
يقال إن الديموقراطية هي حكم الشعب بالشعب وللشعب. ويا لها من عبارة شاعرية تصلح لتُطرّز على «الطلامط» في بيوت ما تبقى من الطبقة الوسطى، بعد التضخم. لكن دعونا نخلع النظارات الوردية وننظر للأمور كما هي، لا كما يريد صناع الأساطير السياسية أن نراها. فهل الديموقراطية حقا أفضل ما أنتجته البشرية، أم أنها مجرد سيرك شعبي يمنح الأميين، واللصوص، والقتلة، وشذّاذ الآفاق بطاقة VIP للدخول إلى معبد القرار السياسي؟
فلنبدأ من الأساس، من هذا «الشعب» الذي يحكم؟ إنه في الغالب مزيج عجيب من الذين لا يقرؤون، لا يفهمون، ويتابعون السياسة بنفس الطريقة التي يتابعون بها مباريات كرة القدم. «صوّت لفلان، لأنه يشبه أبي»، «سأعطي صوتي للحزب الأقل استعمالا للزرواطة خلال الاحتجاجات». إنها ملحمة من القرارات العاطفية، التافهة، والمرعبة.
ولعل الفيلسوف أفلاطون كان أول من صرخ من هول الفكرة. ففي «الجمهورية»، انتقد الديموقراطية بشدة، معتبرا أنها تمنح «الجهلة» سلطة القرار، وهي بذلك لا تختلف عن إعطاء دفة السفينة لبحارة مخمورين يقررون الوجهة بالأغاني والهتافات، بينما القبطان الحقيقي يُرغم على الجلوس في الدرجة السياحية. الديموقراطية في نظر أفلاطون كانت مرحلة ما قبل الطغيان، وهي بوابة الفوضى، حيث يُخدّر الشعب بشعارات الحرية والمساواة حتى يستفيق على «الشلاهبية».
لنكن واقعيين، الديموقراطية تفتح الباب لكل من هب ودب، لكل من امتلك لسانا سليطا، أو وجها بشوشا، أو قدرة على شراء الأصوات، أن يصبح مُشرّعًا أو رئيسا أو ناطقا باسم «الشعب العظيم». من يستطيع أن ينسى كيف وصل أحد الممثلين الكوميديين إلى سدة الحكم في أوكرانيا، أو كيف صار دونالد ترامب زعيما للعالم «الحر».
المشكلة أن التصويت الديموقراطي لا يميز بين الطبيب الذي قضى عمره في الدراسة والتحصيل العلمي، وبين المواطن المدمن على مشاهدة لايفات ولد الشينوية. وفي النهاية، صوت الجاهل وصوت العاقل لهما نفس الوزن في صناديق الاقتراع. فهل هذه عدالة، أم كارثة مفخخة؟
تاريخ التغيير الحقيقي لم يكن يوما صناعة جماهيرية. لم تكن الثورة الفرنسية ثمرة مناقشات عامة في المقاهي، بل نتاج نخبة مثقفة قرأت فولتير وروسو، وقررت أن الباستيل لا يليق به إلا الحريق. الثورة الأمريكية؟ لم تكن نتيجة استفتاء شعبي، بل تآمر مجموعة من ملاك الأراضي والتجار الذين كتبوا إعلان الاستقلال، خلف أبواب مغلقة.
حتى حركة التحرر الهندية لم تكن «ثورة الجماهير»، بقدر ما كانت نضالا قاده محامٍ متعلم درس في بريطانيا، اسمه غاندي. النخبة المثقفة -لا الجماهير- هي التي حركت التاريخ للأمام. الجماهير تتحرك فقط عندما تُصفع صفعتين، أو تُوزع عليها بعض الأرغفة.
وما قاله كارل بوبر – رغم دفاعه المشروط عن الديموقراطية- ينطبق هنا: «خطر الديموقراطية هو أن تتحول إلى ديموقراطية شاملة يحكم فيها الغوغاء، وتُغتال فيها الحرية باسم الحرية». ببساطة، الديموقراطية عندما تفقد عقلها، تنقلب على ذاتها وتتحول إلى ديكتاتورية جماهيرية.
هل نذكر أن هتلر جاء إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع؟ نعم، الرجل الذي أشعل حربا عالمية وأباد الملايين لم يُفرض على ألمانيا بانقلاب عسكري، بل تسلل من تحت عباءة الديموقراطية نفسها. لقد قال يوما: «أعطني إعلاما بلا ضمير وشعبا بلا وعي، وسأجعلهم ينتخبون حتفهم». وهذا بالضبط ما حدث.
وفي زمننا، تكررت الحكاية نفسها في صيغ متعددة، من قادة حركات شعبوية يمينية متطرفة، إلى قراصنة السياسة الذين يتقنون اللعب على الأوتار العاطفية للشعوب، من خطاب الخوف إلى التحريض على الآخر. الديموقراطية لم تعد تعني حكم العقل، بل إدارة السوق العاطفية للأصوات.
المدافعون عن الديموقراطية سيقولون: «هي ليست مثالية، لكنها أقل الأنظمة سوءا». عبارة تشرشل الشهيرة، التي تُردّد كلما انهار برلمان أو سقط نظام منتخب في حفرة الفساد، تُستخدم كضمادة نفسية. لكن الحقيقة أن الديموقراطية المعاصرة لم تعد سوى عرض استعراضي. ننتخب، نعم. نختار، ظاهريا. لكن خلف الكواليس، من يحكم هم اللوبيات، وأصحاب المال، وخبراء التسويق السياسي.
إننا لا نعيش في ديموقراطية، بل في أوهام ديموقراطية. نُمنح حق التصويت مرة كل بضع سنوات، مقابل أن نصمت بقية الأيام. نُخدع بالألوان الزاهية للحملات الانتخابية، بينما السياسات تُفصّل في غرف مغلقة. ما الديموقراطية في النهاية سوى «نظام لإقناعك بأنك تختار، بينما يتم اختيار كل شيء من أجلك مسبقا».
الديموقراطية ليست شرا مطلقا، لكنها ليست خيرا مطلقا أيضا. هي أداة، مثل السكين، تقطع الخبز أو تذبح الأبرياء. وإن لم يكن الشعب مؤهلا، واعيا، مثقفا، فإن الديموقراطية تتحول إلى عبث سياسي، حيث يحكم البلد مجموعة من الفاشلين، بتصريح من الجماهير نفسها.
ربما كان يجب أن نصدق أفلاطون، حين قال إن «أفضل الحُكام هم أولئك الذين لا يسعون للحكم». لكن الديموقراطية لا تعطي الفرصة لهؤلاء، بل تسلم السلطة للذين يجيدون الصراخ.
فهل نحتاج إذًا إلى مزيد من الديموقراطية، أم نحتاج أولا إلى مزيد من التعليم، والعقل، و… قليل من الحظ؟
في كل الأحوال، الديموقراطية ليست أفضل نموذج للحكم. إنها فقط، حتى الآن، النموذج الأقل فشلا. ومثل كل الكذبات الجميلة، ما زلنا نضحك ونحن نبتلعها.





