شوف تشوف

الرأي

مزاج تربوي سيئ

يستطيع أي منا أن يرى أن تعامل عموم المغاربة مع الخدمات العمومية محكوم بمزاج جماعي سيئ، وهو أن من الموظف أو المسؤول الذي يتقن أو يجتهد في إرضائنا، هو بالضرورة مدفوع بنوايا الارتشاء، وأن هذا الاتقان إنما سببه رغبته في أن نُمكنه من «قهوة». وفي حال ما قمنا فعلا بخطوة «الإرشاء»، واكتشفنا أن الدافع الحقيقي هو إيمانه بالواجب المهني، فإن الشك يظل مرافقا لنا في مدى جودة ما قدمه لنا «مجانا»، ولا نرتاح لعمله إلا عندما يقبل منا ما ناولناه إياه. أو إذا استعملنا الهواتف في البحث عن وساطات، حتى لو لم تكن الحاجة قائمة لهذه الوساطات.
يتعلق الأمر كما قلنا بمزاج عام كوَّنته عبر السنين ممارسات إدارية غير سليمة. فنلاحظ مثلا أننا قد نفضل التوجه لطبيب يشتغل لـ»ساعات إضافية» في عيادة أو مصحة على أن نقصد الطبيب نفسه في مستشفى عمومي، والأمر قد لا يتعلق بالضرورة بمسألة الاكتظاظ أو النظام أو المواعد، وإنما، أحايين كثيرة، لأننا نشعر بأن الثمن الذي نؤديه في مصحة أو عيادة كاف ليقنعنا بأن الطبيب أحسن التشخيص، بينما قد نشكك في دقة الفحوصات من الطبيب نفسه لو قابلناه في المستشفى. بل إن شك البعض منا لا يتوقف عند هذا، ليتم اللجوء للوساطات في المصحات والعيادات الخاصة أيضا.
يحصل هذا أيضا في مجال التربية، وكل المربين الذين يتعاملون مع تلاميذ المستويات الإشهادية يرون جيدا كيف أصبحت الساعات الإضافية المؤدى عنها هوسا جماعيا، وصيحة لا يفلت منها سوى قليلين. فتجد أسرا لا تثق في الدعم التربوي المنظم في المؤسسات العمومية وتلجأ لدعم مؤدى عنه عند الأساتذة أنفسهم، مع أن طرق إنجاز هذا الدعم تبقى هي هي، بل إن أسرا تؤدي ثمن 3 آلاف درهم شهريا كواجبات تمدرس أبنائها في مدارس خاصة، ولكنها تبحث عن شيء أكثر خصوصية، فتقبل أن تعتمد المدرسين أنفسهم لساعات إضافية منزلية قد تصل تكلفتها إلى 5 آلاف درهم إضافية شهريا. وهذا لا علاقة له بالأسباب التربوية، بل فقط للبحث عن شعور بالثقة بأن الأستاذ أتقن عمله. وكما في الطب، فالأستاذ الذي لا يقدم الساعات الإضافية الخصوصية غالبا ما يتم التشكيك في عمله، ويتم تفضيل نصائح وتوجيهات الأساتذة الذين حولوا شققهم إلى محلات للدعم التربوي بدل الاكتفاء بنصائح وتوجيهات قدمها أساتذة في مؤسسة عمومية مجانية.
وكما قلنا، سابقا، فالأمر يتعلق بمزاج عام، والتلميذ الذي لا يتلقى الساعات الإضافية، حتى وهو في غنى عنها معرفيا ومهاراتيا، يشعر بأن زملاءه المقبلين عليها أفضل منه، وقد يصيبه هذا بإحباط كبير، إذا لم يجد أسرة واعية تفهمه بأن الأمر نفسي ووجداني ولا علاقة له بالتربية. فتجد تلاميذ يحضرون الحصص في مدارسهم حضورا صوريا فقط لتجنب الغياب أو الالتقاء بـ»شلة» الأصدقاء، ولا يهتمون بما يقال لهم من توجيهات وتصحيحات في الفصول، لأنهم يعرفون جيدا أنهم على موعد مع حصص أخرى، سيقدمها الأستاذ نفسه، وربما في شروط أسوأ (مقاه، مستودعات، باحات منازل..)، وسيستفيدون أكثر. وفي المحصلة قد تُكلف السنة الثانية للباكلوريا لوحدها بعض الأسر ما يفوق 10 ملايين سنتيم،
ليصبح المشهد سورياليا. فالأسر تتجنب المؤسسات العمومية بحثا عن ظروف تمدرس أفضل في مدارس خاصة، ولكنها لا تكتفي بذلك، بل تلجأ لساعات إضافية في المواد الأساسية، وغالبا عند الأساتذة أنفسهم، ومنها ما لا تكتفي بكل هذا، بل تدفع مبالغ إضافية للأساتذة أنفسهم في ساعات منزلية يحضرها التلميذ لوحده. وفي كل هذه المحطات نجد الأستاذ يدرس البرنامج الدراسي نفسه ويعتمد التمارين ومنهجية الحلول ذاتها، ولكن الفرق هو أن الثقة في الخدمة تزداد أكثر كلما دفعنا أكثر وكلما كان ما قدم لنا غير مجاني، وهذا وضع غير طبيعي على الإطلاق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى