قصة الأمريكيين الذين «حققوا» معي ليعرفوا حقيقة وجود «شيوعيين» بين لاجئي تطوان

يونس جنوحي
«الماريكان» وتُهمة الشيوعية..
المعلوم أن الأمريكيين جاؤوا إلى المغرب يوم 8 نونبر 1942، بعد الإنزال العسكري الشهير الذي عُرف باسم عملية «طورش» على شواطئ كل من فْضالة وآسفي والقنيطرة -بور ليوطي سابقا- وأيضا الدار البيضاء، واستغرق أسبوعا كاملا. كان هذا في إطار التدخل الأمريكي في الحرب العالمية الثانية التي حُسمت لصالح الحلفاء وأسقطت النازية.
أسس الأمريكيون قواعدهم العسكرية في المغرب، وأشهرها قاعدة القنيطرة. بعد الحرب العالمية الثانية، التي وضعت أوزارها سنة 1944، فطن الأمريكيون إلى مسألة وجود «الشيوعية» التي كانوا يعتبرونها العدو الجديد للعالم الحر. انتبه الأمريكيون إلى نشاط اللاجئين إلى المنطقة الإسبانية في تطوان، سنة 1954، لكن أكثر ما جعلهم يتحركون لمعرفة ما يدور هناك، توصلهم بمعلومات مفادها أن تطوان صارت موطنا جديدا للمقاومين الذين يحاربون فرنسا في الدار البيضاء، على الخصوص، وأرادوا أن يعرفوا ما إن كنا «شيوعيين» أم «رأسماليين».
أذكر أن إشاعة سرت بقوة في الكاريان سنطرال ما بين سنوات 1948 و1953، روجها الفرنسيون بحكم أن أغلب سكان الكاريان كانوا من عمال المصانع، وينخرطون بقوة في العمل النقابي. والمعروف أن العمل النقابي، عندما تأسس لأول مرة في المغرب، كان على يد النقابيين الفرنسيين، وهؤلاء كانت نسبة كبيرة منهم من الشيوعيين.
لذلك تملك الأمريكيين القلق بشأن مرجعيتنا الفكرية والسياسية، عندما صرنا لاجئين في تطوان.
وصلنا خبر اقتراب مجيء وفد أمريكي لزيارة اللاجئين في تطوان، ولم يفصح أحد عن مسألة الشيوعية في البداية.
لكن أحمد زياد كان صحافيا متقد الذكاء، وفهم بسرعة المغزى من زيارتهم المرتقبة إلى تطوان، فرفض استقبالهم ببساطة.. لكن لا بد أن يسأل عنه أحدهم، بحكم أنه أول من جاء إلى تطوان، وأيضا بحكم أنه صحافي، والمفروض أنه مسؤول عن تمثيل اللاجئين والحزب في مثل هذه المناسبات. وقال للأخ العرفاوي أن يخبر أي أحد يسأل عنه في تطوان، أنه ذهب في زيارة إلى مدريد، واختفى عن الأنظار.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن أحمد زياد «ورطني» في هذه المهمة. فقد اقترح على الأخ العرفاوي أن أتكلف أنا باستقبال وفد الأمريكيين. قال له ما معناه إن الشاب الزنفري المصور يعرف المدينة جيدا، ويعرف كل اللاجئين، وأنه الأنسب لكي يأخذ الأمريكيين في جولة.
وهنا أفتح قوسا لكي أؤكد أن أحمد زياد لم يكن يخشى لقاء الأمريكيين، لكنه لم يكن يريد أن يُضر الإخوان اللاجئين. ففضل الاختفاء عن الأنظار، حتى لا يستنتج الأمريكيون معلومات من محاورته، أو يقع سوء فهم معهم. ورشحني لهذه المهمة لأنني كنت شابا صغير السن، ولن أفيد هؤلاء الأمريكيين في شيء. هكذا قرأتُ الموقف في حينه.
وهكذا جاء عندي الأخ العرفاوي وقال لي:
-«ألقاك غدا في مقهى كونتينونتال».
وضرب لي موعدا هناك في ساعة محددة. كانت هذه المقهى خاصة بالنوع الراقي من الزبائن العصريين، ولم يكن يتردد عليها إلا المُتعلمون والشخصيات والموظفون. وكانت تقع في مكان استراتيجي، في الشارع الرئيسي للمدينة، وكان وقتها هذا الشارع الكبير يحمل اسم الجنرال فرانكو.
جهزتُ نفسي للموعد. وجاء عندي العرفاوي لاصطحابي إلى المقهى، وذهبنا معا إلى هناك.
لم نكد نجلس إلى إحدى الطاولات، حتى دخل الأمريكيون، وكانوا ثلاثة. ومعهم رجل طنجاوي.. لم يخبرنا باسمه. وتولى الترجمة.
قال لنا المترجم إن الأمريكيين يريدون الذهاب إلى مدينة شفشاون، وطلب مني العرفاوي أن أرافقهم إليها. وفعلا ذهبتُ معهم، وأذكر أننا نزلنا في فندق «بالادور». هناك اكتشفتُ أنهم كانوا قد حجزوا الغرف بشكل مسبق، بل وكانت مُعدة لاستقبالهم، وفيها أغراضهم أيضا.
والطريف أنني لم أصطحب معي أي أغراض نهائيا. لم أفكر في شيء. كل ما كنت أحمله معي كان سلاحي، وهو آلة التصوير التي لم تكن تفارقني نهائيا.
بعد أن تناولنا طعام الغداء، اقترح عليّ المترجم أن أرافقهم إلى إحدى القاعات. وعندما وصلنا اكتشفتُ أن القاعة مجهزة بطاولة وكراس جلدية فخمة.
ما أن دخلنا حتى اتجه إليّ المُترجم بالحديث، قائلا:
-«الله يخليك.. نُريد أن نعرف بعض الحقائق، وهذا هو الغرض من الزيارة. وقد قيل لنا إن الشخص المكلف بالتواصل مع الإسبان وممثل اللاجئين يوجد في مدريد».
أجبته:
-«نعم هذا صحيح».
-«أريد منك أن تتحدث معنا بصراحة، وأن ترد على الأسئلة بصدق».
ولا زلت أذكر جوابي في تلك اللحظة. فقد قُلت له بالحرف:
-«كُنْ متيقّنا.. لن أقول لك إلا الحقيقة».
وقد كنت فعلا صادقا في نيتي، ولم أكن أخطط لتضليلهم أو مدهم بالأكاذيب. كنت مستعدا لقول حقيقة الوضع الذي نعيشه في تطوان كما هو.
وبالمقابل، قلتُ للمترجم:
-«وأنا أيضا بدوري أضع ثقتي فيك. وألتمس منك أن تنقل كلامي إليهم بأمانة. وإذا رأيت في كلامي ما يتوجب أن يُصحح، أرجو أن تحرص على هذا الأمر».
لم أتبين الوظيفة أو المناصب الحقيقية لهؤلاء الأمريكيين، لكن أعتقد أن واحدا منهم كان يشتغل في السلك الدبلوماسي.
قال لي المُترجم الطنجاوي ما معناه أن أتريث في الرد على الأسئلة، وأن آخذ وقتي كاملا، وأشار أيضا إلى أن في جُعبتهم أسئلة كثيرة جدا.
بدأوا يطرحون الأسئلة:
-«كيف تنظرون إلى السلطان».
قلتُ له إننا نحب السلطان، ولا نرى أي سلطان يأتي محله أو يجلس على العرش بدلا منه.
أعاد الأمريكي صياغة سؤاله بدهاء، دائما على لسان المُترجم:
-«لكن هذا السلطان لم يعد موجودا. لقد نفته فرنسا».
فأجبتُ:
-«ومن تكون فرنسا حتى تقرر في من يكون سلطانا لنا؟».
طلبتُ من المترجم أن يوصل للأمريكيين هذه الفكرة بالذات:
-«إننا نؤمن إيمانا صادقا أن السلطان سوف يعود إلى العرش. وحتى إن لم يعد، فإننا سوف نعمل على نفي فرنسا. وسوف نتخلص من جيشها أيضا».
ما أن نقل المترجم كلامي، حتى انفجر الأمريكيون ضحكا.
بعد ذلك، استمرت الأسئلة عادية بشأن عددنا والظروف التي نعيش فيها، إلى أن حاولوا مفاجأتي بسؤال:
-«كم عدد اللاجئين منكم مُنخرطون في الحزب الشيوعي؟».
وكان جوابي كالآتي:
-«من الممكن أن تكون الشيوعية عندكم أنتم الأمريكيين، لكن ليس عندنا نحن. نحن مُسلمون، والدين الإسلامي ضد الشيوعية. كونوا على يقين أنكم لن تجدوا أي شيوعي في بلادنا».
بدا لي أن الأمريكي، الذي كان يطرح الأسئلة، لم يرقه جوابي، أو لم يتقبله على الأرجح. كان ينتظر أن يسمع جوابا مغايرا. واستنكر ردي ولاحظتُ أنه خاطب المُترجم لأول مرة بنبرة غاضبة.
قال لي المُترجم إن الأمريكي يؤكد لي وجود شيوعيين في المغرب.
قُلت له مناورا:
-«أنا قبل أن آتي إلى تطوان، كنت في الدار البيضاء. وهناك لم ألتق أي شيوعي نهائيا. أرجو أن تخبرني باسم شيوعي مغربي واحد إن كان هناك شيوعيون مغاربة».
فطن الأمريكي إلى مناورتي، واستمر في طرح الأسئلة، وكان محورها جميعا هو الشيوعية. وكنت دائما أتمسك بالجواب نفسه:
-«لا وجود للشيوعية في المغرب لأننا مسلمون. قد تجدها في الدول الأوروبية لأنهم نصارى. أما الإسلام لا يعترف بالشيوعية».
استمرت الجلسة طيلة المساء، ومنها خرجنا لتناول طعام العشاء. وضربنا موعدا في العاشرة صباحا من اليوم الموالي، وانصرفنا لكي نرتاح.
في الصباح جلسنا في الفندق، وسألتُ المُترجم ما إن كان الأمريكيون تضايقوا من الأجوبة التي أدليتُ لهم بها، فأجاب بالنفي.
كانوا ثلاثتهم مُنشرحين، ولا تبدو عليهم أي دلالة على الضيق.
واستأنفوا الأسئلة مرة أخرى، وسألوني مجددا إن كنت متيقنا فعلا أن السلطان سيدي محمد بن يوسف سوف يعود إلى العرش.
أعتقد أنهم كانوا يريدون معرفة رأي الشباب في مسألة نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف، ومدى إيمانهم بالقضية.
كان جوابي أن المغاربة جميعا والمغرب كاملا متيقنون أن السلطان لا بد أن يعود إلى العرش. وأنا لستُ إلا واحدا من المغاربة.
بل أضفت أن مغاربة المنطقة الشمالية التابعة لإسبانيا أيضا، بدورهم على يقين أن السلطان لا بد أن يعود إلى العرش. وأن الأمر لا يقتصر فقط على المغاربة الموجودين في المنطقة الفرنسية. وطلبتُ منهم أن يجربوا ويسألوا الناس بأنفسهم.
ثم انتقلوا إلى سؤالي عن مدى معرفتي بوجود قواعد عسكرية أمريكية في المغرب. وأجبتُ بأنني أعرف القاعدتين المشهورتين اللتين يعرفهما كل المغاربة. الأولى في القنيطرة والثانية في الدار البيضاء.
وفي الأخير، وهذا ما أثار استغرابي بقوة، سألني الأمريكي سؤالا له دلالات:
-«إذا افترضنا عاد السلطان إلى المغرب، ماذا سيكون موقفكم من الأمريكيين الذين يملكون قواعد عسكرية في المغرب؟».
قُلت له إنني لا أستطيع الرد على هذا السؤال، ولا أملك له جوابا. وأضفت قائلا ما معناه أن من جاء بالأمريكيين إلى هنا هو المعني بهذا السؤال ولسنا نحن.





