حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

رحيل عبد الحق المريني.. شيخ شيوخ البلاط

بعد 60 عاما متواصلة داخل دهاليز وزارة التشريفات

يونس جنوحي

«عندما وضع عبد الحق المريني لمساته الأخيرة على أول مشروع علمي أشرف عليه في قلب وزارة التشريفات التي دخلها موظفا، منتصف ستينيات القرن الماضي، أثنى الملك الراحل الحسن الثاني على عمله في جمع أرشيف الخطب الملكية وترتيبها..

العمل في وزارة يشرف عليها شخص مثل الجنرال مولاي حفيظ العلوي، لا شك سيجعل صاحبه «ضابطا» لإيقاع عمل غير عادي داخل القصر الملكي..

رحيل عبد الحق المريني، العاشق للأدب، قبل أن يصبح رجل التشريفات والناطق باسم القصر الملكي، خسارة كبيرة للخزانة المغربية التي أضاف إليها عددا من المؤلفات.. تفرقت مواضيعها، لكن الجامع بينها اطلاعه على «الوثيقة التاريخية».. الحب القديم الذي جعل عبد الحق المريني مُعمرا في وزارة محافظة تتحدث لغة واحدة هي لغة التكتم..

أكاديمي وباحث، مؤرخ المملكة، وناطق رسمي باسم القصر الملكي، وحارس البروتوكول والتشريفات.. ملامح من حياة عبد الحق المريني».

 

حياة المُمسك بمفاتيح «التشريفات» في ظل القصور الملكية

ما بين سنتي 1964 و 1965، دخل عبد الحق المريني حياة البلاط الملكي، التحق موظفا في وزارة التشريفات، في عز «سلطة» الجنرال مولاي حفيظ العلوي.

وصول المريني إلى هذا المنصب، جاء في سياق تحديث الملك الراحل الحسن الثاني لجهاز البروتوكول داخل القصر الملكي.

رغبة الملك في تحديث التشريفات، وضخ دماء جديدة، جعلته يعين عددا من الشباب وقتها في المناصب القريبة من مكتبه الخاص.

في سنة 1964 أحدث الملك الراحل الحسن الثاني زلزالا كبيرا في تعيينات موظفيه. فهي السنة التي اختار فيها أن يحدث ثورة في كتابته الخاصة، ويعتمد موظفين جددا يجمعون بين الحنكة في المعاملات الإدارية والتكوين في المعاهد العليا خارج المغرب.

لم تكن وزارة التشريفات، رغم الهيبة والثقل التاريخي، لتخرج عن هذا السياق. كان الملك الراحل الحسن الثاني يرغب في تحديث البروتوكول وإحداث «ثورة ناعمة»، دون المساس بجوهر التقاليد المرعية.

عندما التحق عبد الحق المريني بالوزارة، كان ينهي آخر اللمسات على مساره الأكاديمي بحصوله على شهادة الدكتوراه، الموضوع وحده كان كفيلا بشد الانتباه إلى شخصيته: «الجهاد في الشعر المغربي».

انشغال المريني بالوثيقة التاريخية، جعل منه موظفا مناسبا لوزارة التشريفات بالشكل الذي يتصوره الملك الراحل الحسن الثاني. إعادة ترتيب وثائق القصور الملكية، وتصنيف الوثائق الجديدة وفق تصور واضح يسهل بناء أرشيف مرحلة حكم الحسن الثاني.. والمريني كان في قلب هذا الإصلاح.

استقر عبد الحق المريني في عمله الجديد، لكنه بعد سنة 1972، بعد ثاني محاولة انقلابية فاشلة ضد الملك الراحل الحسن الثاني، خرج إلى الأضواء، وبرز اسمه واحدا من موظفي الوزارة الأساسيين.

لا يمكن لأي موظف سام، ولا وزير دولة، ألا يلاحظ وجود عبد الحق المريني في محيط الملك الحسن الثاني منذ 1972. ولم يكن سهلا الوصول إلى تلك المكانة، في ظل وجود وزير قوي ممسك بمفاتيح وزارة التشريفات التي أحدثها الملك الحسن الثاني في نفس سياق التحديث.. يتعلق الأمر هنا طبعا بالجنرال مولاي حفيظ العلوي.

