم رئيس هو الذي كان يفرق عليهم أجورهم مما اقتضاه من صاحب المركب، وكانت لـ«الديوانة» إدارة تشتغل بمسائل «الديوانة»، كقبض الأعشار ومراقبة السلع الواردة والصادرة، وعلى رأسها موظف مخزني يسمى أمين «الديوانة»، يعينه جلالة السلطان ويعين له راتبا مخزنيا.

وكان تحت أمره «أمين الأمناء»، ومعه عدلان مشتغلان بالكتابة وتحرير رسوم «الديوانة»، وتلقي شهادة أصحاب السلع لأجل الأعشار، وكانت لهما حسابات وكنانيش.

ومع الأمين المذكور أمناء تحت أمره أقل منه رتبة، منهم من يتقاضى الواجبات المخزنية، ومنهم من يتكلف بالوزن والحسابات ويسمى «مول الميزان». وكان أمين «الديوانة» يقبض المستفادات كالمكوس وواجب اللحوم، وكان يؤجر الموظفين المخزنيين ويوقف السلع المحرمة الداخلة والخارجة خفية، ويبيعها بالسمسرة. ومن مصلحة «الديوانة» قبض الأعشار المخزنية على السلع الواردة على المغرب والقيام بحراسة التخوم المغربية من مرور البضائع وتتبع دخولها إن لم يعشر عليها، وتثقيف السلع التي يمنع القانون ورودها أو صدورها أو بيعها».

لا يوجد وصف أدق لأجواء ميناء الدار البيضاء قديما، قبل مائتي سنة تقريبا، أبلغ من هذا الوصف الذي جاء في «عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار آنفا والشاوية عبر العصور»، لصاحبه هاشم المعروفي.

هذه الوثيقة التاريخية بالغة الأهمية، تصف كيف كان ميناء الدار البيضاء يشتغل أيام «المخزن» الذي جعل من المرسى التاريخي موردا لمداخيل الدولة، وتحول مع سلاطين الدولة العلوية، خصوصا بعد سنة 1880، إلى قطب اقتصادي عوض الخسائر التي تكبدها المغرب، بسبب أوضاع مرسى الصويرة الذي عصفت به عوامل تاريخية وسياسية معقدة سببها التدخل الأجنبي.

ميناء الدار البيضاء أثار أطماع الفرنسيين قبل الحماية، وخططوا مليا للاستيلاء عليه، نظرا إلى موقعه والمكانة التي يحتلها في الاقتصاد البحري في المحيط الأطلسي، وهكذا كان مؤتمر الجزيرة الخضراء في يناير 1906، مناسبة لكي تطبق فرنسا خطتها، وتشرف من خلال شركة مغربية على أشغال ترميم هذا الميناء وإصلاحه. لكن بعد قصف الجيش الفرنسي للدار البيضاء، عقب المؤتمر بسنة واحدة فقط، على خلفية الاعتداء على فرنسيين وإسبان داخل المدينة، أصبح مرسى الدار البيضاء من الماضي، وقامت فرنسا ببناء الميناء على الطريقة العصرية، ليصبح قبل سنة 1920 أحد أقوى الموانئ في العالم وأكثرها شهرة، وقبلة لكبار التجار والشركات العالمية المتخصصة في الاستيراد والتصدير. وبعد الحرب العالمية الثانية وخلالها أيضا، كان ميناء «كازا بلانكا» قبلة للجواسيس.

 

الحملات التطهيرية التي جعلت «المرسى» في قلب التاريخ

تبقى الحملة التطهيرية لسنة 1996، والتي اتُهم وزير الداخلية القوي إدريس البصري باستغلالها لتصفية حساباته مع خصومه وأعدائه، آخر حملة مراقبة وتقليب لوثائق ميناء الدار البيضاء. لكن قبلها، كانت هناك حملات أخرى كثيرة طالها النسيان وطواها التاريخ، قبل ثلاثة قرون تقريبا.

إذ إن مرسى الدار البيضاء، بشكله القديم والتقليدي، كان دائما مسرحا لأحداث عصفت بموظفين مخزنيين قدامى، بسبب التجاوزات واختلاس أموال «الديوانة» بشكلها القديم.

بل إن إصلاحات مخزنية دخلت التاريخ، واعتبرها الباحثون مغاربة وأجانب ثورة في منظومة «المخزن» المغربي.

إذ إن موظفي المخزن، بعضهم على الأقل، ممن عملوا في مرسى الدار البيضاء، كانوا يضعون أيديهم على قلوبهم كلما تعلق الأمر بحملة مراقبة. إذ إن العقوبات بعدها تكون مشددة، إلى درجة أن أحد موظفي المخزن ذهب إلى الحج، وسمع بأمر الإصلاحات ولم يقو على العودة إلى المغرب، إلا بعد أن أرسل رسالة إلى السلطان المولى الحسن الأول، يتأكد فيها أن رأسه ليس مطلوبا.

هذا الموظف اسمه الأمين بن التهامي المديوني، وحفظت رسالته في الأرشيف ضمن رسائل المولى الحسن الأول سنة 1885، وجاء فيها قوله:

«وبعدُ فإني أنهي إلى علم مولانا الشريف أني رجل وحداني ولي أولاد صغار لم يسعني التسوف عليهم، وما حضرت مجلس مولانا العالي بالله عند تعيين الأمناء والأشياخ لقبيلتنا، حتى وافاني الظهير بالخدمة الشريفة مع جملة من تعيين الأمناء والأشياخ. فعليه، فقد بذلت مجهودي في خدمة مولانا وما قصرت في ما أمرت به من الجانب العالي بالله، حتى ضيعت أولادي في ما لا بد منه من المؤن والكسوة وغير ذلك، سيما أني رجل أمي لا أفقه في الكتابة والتقييد والحساب وما يحتاج إليه الكناش. ولا قدرت على الخدمة. وعليه، فنطلب من سيادة مولانا الإمام أن يريحني من هذه الخطة ويمنحني مقابلة أولادي وأنا في حرم الله والنبي.. (..) وأن تمتعني بالأمان دام الله عزك. وأطلب من مولانا الإمام أن يمن علي بظهير شريف فيه التوقير لي ولأخي عبد الفضيل، وبه وجب إعلام مولانا نصره الله..».

كان طلب الإعفاء هذا موجها إلى المولى الحسن الأول، والسبب هو المعارك الطاحنة بين موظفي المخزن. والمثير في الموضوع أن صاحب الإعفاء طلب هذا الأمر من الحج، وظل ينتظر الجواب. إذ لم يقو على العودة، إلا بعد أن تأكد فعلا أنه تم إعفاؤه.

قصة «عدل» أشرف على مرسى الدار البيضاء

رغم أن ميناء الصويرة كان يستأثر بحصة مهمة من المبادلات التجارية منذ القرن السابع عشر، إلا أن ميناء الدار البيضاء كان أحد أعمدة اقتصاد المغرب قبل عهد المولى الحسن الأول، والذي حكم المغرب إلى حدود سنة 1894. ففي تلك الفترة كان ميناء الدار البيضاء قد سحب البساط من المراسي المغربية الأخرى، رغم أن ميناء الصويرة منذ تأسيسه، كان الهدف منه السيطرة المغربية على المبادلات التجارية واستقطاب كبريات الشركات الأوروبية لإقامة علاقات تجارية مع المغرب، بإشراف تجار يهود مغاربة عهد إليهم القصر الملكي منذ تأسيس الميناء واستقرارهم في الصويرة، بالإشراف على الاتفاقيات وعقود الاحتكار. لكن أمام تداعيات اقتصادية وتحولات سياسية كثيرة، واتهامات لبعض التجار بالتلاعب بالسجلات وفرار آخرين إلى أوروبا، أمثال التاجر مقنين وأفلالو، بعد ثبوت اختلاسهم للأموال، كلها عوامل جعلت ميناء الصويرة يتراجع، تاركا الصدارة لميناء الدار البيضاء.

من بين أشهر من أشرفوا على الأمور القانونية لميناء الدار البيضاء، نجد العلامة أبو عبد الله بن أحمد الرغاي، وهو من أبرز وأشهر علماء الرباط وأدبائها الذين أثروا الخزانة المغربية بمؤلفات شتى. ورغم انكبابه على العلم، إلا أنه اشتغل عدلا في مرسى الدار البيضاء، ووضع ما سُمي وقتها «خطة العدالة»، وأشرف عليها في الميناء سنة 1893، أي سنة واحدة فقط قبل وفاة السلطان الحسن الأول.

هذا العدل عُهد إليه بالإشراف على التعاقدات التي كانت تبرم في الميناء بين التجار، والعقود التي تربط الميناء مع الأطراف الأخرى، وتنظيم العلاقات بين التجار وأصحاب السفن، وهي مهمة إدارية كان الغرض منها القطع مع سلوكات اختلاس موظفي الجمارك للضرائب، إذ إن المولى الحسن الأول كان قد توعد بعقاب موظفين ثبت اختلاسهم لخزينة المرسى والتصرف في سجلات المبادلات وعائدات الضرائب، وباشر إصلاحات كثيرة في هذا الباب، وهي الإصلاحات التي قام بها القصر منذ عهد المولى إسماعيل للقطع مع تلك الممارسات، لكنها كانت تعود إلى الظهور بين الفينة والأخرى.

أبو عبد الله الرغاي كان من أشهر من تولوا الإشراف على إدارة مرسى الدار البيضاء، ولعل ما أكسبه هذه الشهرة، أنه من آخر الذين أشرفوا على ميناء الدار البيضاء قبل إعادة إصلاحه على يد الفرنسيين وبدء أشغال توسعته.

إذ إن هذه الأشغال همت تطوير الميناء إداريا، وليس شكلا فقط. لكن الأحداث السياسية التي عرفها المغرب بعد سنة 1906، جعلت تلك الأشغال تتوقف قبل أن تُستأنف مرة أخرى، وينتج عنها ميناء الدار البيضاء الذي كان انطلاقة الحماية الفرنسية في المغرب رسميا بعد 1912. إذ في هذه السنة، كان ميناء الدار البيضاء إدارة فرنسية كل أطرها فرنسيون، ولم يكن فيها مكان للمغاربة سوى في الأشغال الشاقة والاعمال اليدوية، بينما تحولت إدارة الميناء وسجلاته وكل ما يتعلق به من آليات عصرية إلى يد الفرنسيين، بموجب معاهدة الحماية.

 

الجزيرة الخضراء.. مؤتمر أسفر عن تأسيس ميناء «كازا بلانكا»

في يوم 16 يناير 1906 بدأت أولى جلسات مؤتمر الجزيرة الخضراء، الذي حضرته تمثيليات دبلوماسية عن أقوى الدول الأوروبية، للبت في المستقبل الاستعماري والاقتصادي للمغرب. كانت فرنسا مصممة على حيازة البلاد وجعلها تابعة لها، بينما كان البريطانيون يلعبون ورقتهم الأخيرة لضمان موطئ قدم يسيطرون من خلاله على بوابة القارة الإفريقية. في حين كان الألمان يحاولون الانتقام مما كانوا يرون فيه «جورا» في توزيع غنائم المستعمرات مع جيرانهم الأوروبيين.

وبين هؤلاء جميعا، كان المغرب يحاول الخروج بأقل الخسائر.

كانت الرؤية الأوروبية تخطط لجعل المغرب بلدا على الطريقة الأوروبية، بينما الفرنسيون كانوا يملكون تصورا شاملا عن المغرب الذي يريدونه. بل إن ساستهم كانوا مقتنعين بأن العائق الوحيد بينهم وبين المغرب لم يكن سوى مسألة تسوية الأوراق مع بقية القوى الأوروبية، لكي يبدؤوا مباشرة أشغال تنزيل رؤيتهم الاقتصادية والسياسية.

