
على امتداد التاريخ السياسي للمغرب، ظل الوزير عنصرا مؤثرا في صناعة القرار مهما بلغت مكانة السلاطين، وكانت دولة المرابطين أول من وضع معايير دقيقة لاختيار السلطان ومحيطه وحاشيته، ووضعت على رأسها قضية توحيد المغرب تحت «راية الخلافة الإسلامية» كمطلب أساسي للحفاظ على تماسك الأمة. ومن بين شروط «الخلافة»، التي كانت الدولة المرابطية سباقة لترسيخها، «تحري الأمانة في اختيار المناصب والإشراف المباشر على شؤون الدولة».
كان المقربون من السلاطين يساهمون في صناعة الحاشية، ويعملون على تمتيعها بالحصانة الكافية، وإعلان حروب خفية ضد كل من انتفخت شهية الطموح لديهم وانتابتهم نوبة الاستوزار، ما أجج دسائس القصور التي لطالما قطعت رؤوسا داهمها حلم السلطة.
في عهد الحسن الثاني، كان الديوان الملكي يُستخدم غالبا محطة انتقالية بين وزارتين أو منصبين رفيعين. إلا أنه منذ أواخر التسعينيات أصبحت التعيينات، في الديوان الملكي، بمثابة تتويج لمسيرة وزارية وشكلا من أشكال استقطاب القصر للنخب التكنوقراطية ذات الخبرة الواسعة.
في تقرير لها أوضحت «جون أفريك» أن كتابة الخطب الملكية هي أيضا واحدة من المهام الأساسية للديوان الملكي، حيث تعكس هذه الخطب بشكل مثالي دقة ووضوح الرسالة الملكية.
في الملف الأسبوعي لـ«الأخبار»، نسلط الضوء على رجالات هذا المرفق، الذي يشكل الدائرة الأكثر قربا لملوك المغرب ودورهم في تجسيد وتكريس الرؤية الملكية في تدبير شأن البلاد والعباد.
حسن البصري
الحسن الثاني يطلق على بن منصور لقب «مؤرخ المملكة»
يرجع تاريخ ميلاد عبد الوهاب بن منصور إلى سنة 1919 في مدينة فاس، حيث تدرج في مختلف المراحل التعليمية قبل أن ينتهي به المطاف في جامعة القرويين، التي تخرج منها وعين أستاذا للتعليم الثانوي بالرباط وسلا، وفي سنة 1957 عينه الملك محمد الخامس نائبا لمدير الإذاعة الوطنية، وفي العام نفسه عين رئيسا للقسم السياسي بالديوان الملكي، وفي عام 1963 عينه الملك الحسن الثاني مؤرخا للمملكة المغربية ورئيسا للديوان الملكي، وتقلد بعدها عدة مناصب إلى أن تم تعيينه مديرا للوثائق الملكية.
ذات مساء كان الملك الحسن الثاني ينبش في بعض الوقائع التاريخية، فاستدعى عبد الوهاب لاستشارته في معلومات تتعلق بالدولة العلوية، حينها أطلق بن منصور العنان لذاكرته وشرع في تقديم تفاصيل جديدة نالت إعجاب الحسن الثاني، فأطلق عليه لقب «مؤرخ المملكة». ومنذ ذلك الحين، التصق اللقب بعبد الوهاب، وظل يلازمه بالرغم من تغير المناصب والمهام التي اضطلع بها الراحل في ظل حكم ثلاثة ملوك، بدءا من عام 1957، إلى جانب الملك محمد الخامس جد العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي أسند إليه رئاسة القسم السياسي بالديوان الملكي.
شغل الراحل مهاما سياسية (رئيس الديوان الملكي) وإعلامية، بينها نائب لمدير الإذاعة المغربية عام 1957 إلى جانب المفكر المهدي المنجرة، الذي يروى أنه تقدم للملك محمد الخامس بمشروع قانون أساسي للإذاعة المغربية، مستوحى في الكثير من بنوده من هيئة الإذاعة البريطانية.
لم يقتصر الرجل على مهامه السامية، بل إن الحسن الثاني كان يكلفه، بين الفينة والأخرى، بمهام لا تدخل في صميم اختصاصاته، من قبيل إيجاد سكن لغيثة علوش أرملة زعيم جيش التحرير عباس لمساعدي.
