
خالص جلبي
في الجديدة أحاول عبثا أن آوي إلى مقهى بدون مدخنة و(كارو)، والمحاولات جارية للقضاء على هذه العادة القبيحة. في كندا تم إعدام هذه العادة في كل الأماكن العامة، وشركة «بفايزر» بعد نجاحها في القضاء على العنة فملأت مدخراتها من الأورو والذهب بأكثر من مناجم جنوب إفريقيا وفضة البيرو وهرم خوفو وخزائن قارون مجتمعة! تستعد الآن لمغامرة جديدة في الكشف عن سر الإدمان على الدخان؟
وفي الواقع والوقاع؛ فإن حبة فياغرا أثقل في الميزان، وعند بعض الاستعصاءات من ألف دولار. ومن قاد للكشف المبين محض الصدفة والجهد والحظ والتمويل معا. وقد ينجحون في حملتهم الجديدة ضد التبغ والتنباك والسيجار الكوبي، وقد يكون مصيرهم مصير آينشتاين بعد ضربة النسبية، فبقي 30 عاما يفلح في أرض جدباء بدون فائدة، بحثا عن قانون توحيدي يفسر كل قوانين الكون. وهي مهمة ندب نفسه لها، وعلى قدر المشقة العزائم. وقد يضرب معهم الحظ كما حصل مع (هوارد كارتر)، فيكتشف في آخر لحظة قبر توت عنخ آمون بالصدفة، قبل أن يسرحه اللورد كارانارفون بعد أن مل من التمويل وشح النتائج. فلم يصد في 20 سنة سوى عقارب الصحراء وحيات الصل، ولم يستفد من مصر إلا بتحسين نوبة الربو عنده. وبعد الاكتشاف المبين مات اللورد بلدغة حشرة، فقيل إنها لعنة الفراعنة. وهي خزعبلات البشر وخرافاتهم وولعهم بالمجهول. واستفدت من الملهمة الفنانة ديانا جمجموم هذا التحليل عن مشكلة التدخين عسى أن يساهم في الحل، فقد ذكرت أنه تقريبا كل المدخنين بطريقة أو بأخرى لديهم أعراضهم الجسدية. جميعهم جرب الرائحة السيئة للفم والأصابع وضيق الصدر والخوف من السرطان والانتفاخ وضغط الدم ومشاكل القلب، كل منهم لديه شيء من هذا مهما حاول إنكار ذلك أو إخفاء الأعراض. ولقد اختلقوا طرقا عديدة لتسهيل عملية الإنكار، فابتدعوا عدة طرق لإخفاء رائحة النيكوتين من أنفسهم ومن منزلهم وسياراتهم ومكاتبهم. نـظفوا كل مكان واستخدموا معجون الأسنان وغسول الفم والنعناع وقطع الحلوى والعلك والعطور، وفتحوا النوافذ لتجديد هواء المكان واستخدموا آلات تنظيف أثار السجائر أو الخل والنشادر والبخور والشموع المعطرة. ولكن وبعيدا عن تلك المحاولات التي يبذلوها لإزالة آثار إدمان النيكوتين من حياتهم، لا تزال هناك آثار لتلك الرائحة الكريهة في ملابسهم وسياراتهم ومنازلهم ومكاتبهم الخاصة، بالإضافة إلى مساهمتهم في تلويث البيئة المحيطة بنا، سواء بإلقاء الأجزاء المحترقة من التبغ أو أعقاب السجائر، أو بتفريغ غليون التبغ، أو ببصق سائل التبغ بعد مضغه على جانبي الطريق وفي الحدائق أو في أي مكان. حتى سيارتهم أصبحت تشبه مستودع النفايات، حيث رماد السجائر في كل مكان وأعقابها ملقاة هنا وهناك وأيضا أعواد الكبريت المحترقة، فالحقيقة أنه أينما ذهبوا تركوا ركاما من النفايات خلفهم. ربما نغفل الجانب المالي والكلفة التي تصاحب هذا الإدمان القاتل، فالقليلون ينظرون إلى هذا الجانب ويقدرون الأموال التي أنفقت على التدخين، حيث يقدر صرف المدخن لعلبتين يوميا وعلى مدى 20 عاما، فإن مجموع ما صرفه هو مبلغ مقدم لشراء منزل جديد لطالما حلم بشرائه العديد من الأشخاص. كانت الثورة تصيب المدخنين لمجرد الاعتراف بأن للنيكوتين علاقة بالتهاب الشعب الهوائية والتهابات الجيوب الأنفية والإصابة بالبرد والسعال والربو، وتلك الدائرة التي لا تنتهي من الأمراض التي تصيبهم من جراء إدمان النيكوتين، وبالتالي فإنهم أيضا يتجنبوا قراءة التقارير الطبية التي تتناول الآثار المصاحبة لهذا الإدمان. وعلى المستوى النفسي فإن عجزهم عن الهروب من قبضة النيكوتين، ترك تأثيرا مدمرا عليهم وعلى مدى تقديرهم لذواتهم واحترامهم لأنفسهم وحتى حبهم لشخصهم. ولا يدركوا أن عملية الإقلاع عن التدخين عملية بطيئة تحتاج إلى زمن طويل، وحتى مجرد اتخاذ قرار الامتناع عن التدخين هو الآخر يحتاج إلى وقت طويل قبل أن يصبح في حيز التنفيذ. وحتى لو كانوا يعلمون جيدا أنه عليهم التوقف عن التدخين، فإنهم يستمرون لسنوات طويلة يشككون في إمكانية إقلاعهم عن إدمان النيكوتين. ومع ذلك فالعديد منهم قد حاول خلال هذه السنوات وتعامل مع بدائل كثيرة، فلقد جربوا أساليب مختلفة مثل التوقف فجأة عن التدخين، كما حاولوا تخفيض عدد مرات التدخين وتغيير نوع السجائر التي اعتادوا عليها، وحاولوا تغيير أسلوب التدخين من سجائر ثقيلة إلى سجائر خفيفة، حيث الخدعة المطلية عليهم وهكذا. أيضا استخدموا الوخز بالإبر الصينية والتنويم المغناطيسي وتغيير العادات ومضغوا علك النيكوتين، ولكن لم يفلح شيء مما سبق. فقد استطاع البعض منهم بالفعل التوقف عن تعاطي النيكوتين لفترات مختلفة باستخدام أسلوب أو أكثر من الأساليب المذكورة، واختلفت مدة الإقلاع هذه، حيث امتدت عند بعض الأشخاص لفترات طويلة ربما شهور أو حتى سنوات، ولكن غالبا ينتصر المخدر في نهاية المطاف، ومن ثم يرجعون ثانية إلى قبضة النيكوتين، ويبدؤون في الإنكار وتقديم المبررات الجديدة ويستسلمون ثانية للإدمان.
وعلى الرغم من محاولات الإنكار، إلا أنهم على يقين بأنهم لا يقتلون فقط أجسادهم، بل أيضا يطفئون أرواحهم، لذا فإنهم يتعذبون نفسيا بسبب التدخين لهذه الفترة الطويلة من حياتهم، وكنت أصف هذا الشعور بأنه انفصام، أو بالمعني الطبي انفصام للشخصية، حيث يعلم جميعنا ذلك الالتواء، هذا الشيء الذي يوصف بعدم الأمانة الشخصية، فقد كنا جميعنا نقول إننا سنمتـنع عن التدخين قريبا، في حين نعلم جميعا أنها كذبة.
من طرفي أنا كجراح في الأوعية الدموية، نالني نصيب من تقطيع السيقان في حالات الغانغرين المتقدمة. فالمدخنون في العادة لا ينتبهون إلى أن فساد الشرايين هو من لعنة التدخين. ولكن العادة جبارة، وأذكر من أمي رحمها الله أنها كانت تردد (عادة البدن ما يغيرها غير الكفن)، أي إن الموت هو الذي يقطع العادة المتأصلة، وفي القبر ليس من عادة سوى الفناء والبلى.
قابلت شخصا مدمنا على التدخين، قال لي بالحرف الواحد: «أرجو منكم إن أنا مت أن تزرعوا شجرة تنباك على قبري، فتمتصها عظامي فترتاح»!