كان ميناء الدار البيضاء، كما تصوروه، هو مفتاح احتلال المغرب.

إذ كانوا يخططون لجعله قوة اقتصادية كبيرة، يسيطرون من خلاله على الحركة البحرية في المحيط الأطلسي.

وفعلا كان ميناء الدار البيضاء في أقل من عشر سنوات على اتفاق الجزيرة الخضراء، معلمة للوجود الفرنسي ليس في المغرب فقط، وإنما في كل القارة الإفريقية.

كيف مرت إذن أجواء مؤتمر الجزيرة الخضراء، الذي كان انطلاقة وبداية تأسيس ميناء الدار البيضاء؟

الكلام هنا للصحافي الإيطالي «لويجي برزيني»، نقلا عن مذكراته «تحت الخيمة»، والتي ترجمها إلى العربية الباحثان المغربيان مصطفى نشاط ورضوان ناصح. هذا الصحافي قال عن أجواء مؤتمر الجزيرة الخضراء في يناير 1906، المناسبة التي حفزته لكي يهرب من أجواء الاجتماعات والنفاق الدبلوماسي، ويقرر السفر إلى المغرب واستكشافه، ما يلي:

«كنت ملحقا بالمؤتمر الدولي الشهير بالجزيرة الخضراء بصفتي مراسلا لصحيفة Corriere» «della Sera، وبعد أن سمعت الدبلوماسيين يرددون هناك لشهور آراء متباينة حول المغرب – كنت أرسلها عبر التلغراف-، وبعد أن عرفت مختلف الأفكار حول هذا البلد الذي كان محور النقاش، أحسست برغبة جامحة في التعرف عليه عن قرب. (..) كنت سعيدا للفرار من الجزيرة الخضراء، لأنني لن أضطر إلى الهرولة، وأنا أتنقل بين الوفود لسماع حديث تافه وممل، أجبر على إرساله عبر الأسلاك وخيوط الاتصال، وسعيدا لأنني لن أقضي ساعات طويلة بالبهو الرمادي لقصر «كونسيستوريال» في انتظار خروج شخصيات رسمية بالقبعات الدائرية المليئة بالأسرار، ولأنني لن أحضر اجتماعات ولقاءات مشبوهة مع الدبلوماسيين الذين لا يقولون تقريبا أي شيء، وإن قالوه فبحذر. ثم لأنني لن أقوم بمقابلات تافهة، إذا لم ترسل التلغراف، سيعتبرونك غير ذي جدوى، وإذا أرسلت، ستعتبر حينها عديم اللياقة. وكنت سعيدا أيضا لأني لن أكون موجودا ببهو فندق الملكة كريستينا الشهير، وأنا أتربص ظهور أعضاء وفود الدول للحديث عن «طبيعة الوضع، ونحن نتقاسم الإحساس بملل كبير. كما كنت سعيدا بالتحرر من خدمة مرهقة وغير مجدية، والتي إن أُنجزت بشكل جيد، تزيد من متاعبها بملاحقة مصالح الشرطة السياسية لنا».

اتفاقية الجزيرة الخضراء أعطت الأولوية لفرنسا في المغرب، أمام دول أوروبية أخرى. وشملت الوثيقة التي وقعتها الأطراف ثلاثة بنود تحكمت لاحقا في شكل الدار البيضاء ودورها الاقتصادي، ومينائها بطبيعة الحال. وهذه البنود تمثلت في أن تسيطر فرنسا عسكريا على الجمارك وحركة الميناء، لكي تضمن فرنسا استعادة ديونها من المغرب. وأن تتكلف شركة مغربية، تتحكم فيها فرنسا، في أشغال تطوير ميناء الدار البيضاء، أي أن المغرب سيتحمل التكلفة، وأن يتكلف الفرنسيون بتعيين قوات أمنية مختلفة وظيفتها الوحيدة الإشراف على الميناء وتأمينه. وهكذا فإن اتفاق الجزيرة الخضراء كان الغرض منه أساسا تأسيس ميناء الدار البيضاء.

كان هذا الصحافي في رحلته لاستكشاف المغرب، على موعد مع التاريخ لكي يرى بعينيه آخر معالم مغرب ما قبل الحماية الفرنسية. سنة بعد زيارته تلك، سوف تقصف القوات الفرنسية مدينة الدار البيضاء، وتبدأ مباشرة أشغال بناء الميناء الجديد على الطراز الفرنسي، بعد أن حولت الميناء القديم، بكل تاريخه وقصصه الضاربة في القدم، إلى كومة من الرماد.

 

 

1907.. قصف البيضاء خطة تاريخية مهدت لبناء «ميناء فرنسا»

في شهر أبريل من سنة 1907، بدأت أشغال تطوير ميناء الدار البيضاء. كان سكان المدينة التي تحيط عمليا بالميناء كما لو أنها تطوقه (هكذا وصفها جل المستكشفين والرحالة الأجانب قبل الحماية الفرنسية)، يراقبون بفضول كبير تحركات الآليات التي جاءت من فرنسا لإنجاز أشغال توسعة الميناء وتطويره، لكي يسع السفن الفرنسية الضخمة. الأشغال كانت تهم أيضا إضافة أقسام جديدة ومكاتب لاحتواء الأعداد الكبيرة للموظفين، المزمع تعيينهم للإشراف على المعاملات المالية والاقتصادية للميناء الجديد.

وفي الوقت الذي كانت فيه الأشغال في بدايتها، كانت القوات الفرنسية تطوق المكان وتقيد حرية تنقل سكان الدار البيضاء، وهو الأمر الذي أثار حفيظتهم، بل إن قبائل الشاوية أحست بالإهانة بعد سيطرة «جيش فرنسا» على محيط الميناء وتحويله إلى ملحقة فرنسية لأشهر، من أبريل إلى بداية غشت.

وهكذا بدأت أحداث التمرد.

بعض المعطيات التاريخية تقول إن مقتل طبيب فرنسي في مراكش، زاد من تأجيج الأحداث وعمق من رغبة فرنسا في الانتقام لما أسمته الصحف الفرنسية وقتها «مذابح الدار البيضاء». حيث قُتل مواطنون فرنسيون يقيمون في الدار البيضاء، وإسبان أيضا. وقُتل موظفون يعملون في أشغال الميناء. المعطيات التاريخية تؤكد أن تسعة أوروبيين كانت تربطهم عقود مع الشركة المغربية المكلفة بالأشغال لقوا حتفهم أيضا، وذُبحوا على أيدي الثوار.

قررت فرنسا أن ترد بقصف عسكري شامل،

وفعلا، بدأ القصف ما بين الخامس والسابع من غشت.

الصحافي البريطاني «لاورنس هاريس» تناول في مذكراته «خلف الكواليس في فاس»، أحداث القصف التي دمرت مدينة الدار البيضاء، وكانت بداية لإعادة بنائها كليا من جديد على الطراز الفرنسي، ووضع ميناء فرنسي جديد كُليا. يقول هذا الصحافي ناقلا شهادة رجل مغربي أطلق عليه اسم سي عزيز، وكان شاهد عيان على أعمال الشغب واغتيال الأجانب التي ردت عليها فرنسا بالقصف العسكري:

«من كان يستطيع البقاء في الدار البيضاء بعد أن نزل فيها أصحاب الأسلحة المدوية التي تهدم المنازل بطلقة واحدة؟ أتذكر جيدا كيف أن السيد «مادن» توجه إلى تلك السفن وطلب منهم التوقف عن قصف المدينة. رجعت إليها بعد أن توقف القصف، غيرت هندامي ولم يتعرف علي أحد.. كنت أتجول في المدينة وكانت الشوارع مليئة بالجثث وآثار إطلاق النار. رأيت القائد، سي بوبكر، رفقة خدامه يشرف على جمع الجثث من الشوارع. اختفيت عن الأنظار في منزل مهجور أطل من النافذة، ورأيت الجنود الأوروبيين يقتلون كل شيء أمامهم. أحد اليهود سمع صوت الجنود قادمين في الشارع، فأخرج رأسه من نافذة منزله صائحا: «عاش الفرنسيون»، وكرد على ترحبيه فقد أصابته رصاصة في الرأس.

بقيت متخفيا في ذلك المنزل طيلة أيام، أراقب رأس اليهودي في البيت المقابل، مدلى من النافذة. الجنود الفرنسيون حيوانات، كانوا متوحشين وحولوا المدينة إلى خراب حقيقي. رحلت إلى مراكش بعدها، وكان الفرنسيون قد قتلوا عددا كبيرا من رجال قبيلة الشاوية، أما القتلى في صفوفهم فقد كانوا قليلين جدا. فررنا كي ننجو بأرواحنا. مولانا السلطان عبد الحفيظ كان حكيما، وعرف كيف يتعامل مع هؤلاء النصارى».

 

من رحلات الحج إلى «شُبهات» العمليات السرية

بعد 1912، أصبح ميناء الدار البيضاء معلمة شهيرة من معالم المدينة، على الطراز الفرنسي.

كل مكاتب الميناء صارت عصرية، وأحدث آليات الملاحة البحرية كانت تبرز على سطح بنايات المكاتب، بالإضافة إلى الرصيف العصري الذي بُني لأول مرة في المغرب. باختصار، كان ميناء الدار البيضاء ضربا من وجوه الحداثة الأوروبية في قلب المغرب.

سرعان ما أصبح المغاربة يركبون السفن الفرنسية والأوروبية، بعد أن كان السفر بحرا قطعة حقيقية من العذاب. ومع حلول ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كانت كبريات شركات النقل البحري الفرنسي قد فتحت مكاتب لها في ميناء الدار البيضاء، بل وقدمت عروضا تفضيلية للمغاربة خلال مواسم العمرة والحج، وصار الأعيان المغاربة يحجزون أجنحة السفن الفرنسية، بعد أن كان السفر عبرها غير مألوف بالنسبة إلى المغاربة، وخلقت حركة رواج بحري غير مسبوق في المغرب.

وبعد سنة 1948، أصبحت بعض الصحف القادمة من الشرق، من مصر خصوصا، تروج بشكل سري بين الوطنيين والقوميين المغاربة، أخبارا مفادها أن ميناء الدار البيضاء عرف عمليات تهريب سرية ليهود أوروبا نحو الأراضي المحتلة، تمهيدا لاستقرارهم في فلسطين.

وازدادت حدة تلك الروايات مع بداية ستينيات القرن الماضي، عندما هاجر اليهود المغاربة، سيما منهم الذين كانوا يعيشون في الدار البيضاء وعددهم بالآلاف، عبر ميناء الدار البيضاء.

كانت جل عمليات الترحيل سرية، بل إن بعض اليهود لم يكونوا يعرفون حتى الوجهة التي يراد نقلهم إليها، وتم استعمال ميناء الدار البيضاء لنقل المسافرين.

وخلال فترة الحرب العالمية الثانية، كان ميناء الدار البيضاء هدفا لجواسيس أوروبا، خصوصا الساعين خلف النازيين بعد سقوط هتلر. وقد ذكر كثيرون منهم في مذكراتهم أن أشهر جواسيس بريطانيا وأمريكا لاحقوا الألمان الفارين من أعوان النازية، عبر ميناء الدار البيضاء، بحكم أن الميناء يوجد في قلب الخريطة، وتلتقي فيه سفن تتحرك في كل الاتجاهات، سواء عبر البحر المتوسط وصولا إلى أوروبا وآسيا، أو عبر المحيط الأطلسي وصولا إلى أمريكا.

وهنا كانت تكمن أهمية ميناء الدار البيضاء، الذي أوحى إلى مخرجين عالميين بتصوير قصص الجاسوسية التي كانت موضة رائجة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهو ما سلط الضوء على الدور الكبير الذي لعبه ميناء الدار البيضاء، الذي كان «مرسى» تحيط بها الأطماع من كل جانب، قبل قرن من الزمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى