حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأي

كهنة اليوم أو تجار السعادة الفلسفية

جمال أكاديري

معظم توابل الحكمة القديمة، التي يبيعها تجار السعادة الفلسفية – كهنة اليوم – ينتقونها من جب حكماء الشرق القدامى، بعد إعادة تدويرها، وإضافة قليل من صلصة التمدن، وبهارات الحضارة المزعومة وإشعاع التنوير فوقها.
هكذا يفبركون (لإرواء عطش النفوس الهائمة)، تلك الأدلة المقنعة جدا والتي تتسربل بالحقائق البديهية، المسلم بها، والتي كانت تجول شاردة فوق هوامش الأنساق الفلسفية الكبرى (أفلاطون – سبينوزا – ليبنتز – كانط – هيغل)، إلا أن هذه الأخيرة على الأنسب، كانت تستخدمها في حدود معينة مسطرة لها، وكشواهد للاستئناس فقط !
كل هذا، يكون مصحوبا بتلاعبات خفية، لن يقدر على فضحها، إلا من خبر متاهات تاريخ الفلسفة الغربية القديمة جيدا، وتشبع بمناخاتها .
دجالون جدد، إذن، ظهروا في العالم العربي المتخلف
تفاديا منهم، للصعوبة الفلسفية الحقيقية، والتنكر لعناء فضيلة الاستشكال، ها هم الآن يتدربون على صناعة وصفات للعلاج، بما يسمونه كمياء حكمة الفلسفة المتجددة؛ أي نوع من استغلال المصداقية، أمام السذج المهووسين بشكل مرضي بفكرة الموت، فيكون الحل هو أن نقدم لهم جدولا خاصا بحصص من التنمية الذهنية الذاتية، وباستهلاك يومي ووهمي لمزق من حكمة مصطنعة، ممزوجة بنكهة المهدئات، وتقنيات التنفس البطيء، والبصبصة من ثقب الفراغ.
كانت هناك حركة تجارية نشطة، في دول الغرب تحاول أن تستجيب لهذا الطلب المتزايد، على أساليب الرفاهية الذهنية، وعلى الطرق التي تؤدي إلى الراحة النفسية، والهروب من هواجس القلق الداخلي الحاد، والانكفاء بعيدا عن عوالم الصدف الخارجية، القاسية والمباغتة، والحاملة لبذور العنف.
ولأن الفلسفة الحقيقية لا تبيع دوما السعادة، بل تمارس كل أشكال القلق، فهناك المزيد من التسليع لمثل هذه الأوهام، في خط بناء احتيالي للفلسفة التجارية السائدة التي تعد قراءها العميان بفراديس الطمأنينة، وتعزيز ناجح مائة بالمائة للتمارين الروحية المؤدى عنها .
اتجاه يستفز فطنتنا ويستدعي الشك والارتياب، لأن السعادة طبعا ليست في متناول كل من يدفع ثمنا لها. إنه الخزي بعينه، حين نتصور إمكانات الفلسفة، وهي تختزل في إعادة تنشيط بسيط، لما عفا عنه الزمن، من شذرات الحكماء القدامى على أهميتها كإرث فكري، أي إلى تمرين باطني يسمح «بتحرير الفرح المدفون في قلب كل شخص»، كما ورد في تصريح لأحد كهنة هذا التبشير شبه الفلسفي وشبه الاستعراضي.
الآن بعد أن استوفى مهمته مسلسل اختراق آليات المجتمع الاستهلاكي لحصون طبقاتنا المتبرجزة المتخلفة، التي كانت تحلم هي أيضا بالرفاهية، طمعا في خلق صورة افتراضية براقة حول وجودها وعوالمها.
عالم لن يكون هناك أي قلق أو انهيار نفسي على الإطلاق… عالم فعال ومقبول ومسطح لا تتخلله النتوءات .
إذن اطمئن أيها المثقف «المتوازن المسرنم المكتفي بذاته» الساري على هدى التنوير: الجهل لم يعد موجودا، نحن نعيش في كنف المعرفة الرقمية المعولمة المذهلة!
خذ هاك عالم مشع مثالي تنويري وهمي وبسيط حلو ومدغدغ، شبيك لبيك كلشي بين يديك!
فلنضرب مثلا، بالعلمانيين المتنورين جدا، الذين لم يقرؤوا الفيلسوف فوكوFoucault .
1 – هناك بعض المتمدرسين الجدد، الذين فتحوا أعينهم على وعود، وخيرات العلمانية، كما تبثها لهم قنوات الغرب، يطنطنون العام كله، في رحبة وسائل التواصل الاجتماعي وخارجه، عن الحاجة إلى ثقافة الأنوار وقافلة التنوير… وينهونها، بتمطيط أسماء جهابذة المفكرين، وآخرهم ميشيل فوكو وما قاله عن الفيلسوف الألماني كانط…
الغريب أن لا أحد فعلا قرأ شيئا، مما ذكره فوكو عن التنوير والأنوار، وحتى عن القيم الغربية مجملا، وعلى رأسها التقدم والعقلانية!
لأنهم، لو كانوا فعلا اطلعوا وفتحوا الكتب، لما ذكروا أبدا اسم ميشيل فوكو، الذي كتب بالحرف أنه لن يدخل في لعبة التنوير والأنوار وفي لعبة الابتزاز هاته، التي تحشر كل من شكك في حقبة الأنوار، يعتبر ضد آمال الإنسانية وقيمها التقدمية، وبالتالي ينعت بـ«anti-humaniste».
2 – استخدام اسم الفيلسوف ميشيل فوكو في مجال التنمية المستدامة!
نادرا ما تجد باحثا، يتلقف مفهوم انتقادي من الفلسفة، وينزع عنه حمولته الثورية، في الفضح والكشف، ويحشده على نطاق واسع، في دراسة تخص مجال الإدارة، مطعمة ببيانات السوسيولوجيا الأمبريقية الإحصائية الرقابية، وجدت مثالا يثير حنق كل دارس، ويتعلق باستعمال مفهوم «Le dispositif».
المثير للاستغراب، أن ميشيل فوكو الذي أبدع وأشاع هذا المفهوم، في كتابه عن تاريخ العقاب والمراقبة في السجون، في محاضراته وكتبه المتأخرة، أصر فعلا على تبيان الطبيعة الاستراتيجية للأجهزة التي تولد السلطة على مستوى الميكروفيزيائي، ومشيرا في الوقت نفسه إلى ما يقابلها من جيوب المقاومة، ومنافذها، ولكن لم يحلم أبدا أن يأتي يوم ما، وأن يستخدم أحد خصوبة هذا المفهوم، على جدول أساليب تدريب المديرين التنفيذيين التقنوكراط، على المهارة والممارسات الاستراتيجية التي يقومون بها، كوظيفة رئيسية، تطبيقية لتأطير العمل الميداني !

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى