قوانين مثيرة للجدل تدخل حيّز التنفيذ
تتعلق بالمسطرة الجنائية والعقوبات البديلة والحق في ممارسة الإضراب

تزامنا مع الدخول السياسي والاجتماعي، سيتم الشروع في تنفيذ مجموعة من القوانين المثيرة للجدل، التي صادق عليها البرلمان في السنة الماضية، ويأتي على رأسها القانون التنظيمي للإضراب الذي دخل حيّز التنفيذ الأسبوع الماضي، وهو قانون طال انتظاره لمدة تزيد عن 60 سنة، وعجزت الحكومتان السابقتان عن إخراجه إلى الوجود منذ التنصيص عليه في دستور سنة 2011، كما دخل حيّز التنفيذ، في شهر غشت الماضي، القانون المتعلق بالعقوبات البديلة.
وأثار هذا القانون جدلا كبيرا إثر إدخال تعديلات عليه، خاصة شراء العقوبات الحبسية. ويأتي هذا المشروع في إطار إصلاح المنظومة القانونية الجنائية للحد من ظاهرة الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية. وسيدخل قانون المسطرة الجنائية حيّز التنفيذ شهر دجنبر المقبل، وكان بدوره موضوع انتقاد واحتجاجات من طرف جمعيات حماية المال العام، لما يتضمنه من مقتضيات تحد من تقديم الشكايات المتعلقة بالجرائم المالية. أما قانون المسطرة المدنية فعاد إلى نقطة الصفر بعد صدور قرار عن المحكمة الدستورية يقضي بعدم مطابقة مجموعة من مواد القانون للدستور، وبالتالي سيعود هذا القانون إلى المؤسسة البرلمانية من أجل المصادقة على ملاءمة المواد المخالفة للمقتضيات الدستورية، وفق ملاحظات وتوصيات المحكمة الدستورية.
إعداد: محمد اليوبي – النعمان اليعلاوي
قانون المسطرة الجنائية المثير للجدل يدخل حيز التنفيذ في دجنبر المقبل
بعد جدل رافق مساره التشريعي منذ عرضه على البرلمان، صدر القانون رقم 03.23 القاضي بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، ضمن الجريدة الرسمية عدد 7437 الصادرة بتاريخ 8 شتنبر 2025، على أن يدخل حيّز التنفيذ بعد ثلاثة أشهر من نشره. غير أن القانون الجديد، الذي يشكل الإطار الإجرائي لممارسة الدولة لحقها في العقاب، لم تتم إحالته على المحكمة الدستورية من طرف الجهات المخول لها ذلك بموجب الفصل 132 من دستور المملكة، في خطوة اعتبرها متتبعون مثيرة للتساؤل، سيما أن القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة المدنية أُحيل على المحكمة ذاتها قصد الفحص والتدقيق.
وفي وقت سابق، دعت هيئات مدنية وحقوقية إلى إحالة القانون الجديد على القضاء الدستوري للتحقق من مدى دستورية بعض مواده، خصوصًا المادتين الثالثة والسابعة، اللتين اعتبرتا مثارًا للخلاف بين مختلف الفاعلين. فالمادة الثالثة جاءت لتؤكد أن الجرائم المتعلقة بالمال العام لا يمكن أن تكون موضوع أبحاث أو دعوى عمومية إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيسًا للنيابة العامة، وذلك بناءً على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بطلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية. ويرى منتقدو هذه المادة أنها قد تفتح المجال لتأويلات ضيقة في تتبع ملفات الفساد المالي، وتحدّ من إمكانية المبادرة القضائية في قضايا حساسة تهم الرأي العام.
أما المادة السابعة، فاشترطت توفر الجمعيات الراغبة في التنصب كطرف مدني على إذن خاص من وزارة العدل، إلى جانب إثبات شرط «المنفعة العامة»، وهو ما وصفته منظمات حقوقية وجمعوية بـ«القيود الإضافية» التي من شأنها التضييق على المجتمع المدني والحد من أدواره الرقابية.
من جهتها، اعتبرت وزارة العدل أن اعتماد هذا النص يشكل «محطة تاريخية» في مسار تحديث العدالة المغربية. وأوضحت الوزارة، في بلاغ رسمي، أن القانون الجديد يترجم الإرادة السياسية القوية، بقيادة الملك محمد السادس، لترسيخ دولة المؤسسات، وتعزيز الثقة في القضاء ومواكبة التحولات العميقة التي تشهدها المملكة. وأكد وزير العدل عبد اللطيف وهبي أن القانون يمثل «ركيزة أساسية في البناء الإصلاحي الكبير الذي تعرفه بلادنا، ويعكس ثقة الدولة في مؤسساتها وقدرتها على تنزيل إصلاحات كبرى تجعل من العدالة المغربية نموذجًا يحتذى به إقليميًا ودوليًا».
وكان المجلس الوطني لحقوق الإنسان أوصى بتعديل المادة الثالثة المثيرة للجدل، والتي تنص على أنه «لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك». ويقترح المجلس الإبقاء على سلطة النيابة العامة في إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية تلقائيا في شأن الجرائم الماسة بالمال العام وإلغاء شرط الإحالة المسبقة من جهات رقابية محددة.
وقدم المجلس مقترحات لتعديل المادة السابقة، تتجلى في إلغاء شرط الإذن المسبق من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل، واعتماد نظام الإخطار بدلا من الترخيص، لضمان استقلالية الجمعيات في التقاضي، وإلغاء شرط الاعتراف بصفة المنفعة العامة كشرط مسبق لتدخل الجمعيات كطرف مدني، واستبداله بمعيار الأهلية القانونية، بحيث يسمح لجميع الجمعيات المؤسسة بصفة قانونية، والتي ينص قانونها الأساسي على الدفاع عن الفئات المتضررة، بالتقاضي دون الحاجة إلى إذن إداري مسبق. ويقترح المجلس، كذلك، اعتماد معيار التخصص بدلا من الاعتراف الإداري، بحيث يسمح للجمعيات بالتدخل في القضايا التي تتعلق بمجال نشاطها وأهدافها المحددة في أنظمتها الأساسية، دون الحاجة إلى الحصول على صفة المنفعة العامة، ما يضمن مشاركة جمعيات أكثر تخصصا وخبرة في القضايا ذات الصلة، وإلغاء شرط مرور مدة معينة على تأسيس الجمعية كشرط لممارسة حق التقاضي والاكتفاء باستيفاء الشروط القانونية للتأسيس والتجديد.
وأوضح المجلس أن مذكرته الحقوقية تستند إلى منظومة مرجعية متكاملة تشمل الدستور المغربي والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها المملكة، والمعايير الدولية ومبادئ «منديز» وتوصيات الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، فضلا عن الممارسات والاجتهادات القضائية الفضلى؛ مضيفا أن هذه التوصيات تهدف إلى تعزيز ضمانات العدالة الجنائية وتكريس مبدأ دولة الحق والقانون.
وأشار المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى أن توصياته وملاحظاته توزعت على 79 توصية خاصة تتناول مقتضيات صريحة محددة في مشروع القانون، و24 توصية عامة تتعلق بقضايا بنيوية واستراتيجية لم يشملها المشروع، لكنها تستدعي المعالجة لضمان التوافق مع المعايير الدستورية والدولية؛ مبرزا أن التوصيات 42 تغطي موضوعا رئيسيا، وتتفرع عن أربعة مبادئ أساسية تتعلق بـ«تكريس مبدأ دولة الحق والقانون»، و«ضمانات المحاكمة العادلة»، و«التكافؤ والتوازن بين أطراف الدعوى» و«الشمولية ومراعاة الفئات الهشة».
ففي ما يتعلق بتكريس مبدأ دولة الحق والقانون، أوضح المجلس أن من بين مقترحاته، في هذا السياق، «التنصيص على إمكانية الاستماع إلى المشتبه فيه دون إخضاعه للحراسة النظرية وضمان حقوق الدفاع، وإقرار حق المشتبه فيه في الإعلام الفوري بمدة الحراسة النظرية وشكليات تنفيذها، وإمكانية الطعن أمام جهة قضائية مستقلة، بما يكرس مبدأ الشفافية والرقابة القضائية المتبادلة».
وفي ما يرتبط بالتكافؤ والتوازن بين أطراف الدعوى، أوصى المجلس، على الخصوص، بتمكين الدفاع من الاطلاع على ملف الشرطة القضائية المحال إلى النيابة العامة، بما يمكنه من إعداد دفاعه بفعالية ومواجهة أدلة الاتهام في ظروف متكافئة، وتمكين الجمعيات المدنية من الولوج إلى القضاء دون قيود إدارية، خاصة إلغاء شرط الإذن المسبق من الجهة الحكومية المكلفة بالعدل، واعتماد نظام الإخطار بدلا من الترخيص، بما يكرس استقلالية الجمعيات في ممارسة حق التقاضي.
من جهتها، أوصت الهيئة الوطنية للنزاهة ومكافحة الرشوة بالتنصيص على تعليق العمل بالتقادم في جرائم الفساد، أو على الأقل احتساب سريانه بالنسبة لهذه الجرائم ابتداء من تاريخ اكتشافها، أو ابتداء من ترك الوظيفة بأي شكل من الأشكال، باعتبار أن الاستمرار في الوظيفة يشكل فرصة للتستر على جرائم الفساد وإخفائها.
ودعت الهيئة إلى الالتفات إلى مجموعة من الإشكاليات التي تطرحها الآجال القانونية المحددة لتقادم العقوبات المطبقة على هذه الجرائم عندما يتعلق الأمر بعقوبة المصادرة، التي ترى الهيئة استثناءها من مقتضيات التقادم العادي، وذلك إما بالتنصيص على تعليق العمل به بالنسبة لهذه العقوبة، أو على الأقل بالتنصيص على مدة مساوية للتقادم المنصوص عليه في قانون المسطرة المدنية بالنسبة للأحكام المتعلقة برد وإرجاع الأموال إلى المتضررين المطالبين بها.
ودعت الهيئة إلى الحفاظ على حق جمعيات المجتمع المدني في الانتصاب كطرف مدني، واجب معياري بمكانة متميزة في منظومة المكافحة، وتعتبر الهيئة أن التعديلات التي جاءت بها المادة 7 والرامية إلى اشتراط حصول الجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة على إذن بالتقاضي من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل حسب الضوابط التي يحددها نص تنظيم لانتصابها كطرف مدني، من شأنها أن تحد من إمكانيات انتصابها كطرف مدني أمام القضاء، وأن تمس بمكانة هيئات المجتمع المدني الجادة، سواء من جانب مكانتها الدستورية، أو من جانب المقتضيات القانونية ذات الصلة بالحريات العامة، خاصة وأن الهيئة ترى أن التراجع عن صيغة النص الحالي للمادة 7 لا يستند على مبررات قوية داعمة له، وبالتالي ترى الهيئة أن هذا المقتضى سيشكل تضييقا غير مستساغ على حق الجمعيات الجادة في الانتصاب كطرف مدني، ولو لمجرد مظنة اعتبار الإذن المطلوب قد يخضع لتقديرات غير قضائية يتولاها جهاز تنفيذي.
ودعت الهيئة إلى عدم التضييق على المتضررين من جرائم الفساد، وتعتبر أن التعديل القاضي بإلزام الطرف المدني، الذي يقيم الدعوى أمام قاضي التحقيق أو أمام هيئة الحكم، بتضمين مذكرته المعلومات المتعلقة بهوية المتهم ووقائع القضية المعروضة والتكييف القانوني لها والأدلة والمستندات المدعمة لها، يصل، بحسب صياغة نص المشروع، إلى مستوى «أن يضع شرطا تعجيزيا» من شأنه أن يؤدي إلى عرقلة الولوج إلى القضاء. وأكدت الهيئة أن هذا التعديل لا يستند إلى أي دراسة موضوعية تبرر هذا التحول عما أقره القانون والعمل القضائي منذ مدة، وخاصة في سياق جرائم فساد ليس بإمكان المشتكي العلم بحيثياتها وتفاصيلها.. لأن من خصائصها أن ترتكب في سرية تامة أو باتفاق بين أطراف متواطئة، أو بالتحايل على مساطر قانونية أو بالتداخل مع جرائم أخرى، ويتعدد فاعلوها وتتنوع مراكزهم القانونية وتتفاوت درجة مساهمتهم أو مشاركتهم في الجريمة؛ الأمر الذي يجعل تكليف المتضرر بتحمل عبء التكييف القانوني لوقائعها والإدلاء بالتفصيلات الواردة في المشروع أمرا شبه مستحيل، ما قد يساهم بالتالي في تحجيم إحدى أهم القنوات المتاحة للتحقيق والحكم في جرائم الفساد والكشف عن مرتكبيها، مع العلم أن التكاليف الإجرائية، التي جاء بها هذا التعديل، تعتبر من صميم مهام البحث والتحري التي يضطلع بها ضباط الشرطة القضائية.
قانون العقوبات البديلة.. رهانات التطبيق بعد دخوله حيز التنفيذ
بعد مصادقة البرلمان على قانون العقوبات البديلة ونشره في الجريدة الرسمية، يكون المشرع قد خطا خطوة وُصفت بالتاريخية في مسار تحديث المنظومة الجنائية، وإدماج فلسفة جديدة للعقاب تقوم على إصلاح الجاني بدل الاقتصار على معاقبته. فالقانون الذي انتظره الحقوقيون والمهنيون طويلا يهدف إلى مواجهة الاختلالات العميقة التي يعرفها نظام العقوبات السالبة للحرية، وعلى رأسها الاكتظاظ المزمن داخل السجون، وما يترتب عليه من آثار اجتماعية واقتصادية ونفسية معقدة، حيث سجلت تقارير رسمية أن عدد نزلاء المؤسسات السجنية يفوق طاقتها الاستيعابية بكثير، ما ينعكس سلبا على جودة التأهيل وإعادة الإدماج.
القانون الجديد جاء بمجموعة من البدائل التي تتدرج بين العمل لأجل المنفعة العامة، والغرامات اليومية، وتقييد بعض الحقوق، مع إتاحة إمكانية إخضاع المحكومين لتدابير بديلة كالمراقبة الإلكترونية أو برامج للتكوين وإعادة التأهيل، وذلك بالنسبة إلى عدد من المخالفات والجنح التي لا تتجاوز عقوبتها الحبسية سنتين.
وبهذا التصور، يسعى المشرع إلى إرساء عدالة جنائية أكثر نجاعة، تراعي مبدأ التناسب بين الفعل المرتكب والعقوبة المفروضة، وتفتح في الوقت نفسه أفقا لإصلاح المحكوم عليهم، وإعطائهم فرصة للاندماج من جديد في المجتمع.
غير أن تنزيل هذا القانون يطرح رهانات كبرى تتجاوز مجرد المصادقة عليه، أو نشره في الجريدة الرسمية. فالتجارب الدولية أظهرت أن العقوبات البديلة لا تنجح، إلا إذا توفرت بنية تحتية مؤسساتية ومجتمعية قادرة على استيعابها. في المغرب، يُطرح أولا تحدي التهيئة القانونية والمؤسساتية، إذ سيكون على القضاء والنيابة العامة وهيئة الدفاع التكيف مع فلسفة جديدة للعقاب، تبتعد عن المنطق التقليدي القائم على السجن باعتباره العقوبة الأولى، نحو البحث عن بدائل تراعي المصلحة العامة وتحقق الردع، دون حرمان الفرد من حريته بشكل تلقائي.
كما يطرح القانون رهانا مرتبطا بالإمكانات المادية والبشرية، خاصة أن تطبيق عقوبة العمل لأجل المنفعة العامة، أو المراقبة الإلكترونية، يتطلب وجود مؤسسات استقبال ومرافق قادرة على استيعاب المحكومين وتوجيههم، إضافة إلى آليات تتبع ورقابة لضمان جدية التنفيذ. هذا الأمر يقتضي رصد ميزانيات إضافية، وتكوين أطر متخصصة في التتبع الاجتماعي والنفسي، حتى لا يتحول النص القانوني إلى مجرد حبر على ورق.
من جهة أخرى، هناك رهانات مرتبطة بمدى تقبل المجتمع لهذا التحول. فالرأي العام المغربي اعتاد أن ينظر إلى السجن باعتباره الشكل الطبيعي للعقاب، وقد يعتبر أن بدائل مثل الغرامة اليومية، أو العمل لأجل المنفعة العامة أقل قسوة ولا تحقق الردع الكافي. وهذا ما يستدعي حملة تواصلية واسعة لتغيير هذا التصور، والتأكيد على أن الهدف من العقوبة ليس الانتقام وإنما الإصلاح، وأن المنفعة العامة تتحقق أحيانا بشكل أفضل عبر تشغيل المحكومين في خدمة المجتمع، أو إخضاعهم لتكوين مهني، عوض دفعهم إلى بيئة سجنية قد تزيد من احتمال عودتهم إلى الجريمة.
كما يثير القانون نقاشا حقوقيا حول ضمانات المحاكمة العادلة أثناء تطبيق هذه البدائل، ومدى مراعاة مبدأ المساواة أمام القانون. فمثلا، عقوبة الغرامة اليومية قد تطرح إشكالا في حال تطبيقها على أشخاص ذوي دخل محدود، مقابل آخرين ميسورين، ما قد يؤدي إلى تفاوت في الأثر العقابي. ومن هنا تبرز أهمية اجتهاد القضاة في ملاءمة العقوبة مع الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للمحكوم عليهم، مع توفير آليات للمساعدة الاجتماعية، حتى لا تتحول البدائل إلى مصدر جديد للتهميش.
ولعل أكبر رهان يطرحه تنزيل قانون العقوبات البديلة يكمن في قدرته على المساهمة في تقليص الاكتظاظ داخل السجون بشكل ملموس، وهو المطلب الذي لطالما نادت به تقارير رسمية، منها المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمندوبية العامة لإدارة السجون. فإذا تمكنت هذه العقوبات من تقليص أعداد المحكومين بالسجن في قضايا بسيطة، فإن ذلك سيسمح للمؤسسات السجنية بالتركيز على إعادة تأهيل السجناء المدانين في قضايا خطيرة، وتخصيص موارد أكبر لتحسين ظروف الاعتقال وإعادة الإدماج.
في المقابل، حذر بعض الحقوقيين من أن النجاح الحقيقي للقانون لن يتحقق بمجرد صدوره، بل يرتبط بمدى الالتزام بتفعيله على أرض الواقع، وتجنب نزوع بعض القضاة إلى الاستمرار في الاعتماد على العقوبات السجنية، باعتبارها الحل الأسهل والأكثر أمانا من الناحية الإجرائية. لذلك، تبرز الحاجة إلى تكوين مستمر للقضاة ووكلاء الملك وهيئات الدفاع، وإلى تطوير اجتهاد قضائي يكرس تدريجيا ثقافة العقوبات البديلة.
ويجمع المراقبون على أن المغرب يقف أمام فرصة حقيقية لتجديد فلسفة العقاب والعدالة الجنائية، إذا ما نجح في تنزيل هذا القانون بشكل فعلي، عبر تعبئة مختلف المتدخلين، من قضاة ومحامين وفاعلين اجتماعيين ومؤسسات عمومية وخاصة. فالتحدي لا يقتصر على إصدار نص تشريعي، بل يتطلب إرادة سياسية واضحة لتبني بدائل أكثر إنسانية وفعالية، تتماشى مع الالتزامات الدولية للمغرب في مجال حقوق الإنسان، ومع حاجيات المجتمع في بناء عدالة أكثر إنصافا ونجاعة.
إن تنزيل قانون العقوبات البديلة بعد المصادقة عليه ونشره في الجريدة الرسمية يشكل بلا شك محطة فارقة في تاريخ السياسة الجنائية المغربية، غير أن نجاحه رهين بمدى القدرة على تجاوز العقبات المرتبطة بالتمويل والتأطير والتوعية، وبمدى استعداد المجتمع والقضاة على السواء لتبني هذه الفلسفة الجديدة. وبين التفاؤل والحذر، يبقى الأمل معقودا على أن يشكل هذا القانون بداية مسار لإصلاح عميق يوازن بين الردع والإصلاح، ويعيد الاعتبار للعدالة الجنائية كأداة لتحقيق الأمن المجتمعي، لا مجرد وسيلة للزجر والعقاب.
تنزيل قانون الإضراب بالمغرب بين رهانات التنظيم واتهامات التقييد
يشكل قانون الإضراب أحد أبرز النصوص التشريعية المثيرة للجدل في المغرب، منذ أكثر من عقدين، بالنظر إلى حساسيته المباشرة وارتباطه بحق أساسي نص عليه الدستور، باعتباره وسيلة مشروعة للعمال والأجراء للدفاع عن حقوقهم وتحقيق مطالبهم.
غير أن كل محاولة لإخراج هذا النص إلى الوجود كانت تقابل بموجات من الاحتجاج والرفض النقابي، وهو ما يتجدد اليوم مع النسخة الأخيرة من المشروع التي أحالتها الحكومة على البرلمان، وسط اتهامات بأنها جاءت خارج منهجية التشارك التي يفرضها الحوار الاجتماعي، ومطالب بإعادة النظر في مقتضيات اعتبرتها النقابات تضييقا على الحق في الإضراب.
ينص الفصل 29 من دستور 2011 بوضوح على أن «حق الإضراب مضمون»، مع ترك مهمة تحديد شروط وكيفيات ممارسته للقانون التنظيمي. ورغم مرور أكثر من 12 سنة على اعتماد الدستور، لا يزال هذا القانون موضوع شد وجذب بين السلطة التنفيذية والنقابات. فالمشرع الدستوري اعتبر الإضراب من الحقوق الأساسية إلى جانب حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتأسيس الجمعيات، ما يجعل أي قانون يحدد هذا الحق مطالبا بالانسجام مع روح الدستور واحترام المرجعيات الدولية، التي صادق عليها المغرب.
منذ تقديم الحكومة السابقة أول مسودة رسمية للقانون، اعتبرت المركزيات النقابية أن المشروع يفرغ الحق في الإضراب من مضمونه، من خلال تضمينه مقتضيات وصفوها بـ«الزجرية»، مثل فرض إشعار مسبق قد يصل إلى 30 يوما قبل أي إضراب، وتجريم بعض أشكال الاحتجاج باعتبارها «عرقلة لحرية العمل»، إلى جانب منح صلاحيات واسعة للقضاء في وقف الإضرابات، بدعوى تهديد النظام العام أو المصلحة الاقتصادية.
وترى النقابات أن هذه المقتضيات تُحَوِّلُ الحق الدستوري إلى استثناء، وتضع قيودا تجعل ممارسة الإضراب شبه مستحيلة، سيما في القطاعات الحيوية التي تم توسيع مفهومها بشكل كبير في النص، بحيث تشمل التعليم والصحة والنقل والطاقة. وهذا التوسيع اعتبرته النقابات التفافا على جوهر الحق وإفراغا له من أي فعالية نضالية.
واحدة من أبرز النقاط التي أثارت استياء النقابات هي ما وصفته بـ«تهميش المقاربة التشاركية»، إذ تم إعداد المشروع داخل دوائر حكومية ضيقة، دون إشراك فعلي للنقابات في بلورته منذ البداية. واعتبرت هذه الأخيرة أن الأمر يتعارض مع التزامات الحكومة في الحوار الاجتماعي، والتي تنص على ضرورة التشاور والتفاوض حول القوانين المؤثرة بشكل مباشر على الطبقة العاملة.
وعبرت قيادات نقابية عن رفضها لما وصفته بـ«فرض الأمر الواقع»، معتبرة أن الحكومة تعاملت مع مشروع قانون الإضراب كأنه نص إداري تقني، في حين أنه قانون مجتمعي بامتياز يمس التوازن بين الحقوق والواجبات داخل عالم الشغل، كما أن الانتقادات لم تأت فقط من النقابات، بل انخرطت فيها هيئات حقوقية وخبراء في القانون الدستوري. فقد ذهب بعضهم إلى اعتبار المشروع الحالي غير دستوري، لكونه يقيد حقا مضمونا في الدستور بمقتضيات تجعل ممارسته معقدة ومثقلة بالشروط الشكلية. كما حذر آخرون من أن تمرير نص بهذه الصيغة قد يُعَرِّضُ المغرب لانتقادات دولية، خاصة من منظمة العمل الدولية التي تتابع عن كثب التشريعات الوطنية المتعلقة بحقوق العمال.
وأشار خبراء قانونيون إلى أن منطق العقوبات الذي يغلب على المشروع، سواء ضد النقابات أو الأجراء، يتعارض مع فلسفة التنظيم الدستوري التي تقوم على توسيع الحقوق والحريات، معتبرين أن المقاربة الزجرية ستؤدي في النهاية إلى مزيد من التوترات الاجتماعية بدل إرساء السلم الاجتماعي.
من جهتها، تدافع الحكومة عن مشروع القانون باعتباره خطوة ضرورية لتنظيم ممارسة الإضراب، وحماية الاقتصاد الوطني من الانعكاسات السلبية للإضرابات غير المنظمة. وتؤكد أن غياب إطار قانوني منذ الاستقلال خلق فراغا استغل أحيانا في شن إضرابات عشوائية، أو دون إشعار مسبق، ما أدى إلى خسائر مالية معتبرة وتضرر مصالح المواطنين، خصوصا في قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والنقل.
وترى الحكومة أن المشروع يهدف إلى إرساء توازن بين ضمان الحق في الإضراب وحماية حرية العمل والحق في الخدمة العمومية، ورغم هذه التطمينات، تعرف الساحة الاجتماعية منذ أشهر حالة من الاحتقان، حيث نظمت عدد من النقابات وقفات احتجاجية ومسيرات للتنديد بالمشروع، والمطالبة بسحبه وإعادة صياغته بشكل تشاركي. وتؤكد هذه النقابات أن معركتها ليست ضد تنظيم الإضراب في حد ذاته، بل ضد ما تعتبره «محاولة لتجريم الإضراب وضرب أحد أعمدة العمل النقابي».
المحكمة الدستورية تبطل قانون المسطرة المدنية وتعيده إلى نقطة الصفر
أصدرت المحكمة الدستورية قرارا يقضي بعدم دستورية مجموعة من مقتضيات القانون رقم 23.02 المتعلق بالمسطرة المدنية، الذي صادق عليه مجلسي البرلمان قبل اختتام السنة التشريعية الماضية، وبالتالي سيعود هذا القانون إلى المؤسسة البرلمانية من أجل المصادقة على ملاءمة المواد المخالفة للدستور وفق ملاحظات وتوصيات المحكمة.
وأعربت وزارة العدل عن ترحيبها بقرار المحكمة الدستورية بشأن مشروع القانون، وأكدت أن هذا القرار يشكل محطة دستورية هامة في مسار البناء الديمقراطي وتعزيز الضمانات القانونية داخل المنظومة القضائية الوطنية، كما أكدت الوزارة احترامها الكامل لاختصاصات المحكمة الدستورية واستقلالها، فإنها تعتبر أن هذا القرار يعكس حيوية المؤسسات الدستورية للمملكة، ويجسد روح التفاعل الإيجابي بين السلط، في إطار احترام مبدأ فصل السلط، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات.
وأبرزت وزارة العدل أن المسار التشريعي لمشروع قانون المسطرة المدنية طبعته مقاربة تشاركية موسعة، ومداولات غنية سواء داخل الحكومة أو المؤسسة التشريعية، وقد حرصت الوزارة خلال مختلف مراحل إعداد المشروع على الاستماع لملاحظات وتوصيات كافة الفاعلين، بمن فيهم ممثلو السلطة القضائية والهيئات المهنية والمنظمات الحقوقية، وجددت الوزارة التزامها بمواصلة العمل في إطار روح الحوار المؤسساتي البنّاء، من أجل ملاءمة النصوص القانونية مع أحكام الدستور، وتطوير تشريعات تواكب التحولات المجتمعية وتُكرّس مبادئ الأمن القضائي، والشفافية، والنجاعة في أداء مرفق العدالة.
وأشارت الوزراة إلى أنها ستتخذ التدابير القانونية والمؤسساتية اللازمة، بالتنسيق مع كافة المتدخلين، من أجل تكييف المقتضيات القانونية موضوع القرار، في احترام تام لما قضت به المحكمة الدستورية، وفي إطار الاستمرارية التشريعية التي تضمن تطوير منظومة العدالة بما يخدم مصلحة المتقاضين ويُعزز مسار الإصلاح الشامل.
ويتضمن المشروع مجموعة من المستجدات تهدف إلى مراجعة القانون الحالي، قصد تحيين مقتضياته لتتلاءم والمعطيات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، وأوضحت المذكرة التقديمية للمشروع أن هذه التعديلات تهدف إلى معالجة مظاهر الخلل التي كشفت عنها الممارسة القضائية والتي ساهمت في الهدر المسطري من خلال تعقيد الإجراءات، والبطء في المساطر وفي تنفيذ الأحكام، كما يهدف هذا المشروع إلى تبسيط الإجراءات وضمان شفافيتها وسرعتها، وتنظيمها بشكل يحقق الغاية منها، مع الحرص على اعتماد مصطلحات واضحة في مدلولها ودقيقة في معانيها تفاديا للاختلاف في التفسير والتباين في الاتجاهات.
ومن أبرز المستجدات التي جاء بها المشروع، التنصيص على إعطاء القاضي المدني دورا أكثر إيجابية في سير المسطرة مع تفعيل دوره في تجهيز القضايا، واتخاذ الإجراءات المناسبة من خلال تحقيق الدعوى، وتقليص حالات صدور الأحكام بعدم القبول، والتنصيص على إمكانية اعتماد المعلومات المتوفرة بقاعدة المعطيات المتعلقة بالبطاقة الوطنية للتعريف الالكترونية في حالة تعذر التبليغ متى تبين أن المدعى عليه مجهول بالعنوان الوارد بالاستدعاء أو انتقل منه، مع اعتبار العنوان المنصوص عليه في البطاقة الوطنية للتعريف الإلكترونية هو العنوان المعتمد في جميع الإجراءات القضائية.
وعلى مستوى تنزيل مبدأ وحدة القضاء، تم دمج المقتضيات المتعلقة بقضاء القرب والمحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية والمحاكم التجارية ومحاكم الاستئناف التجارية في صلب مشروع قانون المسطرة المدنية بدل الإبقاء عليها متفرقة في نصوص خاصة، وتم إسناد الاختصاص للمحاكم الابتدائية للنظر في القضايا المدنية والاجتماعية وفي قضايا الأسرة وفي قضايا قضاء القرب وفي القضايا الإدارية والتجارية المنوطة بالأقسام المتخصصة بها وفي جميع القضايا التي تسند إليها بمقتضى نص خاص، وتم إسناد الاختصاص للمحاكم الابتدائية التي لا تتضمن اقساما متخصصة في القضاء التجاري بالنظر ابتدائيا مع حفظ حق الاستئناف في القضايا التجارية التي لا تتجاوز قيمتها مائة ألف (100.000) درهم، ونسخ المقتضيات المتعلقة بالغرف الاستئنافية بالمحاكم الابتدائية تبعا لكونها حذفت بمقتضى قانون التنظيم القضائي.
وعلى مستوى الفعالية والنجاعة القضائية، تم اعتماد تبليغ الاستدعاء بواسطة المفوض القضائي بسعي من الطرف المعني، مع إمكانية التبليغ بواسطة أحد موظفي كتابة الضبط أو بالطريقة الإدارية أو عن طريق البريد المضمون أو بأي وسيلة أخرى للتبليغ متى تعذر التبليغ بواسطة المفوض القضائي، وتم التنصيص على مقتضيات تنظم عمل القاضي المكلف بتجهيز وإدارة الدعوى، والاعتماد النشر بالموقع الالكتروني للمحكمة بشأن الإعلان عن البيع بالمزاد العلني للمنقولات والأصول التجارية والعقارات المحجوزة.
وتم التنصيص على وجوب توجيه كتابة الضبط لمقالات الاستئناف إلى محكمة ثاني درجة خلال أجل 15 يوما من تاريخ إيداعها، وفي قضايا الأسرة داخل أجل 10 أيام من تاريخ تقديم الاستئناف، وبالنسبة للأوامر الاستعجالية داخل أجل أقصاه سبعة أيام من تاريخ تقديم الطعن، وبالنسبة للأوامر بناء على طلب داخل أجل ثلاثة أيام من تاريخ الاستئناف على أن بيت الرئيس الأول في هذا الاستئناف بالنسبة للأوامر بناء على طلب داخل أجل 15 يوما من تاريخ توصل كتابة الضبط بالملف، وبالنسبة للاستئناف في مسطرة الأمر بالأداء داخل أجل أقصاء ثلاثة أيام أما بالنسبة لمحكمة النقض، فيتعين توجيه مقال الطعن إلها داخل أجل 15 يوما من تاريخ إبداع الطعن.
كما تم التنصيص على صدور الأمر في الأوامر المبنية على طلب والمعاينات فورا أو في اليوم الموالي لتقديم الطلب على الأكثر، مع إمكانية منح أجل للإدلاء ببعض البيانات غير التامة أو المستندات الضرورية داخل أجل لا يتعدى ثمانية أيام تحت طائلة عدم القبول، وتحديد أجل لسقوط الأمر الصادر بناء على طلب إذا لم يطلب تنفيذه خلال 30 يوما من تاريخ صدوره وذلك تفاديا لبعض الحالات الصادرة فيا أوامر بالحجوز على أموال منقولة أوعقارية، أو بالتقييد الاحتياطي دونما مواصلة الإجراءات أمام القضاء الموضوع المختص تحديد أجل ثلاثة أيام من جواب أو سكوت القاضي لإحالة طلب التجريح إلى المحكمة المختصة على أن تبت هذه الأخيرة في التجريح داخل غرفة المشورة خلال أجل 10 أيام، بالإضافة إلى التنصيص على استئناف أوامر قاضي التنفيذ الصادرة في صعوبات التنفيذ الوقتية أمام الرئيس الأول لمحكمة ثاني درجة داخل أجل 10 أيام من تاريخ صدورها، مع ضرورة البت فيها على وجه السرعة.
ومن بين المستجدات الواردة في المشروع، إحداث مؤسسة جديدة لقاضي التنفيذ، حيث تم التنصيص على تحديد اختصاصات قاضي التنفيذ والمسطرة المتبعة أمامه، وكذا القواعد العامة للتنفيذ الجبري، كما يتضمن المشروع مستجدات تهدف إلى حماية حقوق المتقاضين، من خلال التنصيص على عدم إمكانية التصريح بعدم قبول الدعوى في حالة انعدام الأهلية أو الصفة أوالمصلحة أو الإذن بالتقاضي إذا كان ضروريا إلا إذا أنذرت المحكمة الطرف المعني بتصحيح المسطرة داخل أجل تحدده ما لم يكن أحد الأطراف قد أثار هذا الدفع، والحكم على كل من يتقاضى بسوء نية بغرامة مدنية تتراوح ما بين عشرة آلاف (10.000) درهم وعشرين ألف (20.000) درهم لفائدة الخزينة العامة بصرف النظر عن التعويض الذي يمكن أن يطالب به المتضرر.
وينص المشروع على إدماج التقاضي الإلكتروني ورقمنة الإجراءات القضائية المدنية، وذلك من خلال إدماج وسائل التواصل الإلكتروني في الإجراءات القضائية المدنية وتوظيف التبادل الإلكتروني للمعطيات في تعامل المحاكم مع المحامين والخبراء والمفوضين القضائيين والأطراف، وإحداث منصة إلكترونية رسمية للتقاضي عن بعد واعتماد الحساب الإلكتروني المهني والبريد الإلكتروني والعنوان الإلكتروني والتوقيع الإلكتروني، حسب الحالة بالإضافة إلى استخدام الوسائل الإلكترونية في عمليات البيع بالمزاد العلني وإجراءات التبليغ والإشهار.
ثلاثة أسئلة لمحمد ألمو*:
غياب الإشراك في صياغة القوانين يهدد جودة التشريع ويعمق فجوة الثقة
كيف تنظرون إلى الأهمية التي يكتسيها مشروع القانون المتعلق بالعقوبات البديلة ومشروع تعديل المسطرة الجنائية في السياق الراهن؟
أولا، يجب التأكيد على أن الساحة التشريعية المغربية تعيش على وقع نقاشات حادة بشأن مشاريع قوانين اعتبرها كثير من المتتبعين مفصلية، مثل مشروع القانون المتعلق بالعقوبات البديلة، ومشروع قانون المسطرة الجنائية، فضلاً عن مشروع قانون الإضراب، الذي ظل مجمداً لعقود قبل أن يتم إخراجه إلى الواجهة من جديد. هذه النصوص، بما تحمله من رهانات تتعلق بحقوق وحريات الأفراد، وبعلاقة الدولة بالمجتمع، وبالتوازنات الاجتماعية الكبرى، تثير جدلاً واسعاً حول منهجية إعدادها، ومدى اعتماد مقاربة تشاركية تضمن مساهمة جميع الفاعلين.
ولا شك أن إدراج العقوبات البديلة ضمن المنظومة الجنائية المغربية يعد تحولاً مهماً في الفكر العقابي. فالسجون المغربية تعاني من اكتظاظ مهول، حيث تشير الأرقام الرسمية إلى أن عدد النزلاء يتجاوز 100 ألف سجين، فيما لا تتجاوز الطاقة الاستيعابية المعلنة نصف هذا العدد. العقوبات البديلة، مثل العمل لأجل المنفعة العامة أو الغرامات اليومية أو المراقبة الإلكترونية، يمكن أن تشكل آلية لتخفيف الضغط على المؤسسات السجنية، وتفتح في الآن ذاته الباب أمام إعادة إدماج حقيقية للمحكوم عليهم في المجتمع.
لكن أهمية هذا المشروع لا تكمن فقط في كونه يخفف العبء عن السجون، بل في كونه يعكس مقاربة جديدة قوامها إعادة تأهيل الفرد بدل الاقتصار على معاقبته. وهو ما ينسجم مع التوجهات الحديثة في القانون الجنائي المقارن، حيث أصبح الهدف هو إعادة الإدماج أكثر من الزجر العقيم.
أما بالنسبة لمشروع تعديل المسطرة الجنائية، فهو يشكل العمود الفقري لأي إصلاح للعدالة الجنائية، لأن المسطرة هي التي تحدد ضمانات المحاكمة العادلة، وحقوق الدفاع، وآجال الاعتقال الاحتياطي، وكيفية ممارسة النيابة العامة لصلاحياتها. وإذا لم تتم صياغة هذا المشروع وفق مقاربة دقيقة ومتوازنة، فإنه قد يؤدي إلى نتائج عكسية، خصوصاً إذا ما تم تغليب منطق السرعة التشريعية على حساب الجودة التشريعية.
ما هي أبرز الملاحظات التي تسجلونها على المنهجية التي اعتمدتها الحكومة في صياغة هذه المشاريع، خاصة في ظل انتقادات واسعة لغياب مقاربة تشاركية؟
أعتقد أن جوهر الإشكال يكمن في أن هذه النصوص ليست قوانين عادية، بل هي قوانين مؤسسة، تؤطر علاقة المواطن بالدولة في أكثر المجالات حساسية: الحرية الفردية، الحق في المحاكمة العادلة، وحق الأجراء في الإضراب. لذلك كان يفترض أن يتم إعدادها بمنهجية تشاركية حقيقية، تضمن مساهمة الهيئات المهنية (هيئة المحامين، القضاة، الباحثين الجامعيين)، والفاعلين النقابيين، ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان.
لكن ما نلاحظه هو أن النصوص غالباً ما تخرج من دوائر مغلقة، ثم تعرض على البرلمان في مسطرة تشريعية سريعة، دون فتح نقاش عمومي واسع. هذا الأسلوب يفرغ الديمقراطية التشاركية من مضمونها، ويجعل القانون أقرب إلى قرار إداري فوقي منه إلى تعبير عن الإرادة العامة.
على سبيل المثال، مشروع قانون الإضراب، الذي ظل يراوح مكانه منذ دستور 1962، يفترض أن يكون ثمرة حوار اجتماعي موسع، لأنه يؤطر أحد أهم الحقوق الدستورية للأجراء. غير أن الصيغة الحالية، كما اطلعت عليها النقابات، اعتبرت مقيدة ومجحفة، لأنها تمنح سلطات واسعة للإدارة في تقييد الإضرابات، وتفرض مساطر مرهقة قد تنسف هذا الحق من أساسه.
غياب المقاربة التشاركية ينعكس في النهاية على جودة النصوص، إذ تصبح غير قابلة للتطبيق أو محل رفض اجتماعي واسع. وتجربة قوانين سابقة تؤكد أن النصوص التي لا تنبني على توافق مجتمعي تعيش أعماراً قصيرة، وتخضع لتعديلات متكررة.
ما المخاطر القانونية والاجتماعية المترتبة عن تنزيل هذه القوانين في غياب توافقات واسعة، وما البدائل التي تقترحونها لضمان فعالية أكبر؟
الخطر الأول هو تعميق الفجوة بين المجتمع والدولة. حين يشعر المواطن أو المهني بأن القانون فُرض عليه من دون استشارته، فإنه يميل إلى مقاومته أو التحايل عليه. هذا ينطبق على الأجراء في مواجهة قانون الإضراب، وعلى المحامين والقضاة في مواجهة قانون المسطرة الجنائية، وعلى الفاعلين الحقوقيين في مواجهة قانون العقوبات البديلة.
الخطر الثاني هو الطعن في دستورية هذه القوانين أو في مشروعيتها المجتمعية. دستور 2011 نص بوضوح على مبدأ الديمقراطية التشاركية، وعلى إشراك المجتمع المدني في إعداد السياسات العمومية. إذا تم تجاوز هذا المبدأ، فإننا نكون أمام نصوص قد تكون معرضة دائماً للجدل القانوني والحقوقي.
أما الخطر الثالث فهو العملي: أي أن هذه النصوص قد تصبح غير قابلة للتنزيل. خذوا مثلاً العقوبات البديلة: إذا لم يتم إعداد بنيات استقبال للمحكوم عليهم بالعمل لأجل المنفعة العامة، وإذا لم يتم وضع آليات دقيقة للمراقبة الإلكترونية، فإن النص سيظل حبراً على ورق، وسيتحول من أداة إصلاح إلى مصدر إرباك إضافي للقضاء.
البديل الذي أقترحه هو اعتماد مقاربة تشاركية فعلية، لا صورية. يجب فتح مشاورات جهوية مع مختلف الفاعلين، وتنظيم مناظرات وطنية حول هذه النصوص قبل إحالتها على البرلمان. كما يجب الاستعانة بالخبرة الأكاديمية في صياغة النصوص، بدل الاكتفاء بالتقنيين داخل الوزارات. وأخيراً، ينبغي أن يكون الهدف هو إنتاج قوانين مستقرة، تحظى بقبول اجتماعي واسع، بدل إنتاج نصوص تثير رفضاً متكرراً.
*محام وباحث في القانون الخاص