اعتمد الحسن الثاني على بن منصور، أيضا، في حسم كثير من الخلافات مع رجال الإعلام، حيث ظل عبد الوهاب يتحرك لاستقصاء آراء صحافيين خرجوا عن النص أو مست كتاباتهم الخطوط الحمراء، كما حصل مع مصطفى العلوي.
يحكى أن أحد أصدقائه المهتمين بالتأريخ زاره في بيته بالرباط، بعد أن أقعده المرض، واطمأن على أحواله الصحية محاولا الرفع من معنوياته، متحدثا عن القضاء والقدر، لكن بن منصور رد عليه مطمئنا: «الأعمار بيد الله، وأنا لا أخشى الموت هل نسيت بأنني استأنست بها لفترة طويلة حين عينني الملك الراحل الحسن الثاني في منصب يجعلني أشم رائحة الموت يوميا حين كنت محافظا لضريح محمد الخامس».
بنسودة.. مدير بالديوان الملكي وأول عامل بالصحراء المغربية
يعتبر أحمد بنسودة علبة أسرار الملك الراحل الحسن الثاني، إذ عمل مديرا للديوان الملكي ومستشارا للملك لمدة تتجاوز ربع قرن، واستمر في منصبه بالرغم من مرضه وانقطاعه عن العمل، علما أنه اشتغل مسؤولا عن تربية ولي العهد.
ينتمي بنسودة لأسرة فاسية هاجرت من الأندلس إلى فاس قبل قرون، واشتهرت هذه الأسرة بعلمائها وفقهائها وهم «رواد المنابر الشهيرة بالعاصمة العلمية فاس»، على حد قول فاروق النبهان مدير دار الحديث الحسنية السابق.
ويعتبر بنسودة من رموز الحركة الوطنية ومن المجاهدين الأوائل في الكفاح الوطني، إذ دخل السجون في عهد الحماية الفرنسية، وكان صحافيا لامعا، بالرغم من المتاعب التي واجهته حين اختار الانضمام لصفوف حزب الشورى والاستقلال، الغريم التقليدي لحزب الاستقلال، وهو امتداد فكري لعبد الهادي بو طالب، المستشار الملكي السابق.
عينه محمد الخامس سفيرا للمغرب في لبنان، خلفا لعبد الرحمن بادو، وتولى مناصب وزارية أخرى، أبرزها مدير الديوان الملكي، وهو المنصب الذي مكنه من الاقتراب أكثر من الأسرة المالكة، بل إنه ظل يعتبر نفسه نازحا، وكان يقول في حضرة الملك: «أسرتنا هاجرت قبل قرون من الأندلس إلى المغرب، نحن أحفاد لأولئك الرجال الذين رحب بهم المغرب قبل قرون».
اختار الملك الحسن الثاني أن يجعل بنسودة مؤتمنا على أسرار الدولة ومواقف المغرب، وكثيرا ما كان الملك يوفده في مهمات سرية إلى رؤساء الدول العربية، بل إن كثيرا من القرارات التي يقدم عليها الملك غالبا ما يتم طبخها في مطبخ الديوان الملكي، سيما وأن بنسودة له صداقات عربية كثيرة، وهو موطن ثقة الفلسطينيين وتربطه صلات جيدة مع السعودية ودول الخليج.
لعب الرجل دورا كبيرا في نسج الخيوط الأولى للمسيرة الخضراء، إذ كان شخصية متميزة تحرص على حفظ السر المهني، وله مساهمات كبيرة في كل المواقف الوطنية، وكان الملك الحسن الثاني يقدره ويعتمد عليه، وهو أول عامل مغربي على الصحراء المغربية بعد تحريرها.
تمكن الملك الحسن الثاني، بدهائه السياسي، من تحويل أحمد بنسودة من معارض إلى مدافع عن النظام، وهو العارف بأسرار الحقل السياسي المغربي، إذ كان مواليا لجناح المهدي بن بركة.
عندما توفي الحسن الثاني أقعد المرض والشيخوخة بنسودة لسنوات قبل أن يرحل إلى دار البقاء.
بنعيسى.. تعرف على الحسن الثاني بجامعة بوردو فأصبح من رجال ثقته
ظل عبد السلام بنعيسى، ابن مدينة الخميسات، مقربا من محيط ملكين: محمد الخامس والحسن الثاني، بل إنه استضاف هذا الأخير حين كان وليا للعهد بجماعة سيدي الغندور. وكان بنعيسى ابنا لقائد بمنطقة زمور في الفترة الاستعمارية وفيها تدرج في سلم المسؤوليات الإدارية والدبلوماسية منذ فجر الاستقلال.
سر علاقته بولي العهد مولاي الحسن يرجع لاختيارهما المسار الدراسي نفسه، إذ شدا الرحال نحو فرنسا وتحديدا إلى بوردو، لإتمام دراستهما الجامعية التي توجت بالحصول على الإجازة تخصص الحقوق. وكان بنعيسى ناشطا جمعويا وفاعلا في صفوف الحركة الطلابية لطلبة شمال إفريقيا، وناضل من داخل حزب الاستقلال من أجل عودة المغفور له محمد الخامس من منفاه، ودافع بشكل مستميت قصد حصول المغرب على استقلاله.
مع حصول المغرب على الاستقلال، سيعينه محمد الخامس قنصلا للمملكة، ما بين سنتي 1956 و1959، بكل من ستراسبورغ وبوردو، المدينة التي تلقى فيها تعليمه العالي، حيث لعب دورا فعالا في حل العديد من الملفات الحساسة، بناء على توصية من ولي العهد، كما حظي بالثقة الملكية مجددا على عهد الراحل الحسن الثاني حين عين مفتشا عاما لوزارة الداخلية 1959/ 1963، وبعدها مديرا للديوان بوزارتي الدفاع الوطني والفلاحة ونائبا لكاتب الدولة للدفاع الوطني المكلف بقدماء المقاومين والمحاربين، حيث أشرف على دراسة وتسوية ملفات أكثر من 46 ألف مقاوم، قبل أن يتقلد منصب كاتب دولة لدى الوزير المكلف بالشؤون الاقتصادية بين سنتي 67/69 وبعدها أصبح وزيرا مكلفا بمهمة في الديوان الملكي سنة 1969.
كان بنعيسى ضمن حكومة محمد بنهيمة، الذي ترأس الحكومة سنة 1967، والتي ضمت في تركيبتها الراحل الدكتور أحمد العراقي وزيرا للخارجية، وضمنها أحدثت لأول مرة وزارة قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وأسندت لعبد السلام بنعيسى.
ولد أباه.. موريتاني كان مديرا للإذاعة وعضوا بالديوان الملكي
في بداية الستينات من القرن الماضي، حل كل من المختار ولد دادة ومحمد فال ولد عمير ومحمد المختار ولد أباه بالمغرب، في فترة انقسمت «النخبة» السياسية الموريتانية بن مؤيد ورافض لاستقلال موريتانيا. بعد انضمام هذه الشخصيات الوازنة داخل المجتمع الموريتاني إلى المغرب، زادت جدية مطالبة المغرب بعودة «أرض شنقيط» لسيادته.
بعد عودة المختار ولد أباه إلى موريتانيا، انشغل بتأليف الكتب ونظم قوافي الشعر ومتابعة الوضع السياسي في موريتانيا، في الوقت الذي بادر الملك محمد الخامس بتعيين موريتانيين في مناصب قيادية، حيث شغل المختار ولد دادة مناصب في الديوان الملكي وعين على رأس وزارتي التعليم والأوقاف، كما عين رئيسا لمجلس النواب، فيما عين فال ولد عمير وزيرا للدولة مكلفا بشؤون موريتانيا والصحراء.
في عيد الأضحى من سنة 1960، شهد القصر الملكي بالرباط مراسيم حفل تقديم التهاني للملك محمد الخامس من طرف أعضاء الحكومة وأفراد السلك الدبلوماسي، وكبار موظفي الدولة ورجال الجيش، وكان المختار ولد أباه من بين المهنئين.
كان منصب المدير العام للإذاعة الوطنية شاغرا، بعد استقالة المهدي المنجرة، لذلك حرص الوزير أحمد العلوي على إيجاد بديل للمهدي، وحين صافحه المختار ولد أباه في بهو القصر قال في قرارة نفسه هذا هو البديل المنتظر.
في مذكراته، يتحدث محمد بن ددوش، المدير السابق للإذاعة الوطنية، من خلال «رحلة حياتي مع الميكروفون»، عن هذه اللحظة التاريخية فيقول:
«كان أحمد العلوي وزيرا للأنباء، وخلال حفل تقديم التهاني بقاعة العرش في قصر الرياض بالعاصمة، وعندما تقدم المختار ولد أباه للسلام على محمد الخامس وتهنئته بالعيد، شوهد أحمد العلوي وهو يهمس في أذن الملك، ويشعره بأنه ارتأى اختيار ولد أباه مديرا جديدا للإذاعة الوطنية خلفا للمنجرة، وكذلك كان».
مباشرة بعد تعيينه على رأس هذا الجهاز، طالب ولد أباه بإنهاء تبعية الإذاعة لوزارة البريد والبرق والهاتف، وأصبحت بالتالي تابعة لوزارة الأنباء. لكن الرجل لم يقض في هذا المنصب سوى عامين ليخلفه عبد الله غرنيط.
مولاي حفيظ العلوي.. الصقر الذي كان يخشاه الوزراء
ولد مولاي حفيظ العلوي سنة 1917، في أحد الدواوير النائية التابعة لإقليم الراشيدية. عاش طفولة قاسية قبل أن يلتحق بالجيش الفرنسي ويقرر استكمال دراسته في ثكنات المستعمر وتحديدا في مدرسة مكناس العسكرية، بل إنه شارك في الحرب العالمية الثانية وهو برتبة «أجودان»، قبل أن يغير الوجهة ويحقق أمنيته فيصبح رجل سلطة حيث عين خليفة بالدار البيضاء، قبل أن يتنقل بين مناصب أخرى في مدن أخرى أبرزها مراكش وسطات حيث كان باشا يحكم بالنار والحديد.
تحول حفيظ من اسم نكرة إلى واحد من أشهر خدام السلطة الاستعمارية، وتغير اسمه بتغير ملامح السلطة، إذ انضافت إليه كلمتا الجنرال ومولاي، فدخل بالتالي عالم الوجاهة. لكن حياته تعرضت في أكثر من مناسبة للاستهداف من طرف الحركة الوطنية، التي حاولت عناصرها تصفيته إلا أنه ظل ينجو بأعجوبة.
عمل مولاي حفيظ مع مطلع الاستقلال على طي صفحة ماضيه المخدوش وبناء علاقة جديدة مع القصر. القليلون فقط كانوا يعرفون أنه تزوج بحفيدة المولى يوسف، والد الملك محمد الخامس، وجد الحسن الثاني.
يقول مصطفى حيران، في بحثه عن أسرار هذه الشخصية: «ذلك الرجل القوي، تحول في أواخر أيام حياته إلى مجرد عجوز خائف مثل طائر مبلل، مرتعد من قوة مجهولة»، ويروي المقربون منه عنه حكايات اختلطت فيها الحقيقة بالخيال. لكن الراجح هو الرعب الذي كان يزرعه في نفوس أعضاء الحكومة، حيث يصر على أن يعلمهم ضوابط البروتوكول بغلظة.
في يوم 14 دجنبر، من سنة 1989، توفي حفيظ العلوي، بعدما ترك وصية استغرب لها الكثيرون، سيما بعض العارفين، وهم قلائل جدا من رجال البلاط، بشأن الثروة الهائلة التي تركها وراءه، بل كانت وصيته هي ألا يوضع جثمانه في صندوق، وألا تقام له ذكرى وفاة لا في اليوم الثالث ولا في اليوم الأربعين.. أي أن يموت وكفى.
ترك الرجل منذ وفاته منصبه فارغا إلى جانب الحسن الثاني، حيث لم يتول منصبه بعده أي أحد، وتم الاكتفاء بأقرب مساعديه، وهو عبد الحق لمريني، الذي تولى مديرية البروتوكول، خلفا لرئيسه، لكن مع اختلاف كبير في تدبير الملفات التي تتقاطر على الديوان الملكي.