كان المريني ملجأ حقيقيا لعدد من العلماء المغاربة الذين كانت لديهم مشاريع مؤلفات لكي يُسعفهم بالاطلاع على وثائق مخزنية، أو أن يوصل رسائلهم إلى الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا. علماء مغاربة من الجيل القديم، كانوا يؤمنون أن المرور عبر التشريفات، تتويج حقيقي لمؤلفاتهم حتى قبل أن تصدر، خصوصا منها المؤلفات التي اشتغل أصحابها على تاريخ الدولة العلوية.

هل كان المريني يتوقع أن يُعمر طويلا في وزارة التشريفات ويصبح ناطقا رسميا باسم القصر الملكي، وقبل ذلك مؤرخا للمملكة؟

طُرح هذا السؤال في أكثر من مناسبة على عبد الحق المريني، لكنه بحنكة موظف التشريفات، كان يكتفي بابتسامة وكلمة مقتضبة لا تشفي غليل من طرحوا عليه السؤال.

عندما جاء المريني إلى الوزارة، بحسب من عرفوه عن قرب، فإنه لم يكن يجهز نفسه لكي يعمر طويلا في العمل المكتبي، وكان شغله الشاغل، الاشتغال على الوثائق التاريخية والتنقيب في الأرشيف وإعداد مشاريع أبحاث في تاريخ الدولة العلوية، والجيش المغربي، والتقاليد المخزنية، وكل ما يرتبط بها. حتى أن أول مشروع عمل عليه وهو موظف في وزارة التشريفات، جمع الخطب الملكية القديمة، وترتيبها.

استحق المريني فعلا أن يحمل لقب «شيخ البلاط»، بعد أن قضى 60 سنة كاملة في العمل داخل أروقة وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة، تدرج خلالها من كونه موظفا إلى أن وصل منصب الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، ومؤرخ المملكة، وحامل مفاتيح الوزارة!

ورغم ثقل المسؤولية التي تحملها المريني قيد حياته، إلا أنه كان دائما «ميالا»، إلى الانزواء في الظل، والابتعاد قدر الإمكان عن الصورة، إلا بما تقتضيه المهام الرسمية.. وتلك عادة الشعراء الذين كان المريني «مُنقبا» غير عادي عن آثارهم في الأدب المغربي.

 

المريني الباحث.. صداقات مؤرخ المملكة مع الكُتب

كيف كان عبد الحق المريني يقضي وقته الثالث؟

لم يكن مؤرخ المملكة، وخادم الأعتاب الشريفة يخفي اهتمامه وشغفه بكل ما يتعلق بالوثيقة التاريخية.

حتى أن المريني سبق له أن ألف كتابا مثيرا عن الشاي، المشروب الذي يُدمنه المغاربة بمختلف انتماءاتهم وطبقاتهم الاجتماعية.

اختار المريني عنوانا لكتابه الصادر سنة 1999: «الشاي في الأدب المغربي»، وهي دراسة مثيرة للمؤرخ عبد الحق المريني، تجمع بين الطرافة، ورغبة الرجل في الخروج قليلا من ثقل الوثائق الرسمية.

وقد تفصل المريني في حكاية وصول الشاي إلى المغرب أول مرة، وتأثيره على الحياة العامة للمغاربة.

يقول المريني إن الشاي وصل أول مرة إلى المغرب عن طريق مضيق جبل طارق، بواسطة تجار إنجليز. واعتمد المريني على وثائق لإثبات هذه الرواية التاريخية.

أبان المريني فعلا عن «علو كعب» في الاطلاع على الوثائق التاريخية والدراسات المتعلقة ببلادنا، وضبط للغة العربية وغنى الأدب المغربي القديم.

مئات الأشعار والقصائد التي ألفها الأدباء المغاربة عن الشاي، جمعها المريني في كتابه.

كيف استطاع مؤرخ المملكة أن يحقق تنقيبا تاريخيا بهذه الأهمية، وسط انشغالاته الرسمية التي لم تكن تتوقف أبدا في قلب وزارة التشريفات والقصور الملكية والأوسمة؟

استفاد المريني كثيرا من تجربة مؤرخ المملكة السابق عبد الرحمن بن زيدان، وأشار إليه في هذا البحث العلمي عن حضور «الشاي» في الأدب المغربي.

فالرجلان، رغم أنهما من جيلين مختلفين تماما، إلا أن بينهما نقطا مشتركة كثيرة. حتى أن بعض المُدركين لثقل شخصية ابن زيدان، لا يشكون في أن الرجل كان يصلح ليتبوأ منصب مدير التشريفات في زمن الملك الراحل محمد الخامس. إذ لم يكن أحد ينافس عبد الرحمن بن زيدان في ضبط أصول آداب القصور الملكية، وعادات ملوك الدولة العلوية، وطقوس إحياء المناسبات والأعياد داخل القصر الملكي و«يوم» السلطان ووقت راحته..

الرجلان معا، جمع بينهما الاعتكاف على الوثيقة التاريخية. إلا أن عبد الحق المريني، بفضل تكوينه الأكاديمي الحديث، استطاع أن ينفتح على آفاق أخرى، جعلت من وصوله إلى منصب مؤرخ المملكة، الذي سبقه إليه آخرون بطبيعة الحال، علامة فارقة..

بالعودة إلى انشغالات عبد الحق المريني الأخرى، فالرجل عُرف عنه أنه موسوعة أدبية، بحكم تكوينه الأكاديمي في الآداب، لكن بدا واضحا أن وزارة التشريفات قد سرقته فعلا، واقتصر ظهوره عند أغلب المغاربة في الأحداث الرسمية، بصفته ناطقا باسم القصر الملكي. لكن كبار مسؤولي الدولة، كانوا يعرفونه داخل أروقة وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة، منذ أن كان يعمل في ظل الجنرال مولاي حفيظ العلوي، وخارج ظل الجنرال أيضا.

فقد كان عبد الحق المريني منذ 1965 يختلف كثيرا عن أغلب موظفي الوزارة، إذ إن خلفيته الأكاديمية والفكرية، جعلته يركز على الجانب الأكاديمي المتعلق بالوثيقة الملكية، وهو ما جعله لاحقا يحظى بلقب «مؤرخ المملكة».

 

 

 

من الگزا.. زمن الإعجاب بمحمد بن يوسف والمولى إسماعيل

إذا كان عبد الحق المريني ينتمي إلى جيل ثلاثينيات القرن الماضي، فإن «سنّه» التاريخية تعود بكل ما تحمله الكلمة من معنى إلى عهد المولى إسماعيل.

وكل الذين تعرفوا على شخصية عبد الحق المريني، بصفته الأكاديمية، مؤرخا للمملكة، لمسوا فيه إعجابه بحياة السلطان المولى إسماعيل الذي حكم المغرب ما بين سنتي 1672 و1727، حتى أن البعض كانوا يظنون أن المريني ينحدر من مدينة مكناس، أو أنه رأى النور فيها.

لكن الحقيقة أن مؤرخ المملكة، كان قد اطلع ربما أكثر من غيره على وثائق القصر الملكي، عندما بدأ العمل داخل دهاليز وزارة التشريفات منذ سنة 1965.

في الرباط، تلقى المريني تعليما عتيقا، وحفظ مثل غيره من آلاف أبناء المغاربة في ذلك الوقت، القرآن الكريم كاملا.

لكن مسيرته سوف تتغير عندما التحق بالتعليم العصري. لم يكن طموحه ما قاده إلى ثانوية مولاي يوسف لكي يحصل منها على شهادة الباكالوريا، وإنما تلقى أيضا نصائح من مقربين ومن العائلة، لكي يواصل تعليمه هناك بدل المواصلة في التعليم العتيق. وبحكم أن عبد الحق المريني لم يلتحق بجامع القرويين مثل ما كان يفعل أغلب الخريجين في ذلك الوقت، فإنه اختار لنفسه أفقا أرحب، مثله مثل القلة الذين اختاروا الحصول على الباكالوريا من ثانوية مولاي يوسف بالرباط.

لم يكن أحد يتوقع أن يصير ذاك الشاب النحيل، الذي يقطع يوميا الشارع المار بالقرب من محطة القطار بالرباط في اتجاه ثانوية مولاي يوسف، أحد أشهر الأسماء المغربية التي ارتبط اسمها بوزارة التشريفات والأوسمة، وخِدمة الملوك وصيانة وثائق مكتب الملك.

عندما كان المريني يتوجه مع أقرانه من الشباب إلى ثانوية مولاي يوسف، لم يكن غريبا عنه أن يرى موكب السلطان سيدي محمد بن يوسف، يمر في اتجاه القصر الملكي. وحتى في مشاهد الطفولة البعيدة، في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، كان أطفال الگزا، يتسابقون حفاة لكي يلاحقوا موكب السلطان، سواء أثناء خروجه للصلاة راكبا الخيل، أو أثناء عودته إلى الرباط في موكب من السيارات العصرية.

التحق عبد الحق المريني بالبحث العلمي، وعُرف بسعة صدره في وقت اكتفى أغلب من درسوا معه بالالتحاق بمهنة التدريس وتوزعوا على إعداديات الرباط وثانوياتها بعد الاستقلال. أما عبد الحق المريني، فقد واصل مساره وحصل على دبلوم الدراسات المعمقة، والتحق بالجامعة الفرنسية التي حصل فيها على درجة الدكتوراه سنة 1966، في موضوع «شعر الجهاد في الأدب المغربي».

في الوقت الذي كان فيه المريني يزاول مهنة التدريس في خمسينيات القرن الماضي، التحق لأول مرة بديوان الوزارة موظفا بسيطا، لكنه بتلك الخطوة، كان قد اتخذ أولى الخطوات في اتجاه المهنة التي سوف «تسرقه» من كل ما كان يحيط به في ذلك الوقت.

التحق عبد الحق المريني بوزارة التشريفات والأوسمة، موظفا بمديرية التشريفات سنة 1965. وبقي في ذلك المنصب إلى حدود سنة 1972، العام الذي فكر فيه الملك الراحل الحسن الثاني في ضرورة تحديث عمل وزارة التشريفات وإدخال تعديلات جوهرية على إيقاع العمل. إحياء التقاليد المرعية، من عهد المولى إسماعيل، وإدخال ترتيبات جديدة على البروتوكول.. كل هذا كان مهندسه الأول الجنرال مولاي حفيظ العلوي، المدير المباشر لعبد الحق المريني منذ ذلك الوقت.

مع الجنرال العلوي.. بعيدا عنه

في سنة 1965 إذن التحق عبد الحق المريني بوزارة التشريفات. العين التي «اقتنصته» كانت تعرف قدراته الفكرية والأكاديمية. ضبطه لمفردات اللغة المخزنية في الخطابات والكتابات الرسمية، رشحه لكي يسد فراغا كبيرا بعد سنة 1972، سببه رحيل بعض كتاب التشريفات الذين كانوا ينتمون إلى عهد المولى يوسف، بل كان هناك موظفون أخذوا أصول مهنة الكتابة من نهاية زمن المولى الحسن الأول سنة 1894، بعد أن جيء بهم إلى الرباط من القصر الملكي في فاس.

الدماء الجديدة التي كان يحملها عبد الحق المريني، جعلته يتسلم مفاتيح مكتب مكلف بمهمة بوزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة، وهو المنصب الذي شغله منذ ذلك الوقت سنة 1972 إلى حدود 1998، السنة التي تعينت فيها حكومة التناوب، عاما واحدا قبل وفاة الملك الراحل الحسن الثاني.

تعيين المريني في المنصب لم يكن بالصدفة، فقد كان الملك الراحل الحسن الثاني يحس في ذلك الوقت أن الوقت قد حان لكي يتسلم المريني المنصب الذي غادره الجنرال مولاي حفيظ منذ وفاته سنة 1989، ولم يسد أحد ذلك الفراغ.

كان المريني الأنسب لكي يمسك مفاتيح الوزارة التاريخية. فقد نشأ فعلا في ظل الجنرال العلوي، لكنه كان يختلف عنه في أمور كثيرة. وكان الملك الراحل الحسن الثاني أكثر من أدرك هذا الفرق بين رجلين لا ينتميان إلى نفس المدرسة، بل ولا تجمع بينهما نقاط مشتركة، سوى خدمة الأعتاب الشريفة والإلمام بالطقوس المرعية.

تقول بعض المصادر التي تحدثنا إليها في «الأخبار» إن عبد الحق المريني ظل بعيدا عن هيمنة الجنرال مولاي حفيظ العلوي في وزارة التشريفات، والسبب أن الملك الراحل الحسن الثاني منذ منتصف السبعينيات، كان يعهد بنفسه إلى عبد الحق المريني ببعض المهام، ولم يكن الجنرال يتدخل فيها، وهو ما ميز المريني عن بقية موظفي الوزارة.

وأكدت المصادر نفسها أيضا أن المريني كان موظفا نشيطا، وتميز عن غيره بإلمامه الكبير بمحطات من تاريخ المغرب، إذ كان يستحضرها في كل المهام التي شغلها أثناء عمله بالوزارة.

وفي الوقت الذي كان فيه الجنرال يلقي بظل ثقيل على بوابة الوزارة «الغامضة».. كان عبد الحق المريني يمثل الجانب البعيد عن ظل الجنرال، وبدأ اسمه يبرز مبكرا لدى الأكاديميين الذين اشتغلوا على وثائق القصور الملكية، أو الذين اهتموا بتسليم الملك الراحل الحسن الثاني نسخا من مؤلفاتهم التاريخية. فقد كانت أولى المهام التي تكلف بها عبد الحق المريني، هي تدبير تسلم الملك الراحل للمؤلفات التاريخية التي تعنى بتاريخ الدولة العلوية، ورعاية مشاريع صيانة الوثائق الملكية.. وهكذا فقد كان أبرز إنجازات المريني في ثمانينيات القرن الماضي، أنه انكب على جمع أرشيف الخطب الملكية، وكان أول من رتبها، قبل أن تُطبع بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني.

 

جامع الخُطب الملكية.. والغارق في «جبال» من الأرشيف

لا يمكن لأي أكاديمي أن يتمنى أكثر مما تمناه عبد الحق المريني لنفسه.. الغرق وسط أكوام من وثائق الأرشيف المخزني، في قلب وزارة التشريفات، ثم في الخزانة الملكية.

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أنهى عبد الحق المريني اللمسات الأخيرة على مشروع سلمه إلى الملك الراحل الحسن الثاني يدا بيد.

هذا المشروع تمثل في طباعة مجلدات جُمعت فيها الخطب الملكية منذ الاستقلال.. خُطب الملك الراحل محمد الخامس، وخُطب الملك الحسن الثاني..

هذا العمل استغرق من عبد الحق المريني سنوات من الترتيب والبحث في الأرشيف.

إذ إن بعض الخطب التي ألقاها الملك الراحل محمد الخامس، بعد عودته من المنفى، كادت أن تضيع، بسبب عدم الاعتناء بالأرشيف، خصوصا وأن بعضها بُثت على أمواج الإذاعة.

أما سبب عدم إدراج عبد الحق المريني لبعض خطب الملك الراحل محمد الخامس، أنها تعرضت للتشطيب، بسبب تدخل الإدارة الفرنسية، سيما خطابات الأربعينيات من القرن الماضي. إذ كان الفرنسيون يمارسون نوعا من التضييق على السلطان سيدي محمد بن يوسف، ويحرصون على أن تذهب خُطبه إلى الإقامة العامة أولا، ويزيلون منها بعض الفقرات. وحتى الخطب المسجلة بصوت الملك الراحل، والتي بثت على الراديو، كانت الإقامة تذهب دائما في اتجاه تعديل التسجيل قبل بثه، وإزالة الفقرات التي قد تغضب المقيم العام.

ولعل أخبث أنواع التضييق التي تعرض لها السلطان، أن الإقامة العامة الفرنسية كانت ترسل عمدا طائرة صغيرة لكي تحلق فوق القصر الملكي، وتقترب من نوافذ القصر محدثة أزيزا عنيفا، في الوقت الذي يسجل فيه السلطان خطابه، قبل توجيهه إلى الإذاعة.

كان عبد الحق المريني ملما بكل هذه التفاصيل، لذلك كانت مهمته في جمع الخطب الملكية، محاطة بصعوبات في الإلمام بكل الأرشيف المتاح لدى وزارة القصور الملكية.

لم تكن مجلدات الخطب الملكية التي أشرف عليها د. عبد الحق المريني متاحة للعموم، لكن نسخا منها وصلت إلى الوزارات، وإلى الإعلام الرسمي. وقد ساهمت في تسهيل العمل الصحافي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بإحالات على خطابات ملكية من الأرشيف، أثناء تناول بعض المواضيع الوطنية، سواء على أمواج الإذاعة، أو على شاشة التلفزيون. ولولا المجهود الكبير الذي بذله عبد الحق المريني، لما خرج المشروع إلى الوجود.

بعض الذين عرفوا عبد الحق المريني عن قرب، يؤكدون أن مشروع جمع الخطب الملكية، كان أولى لمسات المريني الأكاديمية في الوزارة.

ورغم أن الجنرال مولاي حفيظ العلوي كان يهمين على المشهد في وزارة القصور، إلا أن المريني سرق فعلا الأضواء، عندما خرج المشروع إلى الوجود.. وانتبه الكثيرون يومها إلى «كفاءة» موظفي التشريفات، وما قد يوجد خلف أسوار الوزارة الشاهقة من قامات علمية تعمل في خدمة الملك.

اشتغال عبد الحق المريني على وثائق الأرشيف، لم يقف عند الخطب الملكية وحدها، بل تمكن من تأليف أحد أشهر المؤلفات التاريخية وأكثرها أهمية في السنوات الأربعين الأخيرة، يتعلق الأمر بكتاب «الجيش المغربي عبر التاريخ». وباستثناء د. عبد الهادي التازي، المؤرخ السابق للمملكة، وعبد الهادي بوطالب، الدبلوماسي والمستشار الملكي، فإنه لا أحد حظي بفرصة الاطلاع على وثائق الأرشيف المتعلق بالجيش المغربي قبل قرون خلت، واستثمارها في كتاب.

حتى أن عبد الحق المريني عندما كان يشتغل على مادة الكتاب، لقي دعما كبيرا من الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا، وهو الذي أمر ألا تُحجب الوثائق المتوفرة في الخزانة الملكية، وفي مكاتب القصر الملكي ووثائقه عن عيني المريني.

والنتيجة كانت صدور المؤلف، الذي جمع تاريخ المؤسسة العسكرية.

هذه قصة تنقيب المريني في آلاف وثائق «الجيش» المغربي

بدأ عبد الحق المريني كتابه «الجيش المغربي عبر التاريخ»، هكذا:

«يُسعدني أن أقدم هذا الكتاب إلى أبطال الجيش المغربي الخالدين، وإلى أرواح شهدائنا الأبرار في كل مكان».

واعترافا بالدور الكبير الذي لعبه الملك الراحل الحسن الثاني في العناية بالوثيقة التاريخية التي اشتغل عليها المريني، فقد أدرج مقولات للملك في مقدمة الكتاب، وأبرزها: «الشعب المغربي شعب تاريخي.. لأن تاريخه قديم ولأنه يمارس تاريخه، ولأن ممارسته لتاريخه أدت به إلى أن يصنع تاريخه.. لقد كان المغاربة أينما كانوا وأينما وُجدوا جنديا واحدا وقائدا واحدا وضابط صف واحد، كيفما كانت نوعيتهم وجهاتهم ولهجاتهم..».

يقول عبد الحق المريني في تقديم هذا الكتاب:

«أما بعد:

لقد وجدت فراغا بخزانتنا المغربية في موضوع التاريخ العسكري المغربي الذي لم يعره بعض مؤرخينا كثيرا من الاهتمام، فأخذت على عاتقي البحث في هذا الجانب الهام من تاريخنا المجيد، وأتيت فيه بدراسة لا أقول عنها وافية، بل ما زال موضوعنا في حاجة إلى كثير من الباحثين والمؤرخين وأصحاب الخبرة في الفنون العسكرية، ليكتبوا حوله دراسات شاملة ناضجة.

وحسبي أن أبدأ وأقدم لطلاب معاهدنا العسكرية وضباط وجنود قواتنا المسلحة الملكية والمهتمين بالتاريخ الحربي والعسكري للمغرب هذا الكتاب المتواضع، آملا أن يكون حلقة وصل بين ماضي جيشنا الزاهر وحاضره الباسم، ويظهر لجنود المغرب في الحرب وجنوده في السلم أن مبدأنا الخالد وهدفنا المقدس كان ولن يزال هو: الله- الوطن- الملك».

والمثير أيضا، أن عبد الحق المريني كان قد ارتأى أن يخصه المارشال أمزيان، باعتباره حامل أرقى رتبة عسكرية في الجيش المغربي، وشحه بها الملك الراحل الحسن الثاني، والتي لم يسبقه إليها أحد ولم يحصل عليها أحد من بعده، بتقديم للكتاب.

بالإضافة إلى تقديم آخر وقعه محمد الشرقاوي، أبرز قياديي حزب الشورى ووزير الخارجية، والدفاع الوطني سابقا.

اختيار الاسمين معا يعكس حرص المريني، وشخصيته.. فقد كان يُحسن دائما انتقاء الأسماء، ولعله ورث هذه العادة من مهامه في التشريفات..

وقد جاء في كلمة المارشال محمد مزيان إلى عبد الحق المريني، بمناسبة انتهائه من المؤلف:

«وإذا كانت لنا كلمة نقولها حول مؤلفكم المذكور، فلن تخرج عن أنها كلمة تشجيع وتأييد، حيث كان لكم قصب السبق في إظهار بعض تلك الحقائق إلى حيز الوجود.

ولا يسعنا إلا أن نبارك لكم هذا المجهود المحمود الذي بذلتموه، ونتمنى لكم كل نجاح وتوفيق، سيما حول موضوع عظيم الأهمية بالنسبة إلى تاريخ المغرب الحربي كتاريخ الجيش المغربي، ونرجو أن يكون مؤلفكم نواة مؤلفات أخرى نرجو أن تظهر في المستقبل حول هذا الموضوع تفي بالغرض المطلوب، وما ذلك على همة العاملين المخلصين بعزيز».

أما محمد الشرقاوي، فقد كتب يقول: «ولقد أخذ السيد عبد الحق المريني على عاتقه مهمة كشف الجوانب التي كانت خافية أو غامضة في تاريخ الجيش المغربي، فوضع كتابه هذا عن الجيش المغربي عبر التاريخ، والذي يعتبر أول محاولة جادة في كشف الحقائق وتجليتها، كي يطلع المواطنون على تاريخ أمجادهم وبطولاتهم.

وإني لأرجو أن يكون عمله الجليل هذا خطوة أولى في سبيل ربط ماضي الجيش المغربي المليء بالبطولات بعهده الزاهر، الذي يحمل فيه بقيادة وحنكة جلالة الملك الحسن الثاني عبء المساهمة الفعالة في تعمير البلاد، والدفاع عن حوزتها وحقوقها التي تثبتها الحجج التاريخية وإرادة السكان والمعاهدات الدولية».

 

 

 

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى