
يونس جنوحي
في واحدة من أطرف الوقائع، وأبلغها أيضا، يصف السفير الراحل، محمد التازي، جانبا من الكواليس التي عاشها رفقة الحسن الثاني في جلساته الخاصة، والتي كان أغلبها موزعا بين القصر الملكي في الرباط وقصر الصخيرات.
هنا يحكي التازي واقعة جرى فيها إنصاف أحد أشهر الشعراء الوطنيين المغاربة، بعد أن كادت الدسائس أن توقع بينه والملك الراحل.
يحكي التازي هذه الواقعة في أوراقه الشخصية:
«وفي عام 1989 كنت شاهدا على واقعة مليئة بالعبر، كاشفة لبعض جوانب شخصية جلالته..
في إحدى جلساتنا مع جلالته في قصر الصخيرات، تقدم من جلالته السيد عبد الوهاب بنمنصور وأسرّ لجلالته ما لم يسمعه سواه، وإذا بملامح جلالته يبدو عليها الانفعال والغضب. ففهم الحاضرون أن أمرا خطيرا هذا الذي أسر به مؤرخ المملكة، وساد صمت رهيب قطعه
جلالته قائلا:
-«غريب أمر بعض الناس، علمت أن وزارة الثقافة ستكرم أحد الشعراء الأفارقة. فقلت لنكرم أولا شعراءنا وكُتابنا. ثم نكرم سواهم. لأن عدم الاهتمام بأدبائنا وكتابنا لا يليق بنا. وأمرت أن تكرم وزارة الثقافة الشاعر محمد الحلوي. والآن يبلغني بنمنصور أن الحلوي رفض التكريم الذي أمرت به. إن أمرنا بتكريمهم رفضوا، وإن لم نكرمهم انتقدوا».
وتبارى بعض الحاضرين في النقد والتجريح واقتراح العقوبات، وإذا بجلالته يتوجه إليّ بالحديث قائلا:
-أتعرفه آ التازي؟
فأزاح عني ما شعرت به من ضيق وألم مما سمعت من انتقاداته للشاعر الحلوي، وقلت إن هذا الحلوي الذي يرفض تكريم سيدنا نصره الله لا أعرفه، أما الحلوي شاعر العرش والوطنية، فيستحيل استحالة قطعية أن يرفض تكريم سيدنا له.
قبل الاستقلال، وبحلول شهر نونبر، كنا نتوقع حدثين هامين أحدهما سياسي وهو خطاب للعرش، والثاني أدبي وهو قصيدة الشاعر محمد الحلوي مع الفارق الكبير في المقارنة. وكانت قصيدة الحلوي تشغل المجال الأدبي والنقدي شهورا. وكانت الرقابة تحذف منها عند النشر أبياتا عديدة فتُطبع في مناشير وتوزع على الخلايا الوطنية لقراءتها وشرحها.
هذا الشاعر، يا مولاي، لا يبلغ طموحه وتشوقه إلى أكثر من أن يكرمه أمير المؤمنين، فلا يعقل أن يرفض.. وإن ثبت أنه فعل، فلا جزاء له إلا أن يعالج في مصحة عقلية. فهل تأكد سيدنا نصره الله من أن الوزير اتصل به وأبلغه الأمر الملكي السامي؟
وأنا أتكلم كنت أشعر وكأن جلالته يرغب في أن أواصل دفاعي عن الرجل الغائب، والذي أكدت لجلالته أني لا أعرفه شخصيا ولا أذكر أني التقيت به من قبل. فأمر جلالته السيد بنمنصور أن يتصل بنفسه بالشاعر الحلوي، ويستقصي منه الخبر اليقين. وتركنا جلالته، وإذا ببعض الحاضرين يقبلونني ويشكرونني على دفاعي عن إنسان غائب، وسارعت إلى الاتصال بالأستاذ عبد الكريم غلاب الذي يعرف كيف يتصل بالحلوي، ويطلعه على الأمر، وبعد ساعة اتصل بي الأستاذ غلاب وأخبرني أن لا أحد اتصل بالحلوي وأبلغه بالأمر الملكي، كل ما في الأمر أن موظفا بوزارة الثقافة أبلغه أن الوزارة تفكر في تكريمه وأنه اعتذر.
بعد أيام، وكنا في القصر الملكي بالدار البيضاء، سيطلع علينا جلالته مبتسما، منشرحا وهو يحمل رسالة في يده وقال:
-آ التازي معك حق في موضوع الحلوي، فقد نفى لبنمنصور أن يكون أبلغ بأمرنا بتكريمه، وبعث لنا رسالة بليغة يشرح فيها عواطفه ومحبته لنا وتعلقه بالعرش.
فقلت لجلالته:
-لقد قيل لي إنه مريض بالسكر، فأصدر أمره السامي بتتبع حالته وتقديم كل ما يحتاجه من علاج.
وأترك القصة تتحدث بوقائعها عن إنسانية جلالته، وتبصره وتأنيه في اتخاذ أي قرار إلا بعد استكمال موضوعه من كل جوانبه، فلا أثر للانفعال السريع في مواقفه، وإذا أشير عليه برأي لا يرفضه اعتباطا، وإنما يستمع لك في انتباه يقظ».