ولد سيدي بابا.. رجل تقلد حقيبتين وزاريتين في بلدين
يعد الداي ولد سيدي بابا شخصية لامعة، وذات تاريخ مشرق في مجال الإدارة المغربية، وهو من أصل موريتاني ومن الشخصيات التي اختارت المغرب وكانت مع الوحدة.
يعتبر الداي ولد سيدي بابا، المزداد في مدينة أطار الموريتانية عام 1921، ظاهرة سياسية، فقد تلقى تعليمه في مسقط رأسه، وتقلد العديد من المناصب الكبرى في بلدين: موريتانيا والمغرب.
حين حصل المغرب على الاستقلال، حل الداي بالمغرب، وتحديدا في سنة 1958، فعين مستشارا في وزارة الشؤون الخارجية ورئيسا لقسم إفريقيا في هذه الوزارة ما بين 1959 و1960، وبعد جلوس الحسن الثاني على عرش البلاد عين الداي سفيرا للمغرب في كثير من الدول على غرار جمهورية غينيا والسعودية وممثلا للمغرب في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة برتبة سفير، ثم مندوبا دائما للمغرب لدى الأمم المتحدة، قبل أن يعينه الملك مديرا للديوان الملكي ويدخله بوابة الحكومة بصفة وزير للأوقاف والشؤون الإسلامية ثم وزير للتعليم.
تولى الداي أكبر المناصب في الأمم المتحدة، وكان مديرا للديوان الملكي حيث ظل صوت موريتانيا في القصر، وأسندت إليه مهام وزارية عدة، وتولى رئاسة مجلس النواب، وكان يتمتع بمزايا إنسانية وإدارية وأخلاقية.
لم يكن بيته بشارع المهدي بن بركة في حي السويسي بالرباط، يخلو من الموريتانيين الذين يقضون ساعات في الحديث عن الشأن الموريتاني، كان شبه سفير غير معتمد لموريتانيا بالمغرب.
كان الداي ولد سيدي بابا يؤمن بأن موريتانيا هي امتداد ترابي للمغرب، وظل مساندا للمغرب في قضيته، بل إنه عين رئيسا للبرلمان المغربي، وانتخب على رأس دائرة انتخابية في مدينة كلميم.
لم يتخلص الداي ولد سيدي بابا من «تهمة» النائب المعار من الجار الجنوبي، سيما بعد أن أصبح رئيسا للبرلمان، بل إن الملك الحسن الثاني اضطر إلى فض نزاعاته مع خليهن ولد رشيد برلماني العيون، إذ شهد البرلمان المغربي في نهاية السبعينات ملاسنات بين الرجلين داخل مكتب الداي ولد سيدي بابا رئيس مجلس النواب في تلك الفترة. تدخل الملك شخصيا وجمع الرجلين في قصره ودعاهما إلى التحلي برزانة الصحراويين وحكمتهم.
بعد وفاته، كرمه ابن عشيرته محمد الشيخ بيد الله، رئيس مجلس المستشارين، وأطلق اسمه على إحدى القاعات، في محاولة لإعادة الاعتبار لأسرة هذا الرجل المتوفى سنة 1993.
محمد عواد.. سكرتير ولي العهد وأول سفير للمغرب بالجزائر
ارتبط محمد عواد بالقصر الملكي، وظل من أقرب المستشارين إلى الملك الحسن الثاني. شق طريقه مبكرا ليصبح مقربا من محيط الملك، بل في دائرة الملك الراحل. لكن منذ الأربعينيات اختاره محمد الخامس عضوا في الديوان الملكي، حيث شغل منصب سكرتير لولي عهده، وذلك مباشرة بعدما أنهى عواد دراسته الجامعية في فرنسا وعاد إلى المغرب ليمارس التدريس أولا، ومنه سيمر إلى محيط القصر ليبدأ سكرتيرا ثم سفيرا، ليستقر في مكتب المستشار على عهد الحسن الثاني، وهو المنصب الذي بقي فيه إلى آخر أيام حياته.
بعد حصول المغرب على الاستقلال، نزع محمد عواد جلباب المربي وارتدى بذلة السياسي، رغم أنه عاش في كنف حزب الاستقلال طويلا. ورغم زواجه من سعاد الفاسي، بقي عواد بعيدا عن صراعات الحزب الحاكم أي حزب الاستقلال، وكانت له كلمة مسموعة، كيف لا وهو يرأس سكرتارية ولي العهد على أيام الملك الراحل محمد الخامس.
تكلل مساره المهني بالقرب أكثر من مصدر القرار، عندما أصبح سنة 1959 مديرا للديوان الملكي، وهي سنة حرجة في تاريخ المغرب الحديث تميزت بأحداث وصراعات بين السياسيين.
بعد حصول الجزائر على الاستقلال، دعاه الملك على عجل وأخبره بقرار تعيينه أول سفير للمغرب لدى الجزائر، وغادر عواد بلاده عام 1962 كدبلوماسي وعاش أصعب لحظات الاحتقان حيث مكث في الجزائر إلى غاية 1965، السنة التي أطيح فيها بأحمد بن بلة، حيث انتقل إلى تونس ليشغل المنصب الديبلوماسي نفسه.
من موقعه كوزير دفاع سابق، أبرق السفير المغربي في الجزائر محمد عواد إلى العاصمة الرباط، ينبه إلى الفوضى والاضطرابات التي كانت تعيشها الجارة الشرقية. ولأنه كان يحظى بتقدير القصر، صارح الملك والتمس منه إرجاء زيارته الأولى للجزائر، لكن الحسن الثاني قرر زيارة البلد الجار.
توجه الملك الراحل الحسن الثاني، ما بين 13 و15 مارس من سنة 1963، إلى الجزائر في إطار زيارة رسمية، استغرقت ثلاثة أيام، والتقى خلالها برئيس الوزراء الجزائري أحمد بن بلة، وتباحثا بالخصوص في مشكلة الحدود، وفي مساء كل يوم كان عواد يجالس الملك ويقدم له ردود الفعل الجزائرية وما تقوله الصحف عن الزيارة، سيما بعد أن طفا مشكل ترسيم الحدود بين البلدين، على سطح جلسات الحوار بين زعيمي البلدين. بعد ستة أشهر من هذه الزيارة كان البلدان على موعد مع أول مواجهة مسلحة بينهما في ما يعرف بحرب الرمال.
معمري.. فقيه جزائري أصبح مديرا لديوان محمد الخامس
اسمه الكامل أبو عبد الله محمد بن معمر الزواوي. ولد في 6 يناير عام 1885 بتيزي وزو، في منطقة القبائل. تعلم الفرنسية وأتقن اللغة العربية، وتلقى فنون العلم والأدب والفقه وأصوله على يد كبار علماء الجزائر في المدرسة الثعالبية، ودرس بالعاصمة الجزائر تخصص أدب فرنسي، تعاطى مهمة التدريس بالمدرسة الرباطية لمدة 5 سنوات، وفي عام 1908 عينته الإدارة الفرنسية ترجمانا بالإدارة المكلفة بحفظ الأوراق بالصدارة العظمى على عهد مولاي حفيظ. ونال حظوة كبيرة في القصر الملكي، وأصبح مكلفا بتعليم أبناء السلطان يوسف حيث أشرف على تدريس ابنيه محمد وإدريس، وفي أواسط الأربعينيات سيكلفه محمد الخامس بأمور الأسرة الملكية ليصبح نائبا لمدير التشريفات والأوسمة يومها، وعام 1950 سيعين الملك محمد الخامس أستاذه الفقيه محمد معمري وزيرا لمصالح القصور والتشريفات مسؤولا عن الإقامة الملكية، وفي الآن ذاته كان يعمل رئيسا لديوان الملك.
كان الفقيه محمد معمري، وابن أخيه، هو الروائي الجزائري الشهير مولود معمري، لبيبا ثاقب الفكر، فحين عزلت سلطات الحماية السلطان محمد الخامس ونصبت بن عرفة، التمس من الإقامة العامة إعفاءه من مهامه وزيرا للقصور، وعاد إلى الجزائر، وبعد عودة الملك محمد الخامس من منفاه أرسل في طلب أستاذه واستمر في مهامه إلى حين وفاة الملك محمد الخامس في فبراير 1961، حيث التمس من الحسن الثاني إعفاءه من مهامه وزيرا للقصور ورئيسا للديوان الملكي. كان يدرك جيدا أن لكل زمن رجالاته، لكن الملك الراحل ظل متشبثا بخدماته، وفي آواخر عمره عاد إلى بلده، حيث توفي في آواخر ستينيات القرن الماضي، وأرسل الملك الراحل الحسن الثاني الجنرال محمد أوفقير لحضور تشييع جنازة أستاذه بالجزائر.
ترك معمري أعمالا منها: «حسن التصنيف في مبادئ التصريف»، و«تحفة الحذاق في تهذيب الأخلاق»، و«بيان الحقيقة في المسألة المغربية»، و«نبراس الإسلام» و«حسن الوفاء» وهو ديوان شعري يضم 5000 بيت، يشيد فيه بـ«مآثر ملوك العرش العلوي».
أنكاي.. مستشار بديوان محمد الخامس مكلف بالأوضاع في الريف
عاش عبد الرحمن أنكاي طفولته في مدينة طنجة، حيث درس في ثانوية أبناء الأعياء «رينيو»، وهو ينحدر من عائلة ريفية اختارت الاستقرار في مدينة البوغاز، وعندما اشتد الخناق على المملكة الشريفة من طرف الحماية الفرنسية انضم الفتى الريفي لصفوف الحركة الوطنية وأضحى واحدا من العارفين بالملف المغربي في علاقته بالمستعمر الفرنسي والإسباني، في الوقت الذي اختار فيه أشقاؤه قطاعات أخرى من قبيل الصيدلة والديبلوماسية والتربية والتعليم.
مع فجر الاستقلال، اختاره الملك محمد الخامس للعمل إلى جانبه بعد أن لمس فيه العديد من المؤهلات التي تضعه في غرفة الاستشارة، وعينه مديرا لديوانه، ولأنه ريفي الأصول وعارف بتضاريس هذا الملف، سطع نجمه بعد أحداث الريف سنة 1958، حين كلفه الملك محمد الخامس بمهمة دقيقة، إذ طلب منه إنجاز تقرير مفصل عن الأحداث الأليمة التي شهدتها المنطقة.
في لحظة تعيينه لهذه المهمة، كشف الملك لمدير ديوانه في اجتماع بالقصر الملكي، عن دواعي تعيينه لإنجاز التقرير، أبرزها أصوله الريفية وشبكة علاقته مع الماسكين بخيوط القضية، فضلا عن ثقافته الواسعة وكانت له ثقافة عصرية ويحسن اللسان الإسباني، وممن دافعوا عن المغرب وعرشه أيام المحن، ومن أجل ذلك حظي بمكانة سامية لدى جلالة الملك محمد الخامس إلى أن صار رئيسا لديوانه، وعلى الفور شرع الرجل في مهمته الدقيقة التي توجت بتقرير معزز بالصور والشهادات من مختلف المتدخلين، لكن التقرير ظل في حكم المسكوت عنه.
يصف تقرير أنكاي، وبكثير من الدراية والاطلاع، المشاكل التي كان يعاني منها الريف سياسيا وثقافيا واقتصاديا، ويعترف أنكاي في تحقيقه بأن أسباب انتفاضة الريف في أواخر 1958 سيما في الحسيمة والناظور كانت نتيجة إدماجهما بالجنوب وبسبب أخطاء موظفي الإدارة العمومية، وقال إن مكاسب الاستقلال لم توزع بالتساوي على أبناء الوطن. وقسم تقرير أنكاي المغرب إلى ثلاث جهات رئيسية وهي: الريف والشرق والشمال، ومحور فاس- الرباط- سلا- الدار البيضاء، ثم المنطقة الأمازيغية في جنوب المغرب.
توفي عبد الرحمان أنكاي، رئيس الديوان الملكي، في حادث سير حين كان يقود سيارته قرب تمارة، وبعد أن صلى الناس على جثمانه بجامع السنة بالرباط، وبناء على وصيته، حمل إلى مدينة طنجة مسقط رأسه ودفن هناك. وتحمل الآن إحدى المدارس في مدينة البوغاز اسم أنكاي تكريما له.











