الرأي

ملصقات إشهارية على الأسوار

روى لي مسؤول حكومي أنه كان برفقة الملك الراحل الحسن الثاني لمَّا يروق له القيام بجولة عبر شوارع المدن، إذ تخلو من المارة والازدحام. فتوقف أمام أسوار مدينة سلا المحاذية للطريق الرئيسية، في اتجاه القنيطرة وفاس والرباط.. بعد أن لفت انتباهه ملصق بنشاط ثقافي علق على السور، إلى جانب إحدى البوابات.
تصور الوزير أنه سيأمره بنزعه، أو أنه سيستفسره في أقل تقدير عن الجهة المنظمة لذاك النشاط. بلع ريقه لما تيقن أن الإعلان لا يتحدث عن تظاهرة سياسية. وحكى للملك الحسن الثاني أن أهل سلا أرادوا إقامة ساحة إلى جانب الأسوار الخارجية، تكون أشبه بساحة جامع الفنا. فالمدن العتيقة تلتقي عند تضاريس التقاليد، بخاصة تلك التي تنشد الفرجة والترفيه وطقوس النزهة، أيام حلول فصل الربيع.
سأل الحسن الثاني عن رئيس بلدية سلا الذي لم يكن سوى الدكتور أحمد بلحاج. وأمر الوزير بتنبيهه إلى انتهاك قانون الملصقات الذي يحظر تعليقها على الأسوار التاريخية والمحلات الأثرية في المدن العتيقة. وزاد بأن محيط المساجد وفضاءاتها لا يجب أن يتحولا إلى إلصاق علامات دعائية وإشهارية، كيفما كان نوع المنتوج. فقد كان تنظيم قطاع الإشهار عبر الملصقات والإعلانات في الشوارع من اختصاص الجماعات المحلية.
حدثني رئيس البلدية أحمد بلحاج فقال إنه فوجئ بمكالمة هاتفية من وزير الداخلية في ساعة متأخرة من الليل، يسأله إن كان يعرف ماذا يجري خارج أسوار المدينة. كانت علاقات الرجلين لا تخلو من احترام، في ضوء المكانة العلمية والأكاديمية للدكتور الذي كتب عن تاريخ الأحزاب السياسية في المغرب. لذلك فقد وضعه الوزير في صورة ما حدث ونبهه إلى عدم تكرار العملية نفسها. ثم كان أن تظاهرة السلاويين خارج الأسوار، استحالت إلى أثر بعد عين. فلكل مدينة خصائصها، وإن كان القاسم المشترك لدى المدن العريقة أن أشكال الفرجة تلتئم خارج الأسوار، أو غير بعيد عنها، كونها من مظاهر الانفتاح وعدم الانغلاق، منذ أن كان فن الحلقة والطقوس الاستعراضية البسيطة يجسدان الرواية الشفوية التي تتناقلها الألسن عبر السماع والنظر.
وما انفكت الإشارات تستحضر طقوس تلك الروايات التي تتحدث عن البطولات والخوارق والتبشير بدروب السعادة التي يلهث الجميع وراءها. فقد استبدلت الملصقات صورة البراح الذي يزف إلى الناس الأنباء المفرحة والمقرحة. وعوض الراديو والتلفزيون مشاهير الحلقة وفن الرواية الشفوية، بأن أدخلها إلى البيوت من دون عناء. ثم جاءت ثورة الاتصالات الهادرة التي سابقت غرف الإذاعة والتلفزيون ووكالات الأنباء بالصوت والصورة والتعليق الذي أفسح المجال أمام كل من يأنس في نفسه أن له رأيا أو فكرة يشرك فيها المتلقين ويبادلهم ما يجول في الخاطر، بلا رقابة أو تحفظ باديين.
في كل ظرف تتغير وسائل وفضاءات الإشهار يثار الجدل بشأن الاختصاصات، لا سيما إذا تعلق الأمر باللوحات عند مداخل المدن وعلى امتدادات الطريق السيار، خصوصا وأن مقاطع الطرقات تكون تابعة لأكثر من جماعة قروية أو مراكز حضرية. وكما أسعار الإعلانات ترتفع عند فترات ذروة المشاهدة والاستماع، كذلك هي الطرقات والشوارع، باستثناء فضاءات المدن العتيقة.
ويرتدي الموضوع طابعا محتدما عندما ينسحب على الملصقات الانتخابية التي تستغل الأماكن الدينية أو الأسوار التاريخية أو فضاءات يحظر فيها الترويج عبر الملصقات. وليس أكثر قربا من طرق الأبواب وجها لوجه، وهي ميزة لا تتأتى إلا لمن يوجدون على رأس القوائم. وسينحو عالم الملصقات الإشهارية في غير الحملات الانتخابية إلى إبرام اتفاقيات مع الجماعات المحلية تحدد الرسوم والعائدات.
ليست الملصقات الإشهارية ووسائل الحملات الدعائية لمختلف المنتوجات القابلة للاستهلاك المادي والفكري، ما يثير الجدل. فكل المواد الإعلامية الموجهة للترفيه والتثقيف والتأثير تخلف الزوابع، خصوصا حين تكون من قبيل المستجدات التي يمليها تطور المجتمعات وانفتاحها. من يذكر الجدل الذي تصاعد حول فرض رسوم سنوية على الصحون الهوائية لالتقاط برامج فضائيات أجنبية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، لابد أن يتبين فواصل الأزمان.
لم تكن الغاية من فرض تلك الرسوم ترفيع مداخيل الموازنة المالية، بل الحد من تزايد الظاهرة التي بدأت باكتشاف «تي. في. 5» وقنوات إسبانية وإيطالية، في انتظار انتشار فيروس العدوى إلى الفضائيات العربية. وحدث أن قرارات صدرت في آخر لحظة تقضي بإلغاء تلك الرسوم، لأنها تناقض الحق في انفتاح المغاربة على العولمة الإعلامية القادمة عبر الصحون المثبتة. ثم تطورت الأوضاع إلى ما هو خارج عن السيطرة، عندما أجاز الأمريكيون استخدام ثورة الاتصالات عبر الإنترنت التي كانت تقتصر على الجيوش والمراكز الحساسة. ولم يعد في الإمكان فرض رسوم أو إقامة حواجز أمام موجة الانتشار التي تخطت كل الحواجز.
منذ سنوات انفتح رواق باب الرواح في الرباط على معارض الفنون التشكيلية، ومثله استضافت أسوار باب الماكينة في فاس عروضا فنية ساحرة. لكن تجربة قصر البديع في مراكش صمدت أكثر، ثم انضاف إليها تخصيص ركن لمعارض تشكيلية. وبهذه الطريقة، أي الاستفادة من المواقع الأثرية لاستحداث أنشطة ثقافية، يمكن القفز على قرارات حظر الملصقات، طالما أنها بلا أهداف تجارية محضة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى