حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأي

مقابر الحضارة أم مزابلها

بقلم: خالص جلبي
ما زلت أتذكر رحلة التخصص في ألمانيا التي كانت أشبه بشق طريق في الصخر، في لغة جديدة، وبيئة مشحونة بالعنصرية، وصرامة جرمانية، ووجوه كالحة، وعمل رتيب كالآلات بأعصاب أبرد من الروبوت. وما زلت أتذكر حديثي مع الأستاذ مالك بن نبي، عندما زارنا في دمشق عن رحلة التخصص.
وجهة نظر المفكر الجزائري أنه يريد نموذج يتعرف على الغرب، ليس على طريقة (المقبرة) أو (المزبلة)، فمن يذهب من أولادنا للتخصص ينحو أحد اتجاهين في الغالب، ويظهر هذا واضحا في سلوكه عندما يرجع إلى الوطن بعد رحلة التخصص، من دقة العمل أو اللامبالاة، قيمة الوقت أو الضباب في المواعد، من كلمة موعدنا بعد العشاء التي تصلح سلاما هي حتى مطلع الفجر، النظافة من القذارة، الأناقة في العمل من الفوضى مرسومة بالكامل.
الاتجاه الأول (المقبرة) هو الانكباب على الإنجاز المهني، والنموذج الثاني (المزبلة) بالانفتاح على العهر في المجتمع الغربي. النموذج المهني لا يحمل بذرة الحضارة، والنموذج اللاأخلاقي ينقل كل سلبية الحضارة. الأول يحمل تقنيات الأشياء، والثاني ينقل الفكر القاتل السام.
والمتحارجة هي في هذه النقطة؛ فالفكر التقليدي لا يعرف ماذا جرى في القرون الخمسة الفارطة، وكل نقل للفكر من هذه القناة هو مواضعة خارج التاريخ والجغرافيا، وهي في عمقها فكر ميت، قد شبع موتا، وغادر رحمه الدافئة، وأنجز ما أنجز، وتبخرت منه كل طاقة الحضارة وزخمها. الفكر الثاني ليس فكرا ميتا، بل فكر قاتل، مشحون بكثافة سمية عالية مجهضة لكل نهضة حضارية؛ فنحن نتعامل إما مع فكر ميت أو قاتل! ولا يمكن للحياة أن تنهض بفكر ميت، كما لن نستطيع بحال أخذ الطاقة من فكر يغتال كل طاقة. النموذج الجديد هو الذي يتعرف على أسرار فعالية الغرب ليس من (مقابر) التخصص المهني، كما لن يستحوذ عليها من خلال (مزابل) التحلل الأخلاقي، كما تتحلل مخلفات الطعام في المزبلة. الأول يرى الحضارة في بعد واحد، والثاني يراها في تطليق القيم، والحضارة ليست هذا ولاذاك، إنها ضفيرة من الأشياء، ولكن عمودها الفقري مجموعة قيم.

التحدي الأكبر ليس في اللحاق بل التجاوز
إن المأزق الحضاري الذي يواجه العقلية العربية الإسلامية مزدوج التحدي، فهو ليس فقط عدم إنتاج (كوبي) حضارية، بل تجل إبداعي مختلف، لابد فيه من المرور بالمحطات الفكرية والتعرف عليها حتى يمكن تجاوزها، بمعنى إن الذي يريد أن يتقدم بعلاج مناسب لمرض الإيدز، يجب أن يلم بكل تقنيات المعالجة، حتى يستطيع الالتفات عليها وتجاوزها وإبداع ما هو خير منها جميعا، والذي يريد أن يتقدم بفكر راق إنساني لابد له من المرور بدروب المعاناة الفكرية كلها وهضم ما مر، كي يستطيع التفوق والتقدم بما هو أفضل، والإمام أبو حامد الغزالي له كلام جميل في هذا الصدد، في كتابه «المنقذ من الضلال»، عندما افترض أنه حتى يمكن أن يرد على أي مدرسة فكرية، لابد لصاحبها من خوض العلم حتى نهايته، ثم الزيادة فيه حتى يمكن أن يرد بغير حماقة ولا تهور، وهو الذي طبقه عمليا الغزالي في ردوده على المناطقة والفلاسفة والمتكلمين وأهل الباطن وسواهم من الفرق.
وأتذكر عندما كنت في شمال ألمانيا جرت محادثة بيني وبين البروفسور (بوركهارت)، الذي كنت أعمل عنده، وكانت مفاجأة له أنني تكلمت في القضايا الفلسفية خارج النطاق المهني، قلت له: «إن مهمتنا هي في تجاوزكم وليس اللحاق بكم!»، ابتسم وقال: «هذا شيء طيب، ولكن لا أظن أنكم ستنجزون هذا في جيلنا الحالي». قلت له: «هذا حق، ولكن دورات الحضارة شيء آخر، وأنصحك بقراءة كتاب لفيلسوف ألماني، (وهنا حدق في عندما سمع ألماني) اسمه أوسفالد شبنغلر (Oswald Spengler)، الذي كتب عن تدهور الغرب». ولا يعني هذا أن الذي سيصعد سيكون العالم العربي، ولكن الحقيقة الخالدة تقول، إن كل ما في الوجود من مخلوقات يخضع للقانون الرباعي: الولادة والنمو، ثم الانحلال والفناء، ولن يخرج الغرب عن هذا القانون.
وحين حصلت ضجة الاستنساخ في الخلائق، كان تعليقي أن الاستنساخ ليس خلقا ولا بعثا! فهو ليس خلقا للإنسان، كما يأتي في بعض التعبيرات، عن يوم الخلق الثامن، فالخلق والأمر لله، كما أنه ليس بعث الإنسان في قيامة قبل القيامة، ولكنه تقدم علمي عادي، لأن الكون مركب على قاعدة (يزيد في الخلق ما يشاء)، وقاعدة (ويخلق ما لا تعلمون)، وكل هول الصدمة سببه أننا لا نشارك في العلم، فتيار العلم اليوم مثل الرياح الموسمية غربي شمالي، والصقيع الفكري عندنا جنوبي شرقي، في صورة مقلوبة جدا لمناخ العالم. فنحن لا نشارك في العلم وصناعته، لأننا لم نصنع العالم الحالي، والذي يفهم العالم يتسخر له، والذي لا يفهم يتحول إلى عالم المسخرات.
لن تراعوا
جاء في السيرة أن أهل المدينة استيقظوا في إحدى الليالي على أصوات نكرة وجلبة شديدة، فأصيبوا بالذعر، ولكنهم عندما بدؤوا يفتحون أبوابهم لمعرفة الخبر، رأوا رسول الله (ص) وهو راجع إليهم على ظهر فرس، يقول لهم: «لن تراعوا».. وحول كل ضجة علمية نحتاج من يستطلع الخبر ليهدئ روع المسلمين.

قصة العالم والأمير
نحن باختصار غائبون عن العالم الذي نعيش فيه، بل نحن مرعوبون والرعب مصدره الجهل، كما يروى عن العالم الذي أراد أن يشرح للأمير الفرق بين العلم والجهل، وأن الأول يورث الطمأنينة والثقة والإيجابية والنشاط، والثاني يورث الرعب والارتباك وقباحة التصرفات، فأخبر الأمير أنه في جلسته المعتادة ليلا، سوف يرمي من على السطح إلى الأرض بأواني نحاسية ثقيلة الوزن، فلما هدأ القوم في المجلس فشربوا وأكلوا وارتخوا وطاب المجلس؛ عمد العالم فألقى بالقدور النحاسية دفعة واحدة، فكان لها صوت مجلجل عظيم في هدوء الليل، فارتعب الناس وقاموا يتدافعون؛ وكاد أن يقتل بعضهم بعضا وطئا من شدة الرعب.
الوحيد الذي لم يضطرب ولم يتحرك من مجلسه هو الأمير الذي كان يراقب رعب القوم بابتسامة هادئة، والعالم المتفرج من فوق السطح.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى