كشف خفايا لعبة الأرقام والإحصاءات في عالم اليوم
كتاب «عندما أضحى العالم أرقاما» لأوليفيي راي

تلعب الأرقام دورًا أساسيًا في تشكيل السياسات العامة واتخاذ القرارات على المستويين الحكومي والمجتمعي. ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحًا: هل يتم استخدام الإحصائيات بنزاهة دائمًا أم أنها أداة تُستخدم أحيانًا لخدمة أجندات سياسية؟
في هذا الكتاب، نجد عرضا لدور الإحصائيات والأرقام في الخطابات السياسية والدعاية التجارية، والطرق التي قد تُستخدم للتلاعب بها، وكيف يمكن للمواطنين حماية أنفسهم من المعلومات المضللة، بل والصراع الذي ينشب في جميع المجالات حول الأرقام.
العالم كأرقام
الإحصاءات اليوم حقيقة اجتماعية كاملة: فهي تسود المجتمع، وتحكم المؤسسات وتهيمن على السياسة. ثوب من المنحنيات والمؤشرات والرسوم البيانية والمعدلات يغطي الحياة بأكملها. يختفي التعليم خلف استطلاعات PISA، والجامعات خلف تصنيفات شنغهاي، والعاطلون عن العمل خلف منحنى البطالة… كان من المفترض أن تعكس الإحصاءات حالة العالم؛ لقد أصبح العالم انعكاسًا للإحصاءات. هذا الانعكاس ليس حادثًا تاريخيًا: إنه تتويج لعملية ولدت في العصر الحديث وشهدت تسارعًا حاسمًا في القرن التاسع عشر.
من أنقاض الأنظمة القديمة، التي اجتاحتها الثورات الصناعية والسياسية، ظهرت هذه الأشياء الغريبة والغامضة وغير المعروفة سابقًا: مجتمعات كبيرة من الأفراد. كيف نفهمها؟ كيف نقودها؟ بحثت الدول الأوروبية عن إجابات في الإحصاءات، مزروعة بجنون. وبصفتنا ورثة لهذه الحمى، لا يمكننا فهمها دون العودة إلى اللحظة التي انكمشت فيها: لماذا وكيف أصبح العالم رقما؟
عبارة «أصبح العالم أرقامًا» تعكس ظاهرتين رئيسيتين: أولاً، الارتفاع الكبير في عدد سكان العالم، حيث وصل إلى 8 مليارات نسمة في عام 2022 ويتجه نحو الذروة بحلول عام 2080. ثانيًا، انتشار استخدام الأرقام والإحصائيات في كل جوانب الحياة المعاصرة، من التكنولوجيا والاقتصاد إلى العلوم والتنمية البشرية.
منذ عصر التنوير، اتُهمت الإحصاءات بالاختزالية لأنها تُصنّف الوجودات الفردية ضمن فئات عامة. لم تمنع هذه المقاومة توسع إمبراطوريتها، حتى الانفجار المعاصر للبيانات الضخمة.
يروي لنا أوليفيي ري، الفيلسوف وعالم الرياضيات، تاريخ وأسباب «تسمية العالم» هذه. يرى ري أن الديمقراطية لم تُوحّد الناس، بل شوّشت الأدوار الاجتماعية، وازدادت ضبابيةً مع ازدحام المدن بسكان الغرباء. الإحصاءات، مثال المعلومات الكمية، هي «المرآة التي يفحص فيها المجتمع نفسه بقلق، بعد أن أصبح لغزًا في ذاته»، ولهذا السبب يمتزج انعدام الثقة الذي تثيره دائمًا بالفضول. كان هذا الرأي قويًا جدًا بين الكُتّاب، سيما بلزاك في «الكوميديا البشرية».. لكن الإحصاءات تدين بتطورها للدولة قبل كل شيء. فقد رأى فيها أداةً لإضفاء الشرعية على الضرائب، ما يضمن معاملة عادلة للجميع. الإحصاءات هي الطفل الخفي للفردانية، وعلينا أن نكون ممتنين لأوليفيي راي لأنه نجح في إثبات هذا الارتباط.
«العالم كأرقام» يشير إلى استخدام الأرقام لوصف حقائق العالم، وتشمل هذه الأرقام تعداد سكان العالم (حوالي 8 مليارات نسمة)، عمر الأرض (4.6 مليارات سنة)، وقياسات الأداء البشري (مثل أطول رجل حي، 2.51 متر)، بالإضافة إلى الأرقام التي تمثل مفاهيم مثل الرموز في {علم الأعداد} أو الأرقام القياسية التي تُظهر إنجازات بشرية فريدة، وتُعد الأرقام جزءًا أساسيًا في دراسة وفهم العالم من حولنا.
طغيان لغة الأرقام» يعني هيمنة التحليل الرقمي والإحصائي على جوانب الحياة المختلفة، ما قد يقلل من أهمية العوامل غير الكمية ويؤدي إلى رؤية سطحية للعالم. هذا يشير إلى أن الأرقام أصبحت اللغة السائدة في عصرنا الرقمي، حيث تُستخدم لقياس التقدم، تحديد الأهداف، وتوجيه الاستثمارات، لكن الاعتماد المفرط عليها يمكن أن يُغفل الأبعاد الإنسانية والأخلاقية للواقع.
عندما تصبح الأرقام لعبة للدعاية
في الدول المتقدمة تعتبر «لغة الأرقام» قول الفصل الذي يحتكم إليه الجميع، ولذلك يقدرون من يحقق الأرقام القياسية في كل شيء، ويصبح التفوق بالأرقام الفيصل عند النقاش حول أفضلية نظام اقتصادي أو اجتماعي أو تجاري أو صناعي، ولا تجد هناك من ينتقص من الأرقام ويشكك فيها لأن مصادرها رسمية وموثّقة ويقبل بها الجميع لقناعتهم أن الأرقام وجدت لصناعة المنافسة وتحديد الأهداف والوصول إليها لتحديد أهداف جديدة.
خلف هذه الأرقام هناك دوما توظيف دعائي أو سياسي حيث إن الساسة ومتخذي القرار لا يؤمنون إلا بالأرقام التي تؤيد آراءهم وتقوي حجتهم في «النقاش السياسي»، بينما يشككون بكل رقم ينصف الآخرين وكأن الأرقام لا تعتمد على علم الحساب بل على العواطف والأهواء.
لقد أصبحت لغة الأرقام أو الاحصائيات اللغة الطاغية على واقعنا، سيما ونحن في عالم التكنولوجيا الرقمي، اذ ينطلق الحديث عن الواقع الذي نراه وندركه في مخيلتنا وهذا يندرج تحت مسمى الواقعية الساذجة التي تعرف بإدراك الإنسان للأشياء واعتقاده بأنها موجودة في الواقع مثل ما يدركها في الواقعية الساذجة. سميت بالساذجة لأنها تنظر إلى الأمور بسطحية وسذاجة وترى أن الواقع الخارجي مستقل عن الذهن. إذاً الواقعية الساذجة مثل المرآة تعكس كل ما هو موجود في عالمنا الخارجي بوضوح. أما الواقعية البسيطة فتنسجم مع الآراء التي يتبناها الناس العاديون الذين يقبلون الاستسلام دون نقد أو نقاش. أي أن العالم الخارجي موجود دون أي تغيير أو تغير في الإدراك، وبالتالي فإن الأشياء التي تدركها سمات الأشياء تمثل واقعهم. لذلك فإن دور الإنسان في المعرفة يشبه دور «الكاميرا» الذي يقتصر على نقل الأشياء والتأكيد عليها دون تفكير أو نقد. هذا الشكل الساذج من الواقعية، أو كما أطلق عليه هوسرل «واقعية الظروف الطبيعية أو العادية»، تقلص تحت ضغط النقد المثالي. اختلاف الشيء في مظهره وشكله ناتج عن المسافة بينه والعين التي تراه، أو الزاوية التي يرى منها، ما يعني أن هناك فرقًا بين الأشياء في الواقع والأفكار التي تمثل الأشياء. فعالم الواقع ذو وجود مستقل عن مخيلتنا ومعرفتي له تصوير لا أكثر ولا أقل.
السياسيون والأرقام
يروي الإحصائيون قصة تُجسد إمكانية خداعهم للناس بالأرقام! فتخيل أن صحافياً في ولاية سياتل الأمريكية ركب حافلة ما، ليجد في مقدمتها أغنى أغنياء العالم بيل غيتس، مع 9 شخصيات مرموقة، فجادت قريحته بكتابة تقرير صحفي يسأل فيه كل ركاب الحافلة عن معدل دخولهم السنوية. فلو كانت الدخول السنوية لكل شخصية 100 ألف دولار في السنة وكان دخل بيل غيتس 6 مليارات سنوياً، فكتب في تقرير تصدره مانشيت: «معدل الدخول السنوية لسكان سياتل نحو 600 مليون دولار سنوياً! وذلك بقسمة جميع الدخول على عدد الأفراد (10 أفراد). في حين أنه لو ترجّل الملياردير من الحافلة سيتحول المتوسط (average) إلى 100 ألف دولار بقسمة دخولهم على العدد المتبقي (9 شخصيات) من دون الملياردير. وشتان بين المعدلين.
هذه القصة الرمزية تشخّص لنا التلاعب بالأرقام. ولذلك قال لنا بروفسور كبير في الإحصاء في بداية مادة الإحصاء: «نحن الإحصائيين أخطر كَذباً، لأننا نستطيع أن نكذب عليكم بالأرقام، إن شئنا، وسوف تصدقوننا»، (انتهى كلامه).
ولذلك تعلمنا في مادة الإحصاء كيف تؤثر القيم المتطرفة في مجموعة بيانات على متوسطها ووسطها ومنوالها. وهذا ما يدفعنا لاستبعاد الأرقام الاستثنائية حتى لا ينخدع المتلقي بحوادث فردية أو نادرة الحدوث. فعندما ترتفع نسبة حوادث السيارات في سنة واحدة إلى 35 في المائة لزلزال أو كارثة، وتبقى في حدود زيادة 2 في المائة طوال السنوات العشرين الماضية يُفترض أن ننوه إلى استبعاد السنة الاستثنائية في تقاريرنا أو قراراتنا مع تبرير ذلك.
إذن ما تقدمه الإحصائيات أمر مهم لنا لكنه خطير. وهذا ما دفع بنيامين دزرائيلي، رئيس الوزراء البريطاني في عام 1868، إلى قول عبارة شهيرة مفادها أن هناك «أكاذيب (عادية)، وأكاذيب كبرى، وإحصائيات»! وقال خليفته لاحقاً، رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، إن «الحقيقة غالية جداً، لذا يجب أن نحميها بجيوش من الأكاذيب».
نظراً لأن مهنة الإحصاء تسعى إلى تكميم الظواهر السياسية، ولكون المقاييس الكمية تعبر عن الحقيقة بشكل محايد؛ فإن التاريخ الحديث يمتلئ بوقائع تعكس توتر العلاقة بين منتجي الإحصاءات والسياسيين. ومع حدوث بعض التحسن التدريجي على الضوابط التي تحكم العمل الإحصائي، إلا أن الصراعات والتنافسات السياسية ما زالت تنعكس على استقلالية العمل الإحصائي. ففي الولايات المتحدة تتصادم الأيديولوجيا السياسية مع الأساليب المنهجية لإجراء التعداد السكاني، حيث تصبح منهجية إجراء التعداد –الذي يعتمد عليه في توزيع الدوائر على الولايات- في بؤرة الصراع السياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي؛ إذ يتبنى الحزب الديمقراطي استخدام عينة مكملة للتعداد؛ وذلك لمعالجة القصور في تسجيل الفئات الأكثر فقراً، في حين يرى الحزب الجمهوري الاقتصار على نتائج أسلوب الحصر الشامل التي تصب في مصلحته؛ لأنها ترصد نسبة أقل من المواطنين الذين يعيشون في مناطق أكثر فقراً .
وتمثل حالة اليونان نموذجاً لتوتر العلاقة بين الأجهزة الوطنية والأجهزة الإقليمية، حيث نشأ نزاع دام عقداً من الزمن بين دائرة الإحصاء الوطنية اليونانية (NSSG) والوكالة الإحصائية للاتحاد الأوروبي (EUROSTAT) حول دقة إحصاءات الديون والعجز المالي؛ أدى ذلك إلى سن قانون جديد للإحصاء سنة 2010، وإعادة هيكلة لدائرة الإحصاء الوطنية وتعيين رئيس جديد لها. وأعادت هذه التغييرات الانسجام بين النظام الإحصائي اليوناني (ELSTAT) والسلطات الأوروبية، إلا أن الصراع انتقل إلى المؤسسات اليونانية. فمنذ بداية فترة ولايته، تم اتهام أندرياس جورجيو (Andreas Georgiou) ، رئيس الجهاز الإحصائي اليوناني، بتزوير البيانات – لصالح دائني اليونان- وتم تقديمه إلى سلسلة من التحقيقات والمحاكمات. وفي فرنسا، نشر عدد من الإحصائيين تحت اسم مستعار «لورين داتا» (Lorraine Data) في عام 2009، كتاباً بعنوان «التزوير الكبير.. كيف تتلاعب الحكومة بالإحصاءات؟» يدين تزوير الحكومة وتلاعبها بالإحصاءات الرسمية .
وبطبيعة الحال كان الصراع بين الإحصاء والسياسة أكثر احتداماً في الدول النامية.
لا يقتصر الأمر على السياسة فقط
بغضّ النظر عن دوافع الكذب أو التلاعب بالأرقام، فإنه أمر ليس محصوراً في الاقتصاد والسياسة، فهو يدخل في التسويق والمبيعات والإدارة بل حتى في محاولات الموظفين إيهام مسؤوليهم بمستوى رضا العملاء أو المراجعين بالاستناد إلى إحصائية مضخَّمة لينعموا بالمكافأة السنوية، أو يتجنبوا مواجهة فتح تحقيق، أو ملاسنة كلامية! وكثيراً ما أتساءل، عندما أقرأ ما تزعمه منصة أفلام ومسلسلات عبر الإنترنت من أن هذه القائمة هي الأكثر مشاهدة، ثم نلاحظها تنسى أو تتناسى أن تذكّرنا، هل أكمل المشاهدون الحلقات كلها، أم بُنيت إحصائياتهم على «النقرة الأولى» على صورة البوستر الجميلة، ثم جاءتهم خيبة الأمل بمسلسلات سخيفة فغادروها فوراً؟!
مشكلة التهاون في الإحصائيات أنها قد تدفع متخذ القرار إلى اتخاذ قرارات جوهرية وخطيرة في تغيير قانون أو نسف قرار مهم، بسبب عدم إحاطة نفسه بمستشارين ضليعين في علم الإحصاء إلى جانب نظرائهم من تخصصات أخرى. فلا يُعقل أن نصدق، مثلاً، نسبة الطلاق السنوية مقابل الزواج، فنقول: «مَن تطلق أكثر ممن تزوج» هذا العام، فكيف نقارن زيجات قديمة لسنوات طويلة، بزيجات جديدة في العام الجاري. المقارنة تكون بين تفاحتين، كما يقال، وليست بين تفاحة وبرتقالة.
صحيح أن حبل الكذب قصير، لكنّ بعض الأكاذيب تنجح ثم تصبح جرحاً غائراً في وجدان مَن خدعهم مسؤول رفيع كانوا يكنّون له الاحترام والمودة. ولهذا قال الفيلسوف نيتشه: «لستُ منزعجاً لأنك كذبت عليّ، لكنني منزعج لأنني لن أصدقك بعد هذه المرة».





