
منذ أن عرف الإنسان النار وهو يحلم بأن يراها مشتعلة في بيت جاره. نحن لا نحب فقط مشاهدة النيران، بل نتلذذ بمشهد الجمر وهو يلتهم كل ما نجهل تفاصيله، ونشعر بسعادة خفية حين يصبح الآخر وقوداً للحكاية. هذه هي الفضيحة: مسرح مفتوح على مصائب الغير، لا يحتاج تذكرة دخول ولا يطلب من المتفرجين سوى التصفيق والقهقهة.
الفضائح، بالنسبة للجماهير، مثل الكافيين، جرعة صغيرة توقظ الغرائز وتُشعرنا بأننا أحياء، وجرعة كبيرة تتركنا مدمنين. عندما يقع نجم رياضي في فضيحة مخدرات، أو سياسي في فخ تسجيل مسرّب أو فنانة في فيديو «مسرب جداً جداً»، فجمهور كامل يهرع ليضع قهوته جانباً ويشاهد العرض.
السر في ذلك بسيط، الفضيحة تجعل «الآخر» إنساناً عادياً مثلنا. نحن نرى السياسي في بدلة غالية يتكلم لغة خشبية؛ فإذا انكشف وهو يغازل سكرتيرته، ابتسمنا: ها هو يشبهنا أخيراً! نحن نرى المغني في أضواء المسرح، فإذا سقط مخموراً في حفلة، نتنفس الصعداء: إنه ليس ملاكاً، بل بشر يقترف الخطيئة.
هناك متعة غريبة في أن نشاهد شخصاً آخر يتعثر. لماذا؟ لأننا في العمق نمارس طقساً بدائياً، إعدام رمزي على منصات التواصل. نحن نضع السياسي أو النجم على خشبة المسرح، ثم نرميه بالطماطم الرقمية: «هاشتاغ»، «ميم»، «تعليق ساخر». والنتيجة: طقس جماعي يريحنا من غضبنا اليومي.
في مجتمع مثقل بالهموم، الفضيحة تمنح الناس فرصة نادرة ليشعروا بأنهم قضاة. المواطن، الذي لا يملك قراراً في رفع أسعار الخبز، يملك قرار إعدام نجم كروي عبر تعليق فيسبوكي مدجج بالشتائم. إنها ديمقراطية افتراضية لا تكلف شيئاً.
بعض وسائل الإعلام تعرف هذا جيداً. فهي لا تبيعنا أخباراً بل تبيعنا «لحظة شماتة». خبر جاف عن قانون منظم للعمل الإداري لا يجلب مشاهدات، بينما «تسريب حميمي لنجم مشهور» يحطم الأرقام. الجهة الإعلامية التي ترفع شعار «المصداقية والجدية» هي نفسها التي تتسابق لنشر تسجيل هاتفي مشبوه.
بعض الإعلاميين في هذا السياق ليسوا سوى طباخين في مطبخ كبير يقدم وجبة «فضيحة اليوم». الجمهور جائع دائماً، والمائدة لا تنقصها الأصناف: سياسي مرتشٍ، مطربة بخطأ أخلاقي، لاعب كرة متهم بالمنشطات، رجل أعمال يهرب من زوجته إلى حضن راقصة.
المفارقة أن الفضيحة ليست فقط للتسلية؛ إنها دواء للروح. الإنسان البسيط، الذي يعيش حياة رتيبة، يجد في سقوط الكبار نوعاً من «العلاج النفسي»، كأن لسان حاله يقول: «إذا كان هذا الذي يملك المال والشهرة يرتكب حماقات، فذنبي الصغير لا يساوي شيئاً». إنها آلية لتسكين الألم: مصائبهم تبرر عثراتنا.
لا يمكن أن نغفل جانباً آخر، الفضيحة ليست دائماً عفوية. أحياناً تكون مصنوعة بعناية، كطبق شهي يقدم في وقت انتخابي محدد. السياسيون يعرفون أن إسقاط خصمهم قد يكون أسهل من إقناع الناخب بخطتهم الاقتصادية. لذلك تصبح الفضيحة أداة انتخابية، يلمعها الإعلام وتوزعها «الجماهير الغاضبة» كمنشورات رقمية.
لأننا ببساطة نحب أن نكون «ناقلين للعار». في اللاوعي الجمعي، مشاركة الفضيحة تجعلنا شركاء في الحدث. نعتقد أن إعادة تغريد تسجيل فاضح تجعلنا جزءاً من لعبة السلطة، أو ترفع أسهمنا بين الأصدقاء. نحن لا نملك سهماً في البورصة، لكننا نملك سهماً في بورصة الفضائح.
لو كان فرويد حياً اليوم لفتح حساباً على «تويتر» بدلاً من عيادته. فمواقع التواصل تحولت إلى محرقة كبرى، حيث تُشوى سمعة الناس على نار «التريند». نحن نعيش زمن «الفضيحة المباشرة»: لا حاجة لصحيفة غداً، الفضيحة تصلنا في بث حي، مع تعليقات ولعنات وصور مركبة.
الجماهير لا تكتفي بالمشاهدة، بل تشارك في صناعة العرض: قص ولصق، مونتاج، فوتوشوب، ميمات ساخرة. الفضيحة لم تعد خبراً، بل أصبحت محتوى إبداعياً.
نحن نشتكي من «انحدار الإعلام»، بينما نحن أول من يضغط على رابط «فضيحة فلان بالصوت والصورة». نحن نلعن الصحافة الصفراء، ثم نشارك أخبارها في مجموعات «الواتساب» العائلية. نحن نصرخ «أين القضايا الجادة؟» بينما نرفع نسبة المشاهدة لأي خبر مخلّ.
إن سيكولوجية الفضيحة تكشف هشاشتنا نحن قبل أن تفضح غيرنا. نحن نحتاج دوماً إلى «مذنب» نعلّق عليه خيباتنا. ولأننا نخشى النظر في المرآة، نفضل أن نتفرج على سقوط غيرنا. الفضيحة مسرحية بلا ستار، لا تنتهي لأنها ببساطة تعكس شغف الإنسان الأبدي بالفضول، بالغيرة وبالرغبة في أن يرى الآخر ينكسر ليشعر هو بقليل من القوة.
هل من مخرج؟ ربما في وعي جماعي يفرق بين النقد المشروع والفضيحة المدمّرة. لكن طالما بقيت الجماهير تتلذذ، وطالما بقي بعض المحسوبين على الإعلام يتفننون في وصفات الشوهة، فالفضيحة ستظل وجبتنا المفضلة، بطعم لاذع تختلط فيه السخرية بالشفقة.





